هيئة الخدمات البيطرية تُلقي بسم مُحرم دوليا في الشوارع
كان صباحٌ يليق بمنتصف نوفمبر 2014، غيوم كثيفة ورياح باردة توحي أن شتاء هذا العام سيكون قاسيا. في الثامنة والنصف يخرج شهاب وزوجته الألمانية لشراء بعض مستلزمات البيت، يستوقف أنظارهم كومة من أجنحة الدجاج المبعثرة أمام منزلهم في حي الرحاب - إحدى الأحياء الجديدة الراقية غرب القاهرة.
”كان لها لون أزرق داكن“، يقول شهاب، في لحظات كانا يجمعان قطع الدجاج لوضعها في صندوق القمامة، عامل نظافة خمسيني اقترب منهما بخطوات ثقيلة محذرا ”الفراخ دي مسمومة خلوا بالكم“، تحذيرٌ جاء متاخرا.
في غضون دقائق، انتابت ”سارة لوف“ الزوجة الألمانية، نوبة تشنجات عصبية أعقبها إسهال وقيء، ”في المستشفى أخبروني أنها أصيبت بتسمم، لم تكن نتيجته تلك الأعراض فحسب“ يتابع شهاب، ”كنت وسارة ننتظر مولودا في شهره الثالث، وأجهضت“.
في الليلة التالية، شاهد شهاب سيارة تابعة للحي تقوم بإلقاء أطعمة إلى جوار منزله، العمال المصاحبين للسيارة أخبروه حين استوقفهم أنهم يلقون أطعمة ممزوجة بمواد سامة من أجل إبادة الكلاب الضالة، بعد أيام امتلأت شوارع الحي الراقي بعشرات الجثث للكلاب النافقة، ومن بعدها تُثار القضية على وسائل التواصل الاجتماعي لتعرف آنذاك باسم "مذبحة الرحاب".
قصة شهاب وزوجته لم تكن سوى بداية للخيط، فعلى مدار ثلاثة أشهر من التقصي، كشف هذا التحقيق أن الهيئة العامة للخدمات البيطرية ما تزال تستخدم سم محظورا دوليا، وبشكل عشوائي، بهدف قتل الكلاب الضالة، ما نتج عنه إصابة مواطنين وجامعي القمامة بتسمم حاد وفوري عبر استنشاق وملامسة هذا السم، ما عرّض حياتهم وذويهم للخطر، علاوة على قتل مئات الحيوانات بشكل غير رحيم.
حملات مكافحة الكلاب الضالة بدأت في مصر منذ ستينيات القرن الماضي باستخدام بنادق الخرطوش، وتوقفت بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير نظرا للأوضاع الأمنية التي صاحبتها، وفقا لمركز المعلومات التابع لوزارة التنمية المحلية.
البيانات الصادرة عن الهيئة العامة للخدمات البيطرية تقول إن عدد المواطنين الذين تعرضوا للعقر من الكلاب الضالة في مصر خلال السنوات الأربع الأخيرة، وصلت إلى 31 ألف حالة، نتج عنها 200 حالة وفاة، من بينها 70 وفاة في عام 2016 و54 وفاة خلال النصف الأول فقط من عام 2017.
ضحايا على هامش الحملات
قصة شهاب وزوجته ليست الوحيدة، ففي مساء الحادي عشر من فبراير من عام 2016، استقل مجموعة من رجال الطب البيطري بمحافظة الجيزة سيارة تحمل لوحتها المعدنية رقم "9723" ليمارسوا مهمتهم المعتادة في توزيع اللحوم المحشوة بالسم، في تلك الليلة بدا أن هناك أمرا مختلفا، ثمة شاب عشريني لم تعجبه تلك الطريقة في إعدام الكلاب، حاول ذاك الشاب التصدي للقتل الممنهج الذي يتبعه رجال الطب البيطري، وفيما يحتدم النقاش بين الطرفين، سقطت قطعة من الطعام المسموم فوق يد الشاب محمود منير، ويبدو أن رجال الطب البيطري أدركوا مبكرا ما سيحدث، فهربوا بالسيارة دون أن يتموا مهمتهم.
من الحكة والزرقة إلى الهياج العصبي والتشنجات، بدت أعراض التسمم تظهر على ذراع محمود، لم يستطع الصيدلي المجاور لمنزله إسعافه، فتوجه إلى مستشفى الدمرداش، كانت التقلصات تزداد بوتيرة متسارعة، ما استدعى وضعه تحت الملاحظة لليلة كاملة، بعدها حرر محمود منير محضرا (رقم1005 لسنة 2016 إداري العجوزة) لإثبات الواقعة، ومن وقتها عكف على تتبع حملات الهيئة البيطرية التي تنطلق في الأربعاء من كل أسبوع، في ساعات غير منتظمة، حتى يقوم بلملمة السم مرتديا جوانتي بلاستيكي، في محاولة منه لإنقاذ من أسماهم ”ضحايا تلك الحملات المسعورة من الكلاب والبشر“.
سم الاستركنين الذي تلجأ إليه الهيئة البيطرية التابعة لوزارة الزراعة هو عبارة عن مادة قلوية يتم تحضيرها من بذور نبات ”جوز الهند“. تقول الطبيبة البيطرية حنان قرني إنه كان يستخدم كمبيد للقضاء على الآفات والحشرات الضارة والفئران التي تعيش تحت التربة، عبر وضعه في حفر يتراوح عمقها 10 سنتيمترات، وهو ما يخالف - بحسب الطبيبة - للكيفية التي يستخدمها أطباء وعمال الهيئة البيطرية في حملات الكلاب الضالة، تقول حنان ”يتم إحضار أحشاء الدجاج ومضبوطات اللحوم الفاسدة وخلطها مع الاستركنين القاتل، وإلقائها في الشارع بشكل عشوائي".
السم محرم دوليا
تستند الهيئة البيطرية في مصر التي تستخدم سم الاستركنين لقتل الكلاب الضالة، إلى القانون رقم 53 لسنة 1966 والذي ينص على وجوب ضبط وإعدام الكلاب عبر الخرطوش أو السموم، في حال عدم تكميمها وتقييدها بزمام أثناء سيرها في الطرق والأماكن العامة.
غير أنه وبمزيد من البحث، تبين أن الولايات المتحدة حظرت استخدام مادة الاستركنين كمبيد حشري منذ عام 1989، وذلك نظرا لكونه شديد السمية لمعظم الحيوانات الأليفة، وبحسب الجمعية الأمريكية لمنع القسوة ضد الحيوان، فإن ملليميترين فقط من هذه المادة كافية لقتل قطة، و5 ملليمترات منه لقتل كلب أو ماشية.
ورقة بحثية أعدها قسم الموارد الطبيعية بجامعة ميتشجان الأمريكية، كشفت أن الاستركنين علاوة على كونه سم قوي لجميع الحيوانات إلا أن تأثيره يمتد للبشر أيضا عبر الامتصاص الجلدي السريع أو البلع، كما أن استنشاقه قد يسبب الوفاة، لذا كان من الضروري أن نرصد آلية استخدام هذا السم القاتل للإنسان والحيوان على حد سواء من قبل القائمين على حملات مكافحة الكلاب الضالة.
القتل البطيء
البداية كانت بمراقبة معدة التحقيق لثلاث حملات لوضع السم في 3 مناطق متفرقة بالقاهرة الكبرى عن بُعد، مصدر مطلع داخل "الهيئة العامة للخدمات البيطرية" أخبرنا بمواعيد ومسارات الحملات التي انطلقت إلى أحياء الدقي والزمالك والمهندسين، تشابهت المشاهد في يوم واحد بمنطقتي المهندسين والدقي، بينما اختلفت المواقيت، في الرابعة عصر الأربعاء، 17 مايو الماضي، شاهدنا "سيارة السم" التابعة لحي العجوزة، تسير ببطء بشارع وادي النيل، مستهدفة عدة شوارع جانبية، ليهبط منها رجلان، يرتدي أحدهما قفازا بلاستيكيا ويحمل كيسا به الطعوم المسمومة، ليبدأ في نثرها أمام بوابات العقارات بشكل عشوائي، فيما اكتفى زميله بالمشاهدة، مهمة لم تستغرق أكثر من ساعة.
في حي الدقي بينما بدت الأمور أكثر صعوبة، في العاشرة من مساء اليوم نفسه، رصدنا سيارة أخرى تحمل اسم الحي، بإحدى الشوارع الجانبية المتفرعة من شارع التحرير، فور ما بدأ ثلاثة عمال، أحدهم المنوط بإلقاء السم، مهتهم حتى استوقفهم مجموعة من الأهالي ليستفسروا عن ماهية ما يفعلون، وكادت أن تنشب مشاجرة لولا أن أسرع العمال إلى السيارة التي حملتهم وانطلقت في ثوان.
على العكس تماما من مهتهم في منطقة الزمالك، إذ استطاعت الحملة ذاتها من التخلص من حمولة الطعوم المسممة التي بحوزتهم في غضون ساعتين دون أن يعترضهم أحد، على الرغم من أن الحي الراقي بدا حينها شبه خاليا من الكلاب الضالة، لتستقر اللحوم المحشوة بالسم أمام البنايات وتحت السيارات المصطفة في الظهيرة.
حملة في منتصف الليل
الخطوة التالية كانت معايشة حملة لمكافحة الكلاب الضالة في حي المنتزه ثان بالإسكندرية، وجَرَى توثيقها بالصوت والصورة.
بدأت القصة حين أعلنت إدارة الحي على صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي ”فيسبوك“ عن خروج حملة أسبوعية للقضاء على الكلاب الضالة بعد تزايد الشكاوى من المواطنين.
الرحلة الأولى كانت في الثانية بعد منتصف ليل التاسع من مايو 2017، برفقة حملة من حي المنتزه ثان وبموافقة رئيس الحي، تحت إشراف الطب البيطري مكونة من مفتش بإدارة الرصد البيئي، وطبيب بيطري، وعاملين.
المفتش اسمه جابر إسماعيل، انطلق بسيارته الخاصة ومن خلفه سيارة نصف نقل بيضاء مدون عليها اسم الحي، لمقابلة الطبيب البيطري في حي المندرة، حيث ستقوم الحملة بمهمتها في تلك الليلة.
وصل الطبيب بخطوات متثاقلة وبَدَا النعاس ظاهرا على عينيه، أربعيني نحيل يرتدي قميصا أخضر مجعدا، وبنطالا من القماش، يعلو وجهه نظارة طبية، اقترب وهو يحمل بين يديه صندوق كرتوني صغير مربع الشكل، بداخله 60 قطعة من الطعوم المسممة. بدأ الطبيب حديثه معنا مطالبا عدم الكشف عن هويته، خوفا من ردة فعل مناصري حقوق الحيوان، وقال بلهجة شاكية: "قالولي هتروح من ربنا فين، واتهموني إني سفاح".
إلا أن المفتش "إسماعيل" كان له رأي آخر، فاعتبر أن التخلص من الكلاب الضالة من صميم عمله، متعجبا: "لو هو غلط، هيشغلونا ليه!". ووسط هذا النقاش المحتدم، استلم "إلهامي" شاب عشريني أسمر البشرة، صندوق السم، مرتديا قفازا بلاستيكيا واحدا في يده اليمنى، وبدأ يمارس مهام عمله المعتاد، بإلقاء كرات اللحم المخلوطة بالسم إلى جوار الجدران وفوق الأرصفة.
كلما التفت الكلاب الجائعة حول إلهامي، ارتجفت يداه، وسارع في إلقاء الطعوم نحو أهداف لم تصاب، وتراجعت قدماه نحو الخلف، حتى توقف هو وفريق الحملة ليتابعوا عيون إحدى الكلاب الزائغة، بعد أن بدت على جسدها ارتجافات عنيفة، وانتابتها حالة من القيء والإسهال، ومن ثم انزوت إلى جانب أحد الأرصفة، لتلفظ أنفاسها الأخيرة في دقائق.
كانت أكوام القمامة المكدسة بشوارع دوران المندرة الجانبية، أهدافا مهمة للقائمين على الحملة، ظنًا منهم أنها مأوى مثالي للكلاب الضالة، حتى وإن لم تكن تحوي أي منهم في ذلك الحين. لم يستوقف إلهامي مشهد رجل ثلاثيني رث الثياب، له جسد نحيل ووجه طبعت الشمس بصمتها كاملة على ملامحه، راح ذاك الرجل، الذي بدا وكأنَّه جامع قمامة، يمد يده داخل الأكوام يلتقط رزقه، أو يحذره من أن يمسه السم.
مع اقتراب الفجر، قرر إلهامي إلقاء ما تبقى من طعوم من نافذة المركبة السائرة، كلما شاهد كلبا، وفي داخل سيارة الحي كانت رائحة السم الحارة تخترق الأنوف والعيون، فيغلب عليهم الإحمرار، ليشكو العامل:"طبعا صدري تعبني من السم"، لكن ليس لعامل باليومية وجهة نظر فيما يفعل وتابع متهكما "ده حتى الدكتور سلّم كل واحد مننا جوانتي واحد مش اتنين رغم إن السم ده قاتل".
إجراءات السلامة المهنية، بحسب الطبيبة بالهيئة العامة للخدمات البيطرية، حنان قرني، تُحَتِّم ارتداء طبقتين من القفاز البلاستيكي في كل يد، وتغطية الأنف والفم بكمامة، تحسبا لنفاذ السم إلى الأغشية المخاطية.
في منتصف مايو، استيقظ حارس عقار في حى الدقي مفزوعا على صوت إحدى السكان وهي تصرخ "إلحق بيسموا الكلاب". انتفض "حسام" الثلاثيني وخرج مهرولا إلى الشارع، ثمة كلب اعتاد أن يقتسم معه بقايا طعامه يوميا يلتقم بنهم طعام آخر، يقدمه له هذه المرة "عامل السم" في الحملة، يقول حسام متحسرا: "حاولت اللحاق بالعامل لكنه قفز إلى صندوق السيارة وفروا من أمامي، لو أمسكت به لأطعمته هذا السم بدلاً من الكلاب".
في دقائق تكوَّم الكلب تحت قدميه متلويا، وبعدها أزبد فمه، وصمت إلى الأبد "كان يصدر أنينا مكتوما من الألم، لم أملك أن أفعل له أي شيء سوى تمرير يدي على رأسه حتى أغمض عينه واستراح".
ترتفع نبرة حديثه فجأة وكأنما يستعيد المشهد ثانية: "جريت أجمع السم لأحمي باقي الكلاب"، اندفع حسام "السوهاجي" في جمع قطع الدجاج المنثورة من جنبات الشارع بيديه، ظنا منه أنه بذلك يرفع الأذى عن كائنات ليس لها أي ذنب، ولم يكتف الثلاثيني النحيل بذلك وحسب، بل همَّ بحرق الطعوم المسممة داخل صندوق كرتوني حتى لا تنهال عليها الكلاب الجائعة، إلا أنَّه لم يكن يعلم أنَّ الأدخنة المنبعثة من ألسنة اللهب المتطايرة مُتخَمَة بالسُم.
دقائق قليلة كانت كافية ليخترق السم جسد حسام باللمس والاستنشاق، سرعان ما تملكت جسده رعشة خفيفة تحولت مع الوقت إلى تشنجات عصبية عنيفة، انتقل الألم تدريجيا إلى أمعائه، ليقضي ليلة كاملة ما بين تقيؤ وإسهال. في الصباح توجه إلى عيادة خاصة في حي العجوزة، حيث قام الطبيب بمعالجته من حالة التسمم التي أصابته.
الرئيس السابق للمركز القومي للسموم، محمود عمر قال إنه لا يوجد أي معمل تحاليل في مصر يستطيع أن يكشف عن وجود مادة الاستركنين في الدم، لكونه غير مدرج بقائمة السموم المعتمدة في مصر، ما يعني أن حسام كان محظوظا في التعافي من حالة التسمم بسرعة.
يؤكد عمر أن تأثير الاستركنين على الإنسان هو نفسه على الكلاب إلا أن الأعراض تختلف لأنها تتأثر حسب الوزن وكتلة العضلات.
بحسب عمر فإن "الجرعة المُلقاة لكلب ربما لا تقتل إنسان، لكنها كفيلة بإصابته بأعراض تسمم حادة، وذلك باختراق مسام الجلد، ليشق السم طريقه عبر الدم متجها نحو الجهاز الهضمي".
ضحايا محتملون
لم يكن حسام هو عامل النظافة الوحيد الذي أصيب من جراء ملامسة هذا السم، استبيان أجرته معدة التحقيق مع 50 فرد من عمال النظافة بمناطق المهندسين والدقي والهرم والزمالك على مدار ثلاثة أشهر، لمعرفة مدى درايتهم بالتعامل مع السم، وإذا ما كانت طالتهم أعراضه، أوضح أن أغلبهم لا يعرفون بحملات إبادة الكلاب الضالة عبر السم، وأن جميعهم لم يمر عليهم أي حملات توعية من الأحياء أو الهيئة العامة للخدمات البيطرية بخطورته، كما لم يسلم أغلبهم من أعراض التسمم ابتداء من القيء والإسهال، مرورا بالتشنجات العصبية، وحتى تقلصات الجهاز الهضمي وآلام الجهاز التنفسي.
في حي الشيخ زايد، التابع لمدينة السادس من أكتوبر، كادت سيدة ثلاثينية تدعى سناء أن تفقد حياتها، عندما حاولت التصدي لموزعي السم في إحدى الحدائق التي اعتادت صغيرتها اللعب فيها.
الحكاية كما ترويها سناء، كانت في بداية يونيو 2017، سيارة مألوفة تحمل لوحات معدنية حكومية، تجوب شوارع الحي الهاديء وتلقي قطع الدجاج بشكل عشوائي، هذه المرة تَقدَّم العمال تجاه حديقة يلعب بها الأطفال، ونثروا السم في كل مكان وهمَّوا بالانصراف.
كانت تعرف جيدا ماذا يفعلون، على الفور تحركت لتجمع كل ما نثروه، لم تجد حقيبة بلاستيكية، فكانت تضعهم داخل ملابسها، "لم ألتفت إلى الدماء أو رائحة الدجاج العفنة، فقط كنت أحاول إنقاذ صغيرتي والأطفال الآخرين".
هنا التفت إليها "عمال السم"، هرولوا إلى السيدة التي تُفسد عملهم، اشتعل الشجار وارتفعت الأصوات، "للحظة شعرت أنني أنا المخطئة وليس هم، هددوني بتحرير محضر ضدي في الشرطة واتهامي بتعطيل عمل موظف حكومي، قالوا لي لا تجعلي طفلتك تلعب هنا"، تقول سناء.
لم يفض الشجار سوى نوبة التشنجات التي أصابتها، هرب العمال، وتكفل "فاعلو خير" بنقلها إلى مستشفى الشيخ زايد للحصول على الإسعافات أولا وتقرير طبي ثانيا، غير أن الحالة ازدادت سوءًا، ما جعل المستشفى ترفض استقبالها، وتعيد توجيهها نحو معهد السموم التابع للقصر العيني حيث قضت ليلتها قيد الملاحظة.
بسلام خرجت سناء من المستشفى، غير أنها لم تستطع الحصول على تقرير طبي يوثق حالتها لأنه وبحسب الأطباء لا توجد معامل في مصر مجهزة للكشف عن هذا السم في الدم.
في مكالمة هاتفية مع رئيس الهيئة العامة للخدمات البيطرية اللواء إبراهيم محروس، لم ينكر أن ملامسة أو استنشاق مادة الاستركنين تسبب ظهور أعراض التسمم "لكنها لن تصل إلى الموت"، هكذا يؤكد.
يقول أيضا إن تكثيف حملات الإبادة ناتجة عن الشكاوى والبلاغات التي تتلقاها الهيئة جراء انتشار الكلاب الضالة، ولافتا "إحنا بنستخدم السم لإن مفيش بديل عنه.. إحنا مش غاويين قتل كلاب".
ولكن هل فعلا يوجد بديل لهذا السم؟ وكم تَتَكلَّف خزينة الدولة للتصدي للكلاب الضالة بهذه الطريقة؟
الهيئة العامة للخدمات البيطرية في مصر قررت أن تنتهج الطريق الأصعب لمكافحة الكلاب الضالة، تقول الأرقام إن مصر تستورد سنويا من الهند 100 طن سنويا من سم الاستركنين، عبر مناقصات علنية، يصل سعر الكيلوجرام الواحد من تلك المادة 500 دولار، أي ما يعادل 9 آلاف جنيه مصري.
ووفقا لمركز المعلومات التابع لوزارة التنمية المحلية، فإن مصر أنفقت 850 مليون جنيه في السنوات الثلاث الأخيرة لشراء سم الاستركنين من الهند وأمصال علاج السُعَار.
البدائل في متناول الدول النامية
لا تنكر رئيسة الجمعية المصرية لحقوق الحيوان أمينة أباظة، الهلع الذي يصيب الأطفال والمواطنين من الكلاب الضالة، إلا أنها لا تشكل خطر كبيرا، من وجهة نظرها، خاصة وأن منظمة الصحة العالمية لا تسجل أي حالة سعار في مصر، وبالتالي لا يستدعي أبدا هذا الكم من الإنفاق الذي يمكن توجيهه إلى طرق بديلة أكثر أمنا وفاعلية.
تعمل أباظة على إنشاء دور إيواء للحيوانات الضالة، أو تعقيم (إخصاء) الكلاب، وهو ما يستطيع أن يساهم في تكلفته النشطاء المهتمين بالحيوانات وبعض المنظمات الأهلية، تقول أباظة "حتى وإن كان لابد التخلص منها، فليكن بانتهاج أحد أساليب الموت الرحيم".
أثبتت منظمة الصحة العالمية بمشروع تجريبي في الفلبين وجنوب أفريقيا وتنزانيا، بأن البديل الفعال لقتل الكلاب الضالة هو التطعيم الجماعي، وهو ما جعلنا نرصد تجارب بعض الدول لحل الأزمة بدون قتلهم، في الخريطة التفاعلية التالية.
أما رئيس الهيئة العامة للخدمات البيطرية، اللواء إبراهيم محروس، فيرى أن استخدام تلك البدائل التطعيمات والإخصاء أمر بالغ الصعوبة، وبالتالي فإن الخيار الأمثل من وجهة نظره هو استخدام السم المحظور دوليا، معتمدا في ذلك على التصريح الذي منحته إياه لجنة تنسيقية أعدها الطب البيطري، والتي أعلنت عدم وجود آثار بيئية أو صحية تترتب على استخدام هذا السم، ما دام يتم تحت إشراف طبي.
أما بخصوص عدم التزام العمال بشروط السلامة المهنية، فعقب اللواء محروس قائلا: "ممكن مابيلتزموش وهمَّا بيحُطُّوا السُّم، بس بيلتَزِموا وهمَّا بيحضَّروا الطعام المسموم".
في دول مماثلة، تضع الحكومات ألف حساب وحساب لما يُسمَّي "المخاطر المحتملة على صحة المواطنين"، وهنا، تنفق مصر التي يقبع اقتصادها في وضع حرج منذ سنوات، ما يقارب مليار جنيه من أجل استيراد سم محظور دوليا. ترفض الهيئات المسؤولة التقارير التي أجرتها كبرى الجامعات والمختبرات التي تطلق التحذيرات، وتعتمد "تنسيقية الطب البيطري". لا يهم كم من المواطنين والأطفال أصيبوا بالتسمم أو رحلوا بينما يوزع عمال "الهيئة البيطرية" قطع الدجاج المسموم، المهم أن تُقتَّل الكلاب و"بلا رحمة"، لا يهم إن كان هناك طرق بديلة أكثر آمنا وأقل كلفة، ما يهم هو إنفاق الميزانية، وتوزيع السم بعدالة بين الكلاب والمواطنين أصحاب الحظ العثر.