بالفيديو والصور: لينة النابلسي.. فراشة أحلامنا تطل من جديد
كتب- أحمد الليثي:
في أرض طيبة نبتت "لينة"، زهرة تفوح في ربوع نابلس، فارعة الطول، متواضعة، ذكية، لماحة، متفوقة؛ الأولى على الضفة، تحوم الملاعب بقدها المياس، بطلة كرة السلة، تسابق وتحاور، تُجاري وتصيب الهدف، ترسم بأناملها لوحات مبهجة عن ربيع فلسطين المنتظر، بشعر يرفرف على خشبة المسرح تُبهر العيون، بحركاتها اللافتة كفراشة، تتقن الإنجليزية، تُشخص جولييت في أبهى صورة، حدث المدينة وسيرتها الناعمة، بنت 17 الدؤوبة النشيطة.. ها هي ترقد في بركة دماء وسط نحيب الأحبة، بعد اغتيال متعمد من جنود الاحتلال الإسرائيلي، فيما كانت بسمتها طاقة أمل لا تخبو، رحلت وأشعلت وهج الثورة في نفوس أهل نابلس، فأضحت كل مولودة تحمل الاسم ذاته "لينة النابلسي".
في صباح اليوم التالي للذكرى الـ27 لنكبة فلسطين، كانت "لينة النابلسي" تعد حقيبة ظهرها للذهاب إلى مدرسة العائشية الثانوية للبنات، أصوات الرصاص تتعالى، ورائحة الغاز تزكم الأنوف، هتافات المقاومين ترج الجدران والأم تناشد الصبية "بلاش النهاردة دراسة.. كفانا"، غير أن "لينة" تضحك من خلف عويناتها الطبية وهي تنطلق "أنا راح أظل الأولى على المدرسة.. ودلوقتي في امتحانات"، فتحت باب المنزل ثم استدارت وهي تقول "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ"، قبل أن يُزف خبر استشهادها عقب ساعات "كانت أخر مرة تمسك فيه باب بيتنا" تقولها مها النابلسي الشقيقة الكبرى للشهيدة.
يد بيد كانت تسير طالبة الصف الثاني الثانوي برفقة صديقتها المقربة "شروق جعارة"، انتهى اليوم الدراسي فيما كانت الطرق تعج ببقايا الرصاص ورنين الحناجر الملتهبة، حاولت الفتاتان الهرب دون جدوى، فاتخذتا من ورشة حداد مخبأ، بقيتا دقائق، ومع الخروج مرة أخرى عاد الضرب.
داخل منزل متواضع بمنطقة الشيخ مسلم بنابلس وبالتحديد في الطابق الثاني كان المستقر، غير أن أعين المتربصين كان تلاحقهن، نظرة ثقة من الفتاتين تبعهما غل دفين خرج في صورة ثلاث طلقات متتابعة -من سلاح جندي إسرائيلي- استقرت في جسد "لينة": "التقرير قال رصاصتين في الوريد الأيمن للرقبة والثالثة أسفل صدرها من الناحية اليسرى"، فيما كان نصيب "شروق" السحل على الأرض جذبا من اليد -وسط هلع وصراخ مستمر؛ أقعدها على فراش المرض "قالوا سرطان في الغدد الليمفاوية"، حين زارتها شقيقة "لينة" في المستشفى تمتمت رفيقة الدرب بكلمات بسيطة "أنا هقابلها قريب لو بدك تقوليلها شي"، فيما لم تحتمل "شروق" لوعة الفراق، فلحقت بصديقتها في ذكرى الأربعين، حسبما تروي "مها النابلسي".
"حاولت قوى الاحتلال إخماد المظاهرات في نابلس فاستهدفت لينة.. لكن النار زادت ما خمدت" تحكي الشقيقة الكبرى للشهيدة التفاصيل التي أعقبت رحيلها؛ في 18 مايو 1975 قرر 5 فدائيين من الجبهة الشعبية بالثأر لـ"لينة" فتوجهوا صوب منطقة غور بالأردن حيث أحد معسكرات الجيش الإسرائيلي وتمكنوا من قتل 3 جنود صهاينة وجرح 6 أخرين، بينما استشهد ثلاثة من الجانب الفلسطيني -تم الإفراج عن جثامينهم قبل عامين فقط- وسميت العملية "لينة النابلسي".. بعد ستة أشهر من الحادث ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن المحكمة الإسرائيلية في منطقة الجنوب حكمت على الجندي رافي طوري –قاتل لينة- بالسجن أربعة اشهر مع إيقاف التنفيذ.
كانت "لينة" موهوبة في شتى المجالات، الرياضة والفن، الدراسة والشعر، تهوى جمع الطوابع والعملات، تحلم أن تصبح طبية في جراحة الأعصاب، تنعيها سحر شويكة مربية مدرسة الكرمل الإعدادية بكلمات رقراقة: "هي أمام ناظري على مقاعد الدراسة تكتب ولا تخطئ، من عيونها اللامعة وهيج الذكاء يشع وينطق؛ فإذا بها الفتاة الأولى في كل مكان تتصدره.. لينة طاقة لا حدود لها؛ علم وذوق وفن وأخلاق، خلية نحل متكاملة" قبل أن تضيف "لقد فتح الله بها باب الشهادة.. باب الخلود".
عقب الرحيل راحت "مها" تستكشف عالم خفي عن شقيقتها الصغرى، تعرف من زوجات الشهداء أنها كانت ضيفة دائمة عليهن؛ ترعاهن من مصروفها اليومي، تخفف أوجاعهن، تشارك في وقفات تضامنية واحتجاجات ضد الصلف الإسرائيلي، تقلب في أوراق مذكراتها فتجد شعرا جاء فيه "أطبقت عيني وتخيلت نفسي علما يرفرف في الآفاق بين خيوط الشمس"، لذا لم يكن مستغربا أن تضج نابلس بالمظاهرات؛ في شهادة رئيس بلدية نابلس -وقتها- "بسام الشكعة" أن الحاكم العسكري استجاب لمطالبات أهل نابلس بتشييع الشهيدة، بعدما أخلى الشوارع من الجنود الصهاينة، وأقام الطلاب إضرابا عن الدراسة حدادا على لينة قبل أن يوقفوه استجابة للمجلس البلدي الذي أخبرهم أن المقاومة تبدا بمسيرة "لينة الشهيدة المتفوقة وليس بالوقوف عن الدراسة والعمل"، فرضخوا للأمر وأعينهم تفيض بالدمع.
بات اسم "لينة" علما، يُزين حوائط نابلس العتيقة، يُكتب باسمها أروع القصائد، في ذكراها الأربعين يصنع شباب مصري "فيديو كليب" إهداء لروحها، لا زالت سيرتها العطرة تطوف بين الأروقة، يُرزق أهل الحي بصبية فيكون اسم الشهيدة من نصيبها، حتى صار اسم "لينة النابلسي" هو الأكثر على الإطلاق، فيما تيمنت بالاسم فرنسية متضامنة مع القضية الفلسطينية، في 1984 اعتلت زورق مطاطي في بيروت ونفذت عملية استشهادية ضد جيش الاحتلال.
لينة كانت طفلة تصنع غدها
لينة سقطت لكن دمها كان يغني
للجسد المصلوب الغاصب
للقدس ويافا وأريحا
للشجر الواقف في غزة
للنهر الهادر في الأردن
يا نبض الضفة لا تهدأ.. أعلنها ثورة
حطم قيدك.. أجعل لحمك جسر العودة
فليمسي وطني حرا.. فليرحل محتلي فليرحل.
من قصيدة نبض الضفة للشاعر حسن ضاهر، لحنها مارسيل خليفة وغناها المطرب اللبناني "أحمد قابور" وآخرون من بعده.
تابع باقي موضوعات الملف:
67 عاما على الاحتلال.. فلسطين تكسب الرهان "ملف خاص"
في أول حوار عربي.. أبرز مؤرخ يهودي مدافع عن فلسطين يتحدث لـ "مصراوي"
الاحتلال يسكن مع "ناصر" في شقة 70 مترًا
بالفيديو والصور: الشهيد "فارس عودة".. راقص الدبكة يحيا
بالصور: مرابطات الأقصى.. نساء تزلزل المحتل بـ"تكبيرة"
أهداف سويف.. رحلة بنت فلسطين المصرية "حوار"
بالفيديو.. كيف تدافع عن فلسطين بلغة الغرب؟
بالصور: هنادي.. "ابنة الشتات" ستمر يوما من "فلسطين"
بالفيديو والصور: "أبناء عيلبون" صورة مصغرة لمواجهة الاحتلال
بالفيديو والصور: حناجر "ريم" و"رلي" تحاصر "بارود الصهاينة"
بالصور: فريق "المسارات المقدسي".. في حضرة فلسطين التي غيّبها الاحتلال
بالصور: في غزة فقط.. مواجهة المحتل بـ''سجادة حمراء''
خالد يقاوم حصار غزة بـ"الفرن الشمسي".. الاحتلال أبو الاختراع
فيديو قد يعجبك: