المونتير العالمي حسين عفيفي.. "ساحر" الغرفة المُظلمة (حوار)1
حوار- علياء رفعت ومحمد مهدي:
تصوير- محمود أبو ديبة:
"سنذهب إلى الاستديو غدًا.. استعد"، ترددت الجملة في رأس الفتى الذي لم يتجاوز عمره الـ 19 عاما طوال الليل، منذ أن سمعها من المونتير الكبير بمصر "سعيد الشيخ". ظل محملقًا نحو سقف غرفته حتى الصباح، وفي الموعد المُحدد- صيف عام 1947- التقى صديقه وأُستاذه قُرب منزله بحلوان وانطلقا إلى استديو الأهرام بشارع الهرم.
في اللحظة التي وطأت قدماه المكان، رجفة سرت في جسده، اتسعت حدقتاه مدهوشًا بما يراه من حجم الاستديو؛ ضجيج العاملين في المكان، حركة الفنانين هنا وهناك، غرفة المكياج المبهرة، ورش الديكور، معامل التسجيل والطبع، وأخيرًا غرفة المونتاج المظلمة، والجلوس لساعات أمام "المفيولا"-أداة لعرض المشاهد المصورة لكي يقوم المونتير بتقطعيها للبدء في عملية المونتاج.
"حسيت لحظتها إني عايز أنتمي للحالة دي.. إن هنا مكاني" قالها حسين عفيفي، أحد أهم من عملوا في مجال المونتاج بتاريخ السينما المصرية، مر من بين يديه نحو 250 فيلما، من أبرزها "الرسالة" للمخرج مصطفى العقاد، فضلا عن العمل مع أهم المخرجين المصريين من بينهم "صلاح أبوسيف"، "حسن الإمام"، "حلمي رفلة"، "سعيد مرزوق"، "علي عبدالخالق".
قبل كل ذلك بسنوات قليلة، كان "عفيفي" طالبًا مجتهدًا بمدرسة حلوان الثانوية. هوايته الوحيدة التقاط الصور بكاميرا "كوداك"، وفي الإجازات يلتقي مجموعة من أصدقائه لسماع الموسيقى ومشاهدة الأفلام تحت إشراف "سعيد الشيخ" الذي يعمل بالسينما، لكنه يقتطع جزءً من وقته أسبوعيًا لتثقيف أبناء منطقته "أ. سعيد كان رئيس الكشافة في حلوان"، ثم ينتقي منهم الموهوبين لتعليمهم كيف يحترفون الفن "بقيت بروح معاه الاستديو.. في الأول بتفرج وبعدها بقيت أناوله لقطة، يعلمني حاجة بسيطة، وواحدة واحدة بقيت مساعده".
القطار وسيلة "عفيفي" للانتقال يوميًا من حلوان إلى الاستديو الذي يعمل به "الشيخ". مواعيده منضبطة، سريع البديهة في التَعلم، إيقاعه في العمل سريع، الشغف لا يفارق عيناه عندما ينظر إلى "المفيولا". تلقف المونتير الكبير موهبته واهتمامه، أعطاه ما تيسر من خبرته في المجال، وبالتدريج منحه مهام أكثر "أول أفلام اشتغلتها معاه كمساعد، كانت الستات عفاريت لحسن الإمام، وخاتم سليمان لحسن رمزي".
مع الوقت صارت وجهات النظر بين "الشيخ" وتلميذه متشابهة، لديهما حِس متقارب في فَهم طبيعة الأعمال الفنية التي يعملان على تنفيذها سويًا مثل"انت حبيبي ليوسف شاهين، تمر حنة لحسين فوزي، وغيرها لعاطف سالم وفطين وبركات وكمال الشيخ"، كما لم يبخل على "عفيفي" في مدحه علانية "مرة حلمي رفلة شكر في كام مشهد من فيلم كنا بنعملهوله.. فالأستاذ سعيد قاله دا شغل حسين". حينذاك قرر المونتير الشهير مكافئته "قالي اسمك مع اسمي في أي شغل جديد".
قضى"عفيفي" إحدى عشر عامًا مجاورًا لـ "الشيخ" كتفا لكتف في غرفة المونتاج. ثم اختار بعد ذلك شق طريقه وحيدًا، لكي يفسح مساحة أكبر لموهبته في الظهور منفردة "أول فيلم ليا لوحدي كان سنة 1958 مع المخرج حسن رضا، من بطولة كمال الشناوي". أثناء تلك التجربة ولقيامه بدور مونتير الفيلم لأول مرة؛ لم يغادره القلق لشهورٍ عِدة. لكنه تغلب على ذلك القلق بالجهد الشاق لساعاتٍ طويلة "كنت عايز أظهر بأفضل صورة ممكنة" وقد كان، لتبدأ مسيرته الحافلة بالإنجازات وعلى رأسها الفيلم العالمي "الرسالة" عن قصة ظهور الإسلام في مكة.
في إحدى المساءات التي يزدحم بها فِكره عادةً بسيل من لقطاتٍ ومشاهدٍ لم ينتهِ منها بعد؛ دق جرس الهاتف. رفع عفيفي السماعة ليجيبه الطرف الآخر مُتحدثًا العربية بطلاقةٍ لم تخفِ جذوره الأجنبية، حددا موعدًا للقاء عمل بناءً على طلب الأخير، وفي الموعد تمامًا كان عفيفي بالانتظار.
"مسيو (تاكفورت انطونيان) كان مندوب الإنتاج لفيلم الرسالة في مصر، وكان بيساعد مصطفى العقاد في اختيار الكاست بتاع الفيلم"، هكذا لخص عفيفي اللقاء الأول بينه وبين أنطونيان، الذي أخبره أن العقاد يعقد جلسات عمل لاختيار كاست فيلم "عالمي" سيتم تصويره بين المغرب ولندن، وسأله بعدها عما إذا كان يرغب في الانضمام لأسرة الفيلم، وعن الأجر الذي يريده مقابل ذلك، ليجيبه عفيفي بالموافقة على الإشتراك في العمل، تاركًا خانة الأجر دون أن يدون بها رقمًا شفهيًا لتعاقده مُعللًا ذلك "مكنش فارق معايا الفلوس إطلاقًا، قولتله أنا موافق على أي أجر، كنت عاوز أخلّد اسمي في السينما، وأسافر اشتغل مع الأجانب واتعلم منهم".
تهللت أسارير أنطونيان لدى موافقة عفيفي بالعمل في الفيلم، ليخبره بعدها أنهم حين عقدوا جلسات اختيار الممثلين برفقة المخرج، عزموا على وضع اختيار أول وثانٍ كبديل لكل شخصية من الشخصيات، لكنهم لم يضعوا قط بديل للمونتير حين وقع اختيارهم عليه. وفي الجلسة ذاتها حذره أنطونيان أن الشرط الوحيد في العقد الذي سيمضيه مع الشركة المنتجة للفيلم بعد مقابلته مع العقاد يقضي بتفرغه التام، حيث سيصاحب المخرج، الممثلين، والمصورين أينما ذهبوا على أن توفر له الشركة الإقامة الكاملة بالبلد الذي سيتم فيه التصوير ليتفرغ تمامًا للعمل في الفيلم ولا يرتبط بأي مشاريع أخرى، فوافق عفيفي على ذلك الشرط دون تفكير "الوقت اللي هقضيه وسط الأجانب هيزود خبرتي، والسفر هيوريني بلاد مزورتهاش، مكنش ممكن أرفض أبدًا".
بعد مرور أيامٍ على حديثه مع انطويان، تلقى عفيفي اتصالًا كسابقه ولكنه هذه المرة من المخرج "مصطفى العقاد" والذى حدد موعدًا للقائهم في اليوم التالي بإحدى فنادق القاهرة الكبرى المُطلة على ضفاف النيل. "راجل ذكي، متحضر، ومتحدث جيد جدًا" قالها عفيفي واصفًا العقاد الذي التقاه للمرة الأولى.كان الحديث بينهما رائقًا، والتفاهم هو سيد الجلسة "اتكلمنا كتير، وفي وسط الكلام لقيته بيتكلم بالانجليزي عشان يختبر لغتي، وبعدين قاليI don’t like a yes man ، الصراحة انزعجت بشدة وقولتله I will never ever be a yes man.
ورغم الضيق الذي انتاب عفيفي من ملحوظة العقاد تلك إلا إنه أوجد له العُذر "حقه، أصله ميعرفش أنا في شغلي صارم إزاي"، لتمر الجلسة بسلام، فيوقع بعدها عفيفي العقد ويستعد للسفر في غضون أسابيع قليلة.
بصحراء المغرب جرت استعدادات بناء الديكور لتصوير الفيلم على قدمٍ وساق، استقدمت الشركة المنتجة طاقم العمل "أنا مشوفتش انتاج فيلم ضخم في حياتي بالمنظر ده قبل كده". بألق الانبهار وصوتٍ لا يخلو منه كان عفيفي يصف ضخامة إنتاج الفيلم واهتمام الشركة المنتجة له بأدق التفاصيل حتى أنها حجزت لطاقم الفيلم كله بفندق خمس نجوم مدة الإقامة كاملة أثناء التصوير، كان كُل فرد يُعطى مصروفًا شهريًا ليس له علاقة بالأجر المتفق تقاضيه بالعقد الموقع، وعربة خاصة بسائق لتصحبه إلى أي وجهة يريد، ومتى يريد فتوفر عليه الوقت والجهد، حسب عفيفي.
مميزات العمل في فيلم الرسالة بالنسبة لعفيفي لم تتوقف عند ضخامة الانتاج أو اهتمام الشركة المنتجة بكافة التفاصيل صغيرها قبل كبيرها "مكناش مربوطين بوقت في الشغل، بنشتغل على رواقة لأن الجودة هى الأهم"، ورغم ذلك فالتراخي لم يكن له مكان يُذكر "المواد اللي بتتصور تتمنتج في يومها، كنا بنشتغل بشكل يومي لأن الشركة حرصت على وجودنا أثناء التصوير وده اللي خلاني ألازم مراكش لأكتر من 8 شهور".
لا ينسى "عفيفي" اليوم الأول للتصوير.. على مَد البصر، تناثرت تكتلات سوداء في قلب الصحراء الشاسعة، شاهدها من نافذة السيارة التي تقطع الطريق نحو مكان التصوير، أدرك أن فريق العمل وصل منذ ساعات استعدادا للمشهد الأول، طلب من السائق الإسراع، لم يكن يريد تفويت الحدث، وحينما وصلا كان "العقاد" يقف وسط مساعديه، يُشرف على وضع حاجياتهم، واستقرار معداتهم، وتهيئة الممثلين "كان مفروض أنطوني كويني يصور الأول وبعدها حمدي غيث، مشهد دخوله حمزة على أبو جهل، وإعلان دخوله الإسلام".
قبل لحظات من بدء تصوير المشهد الأول-وفق رواية عفيفي- اقترب انطوني من "العقاد"، همس في أذنيه بشيء، وتحركا بعيدًا عن الجموع، بدا أن نقاشا هاما يدور بينهما، المخرج كان يشيح بيديه متسائلًا، قبل أن يبتسم ويومئ بالموافقة، عادا أدراجهما، هتف الأخير باسم "عبدالله غيث"، اندفع نحوه، أخبره بتصوير مشاهده أولًا "عرفنا إن كوين أصر إن غيث يصور المشهد قبله".
قفز الممثل المصري فوق جواده، وانطلق عقب إشارة البدء من المخرج ناحية الممثلين الأخرين، شق الصفوف أمام الكاميرا، ألقى بكلمات حمزة الشهيرة بقوة وحسم "أنا على دين محمد.. أقول ما يقول، فليرد عليّ ذلك من يستطيع"، وسط إجلال وإعجاب من الحضور "انطوني عمل محاكاة بمنتهى الدقة لكل ردة فعل صدرت من غيث خلال المشهد.. تصرفه فيه تواضع وتحضر".
نتائج التصوير كانت مُدهشة، "العقاد" يبذل أقصى جهده، أبطال العمل يتبارون في الأداء، مدير التصوير يمنح مشاهده سِحرًا خاصًا، وكان على "عفيفي" أن يَكشِف عن مَعدنِه ومَوهِبتَه الأصيلة في النُسخَة العربية، بالتزامن مع عمل المونتير الكبير "جون بلوم"-الحاصل على جائزة الأوسكار من قَبل- على النسخة الأجنبية، غرفة كانت تفصل بينهما، لكن لم يمنع هذا أن يبني المونتير المصري جسور من التواصل مع الآخر، يتناقشان في صعوبة العمل وكيفية مجاراة قيمته "كان متعاون جدًا، وكنت بسمع منه كتير، لأني كنت رايح أتعلم الناس دي بتشتغل إزاي، وإيه الجديد عندهم".
رغم الامكانيات الكبيرة التي أتاحها العمل لـ "عفيفي" ورفقة المونتير العالمي، إلا أنه واجه صعوبة بالغة خلال تنفيذ عملية المونتاج للفيلم، لخصوصية طريقة "العقاد" غير المعتادة بمصر، في التعامل مع تصوير المشاهد"كان يأخد صورة مكبرة للمشهد، ثم ردود فعل كل شخص من المشاركين في التمثيل على حِده، ومن كل الاتجاهات". زخم كان يحتاج لتعامل دقيق جدًا وجهد شاق وتطويع خِبرته لخروج مشهد واحد فقط في أفضل صورة ممكنة "طول الوقت مخي شغال اللقطة دي تعمل إزاي، الموضوع كان مُرهق وصعب جدًا".
بعد نحو عامين، انتهى العمل في "الرسالة". تلك التجربة الأكثر اختلافًا وتفرُدًا في تاريخ "عفيفي" السينمائي، عاد بعدها إلى مصر منتظرًا عرض الفيلم في القريب العاجل، غير أن الضجة التي أُثيرت حوله من قِبل الأزهر وعدد من الدول العربية، دفعت مصر إلى إصدار قرار بمنعه من دخول البلاد "حسيت بغضب شديد من السياسة اللي منعت العرض"، لكنه في الوقت ذاته كتم ذلك الغضب، لأنه يُدرك تمامًا أن الفن لا يُمنع "كنت عارف إن هيجي يوم والجمهور هيشوفه".
في ليلية صيفية، بعد فترة من عودته إلى مصر، ورده اتصالا هاتفيا من الخارج، هرع "حسين" نحو هاتفه، كانت البُشرى من زميله "بلوم"، الذي وعده بأن يُحدثه عقب الحفل السينمائي الكبير الذي أُقيم للفيلم في لندن "عرضوا النسختين.. وقالي إن الناس أشادت بأداء غيث أكتر من أنطوني وبالفيلم العربي"، كانت شهادة كبيرة لعمله، مازال يتذكرها كلما هلّ عليه طيف تلك الأيام المجيدة.
المونتير العالمي حسين عفيفي.. ''ساحر'' الغرفة المُظلمة (حوار - 2)
فيديو قد يعجبك: