سيرة أول شهيد للصحافة في الثورة.. السلطة الرابعة "مجابتش حق ولادها"
كتبت-دعاء الفولي وإشراق أحمد:
قبل نحو ثلاثة أعوام، تغيرت الهيئة الخارجية لمبنى نقابة الصحفيين، تزين شارع عبد الخالق ثروت برسوم جرافيتي، اصطف صور "شهداء الصحافة" على جانبي جدران النقابة، بأقصى اليسار تتجلى صورة شاب دون الأربعين من العمر، يخط وجهه شارب أسود، فيما تحمل الكلمات أسفل الرسم "أحمد محمد محمود شهيد محيط وزارة الداخلية. يمر العابرون، وينتفض الجمع وينفض على سلالم نقابة الصحفيين، تتسارع الأحداث والمناسبات، فيما تخبو سيرة "أول شهيد للصحافة في الثورة"، مات بصمت مع أيام يناير الأولى، ووضعته النقابة في صمت كذلك بين عدد محدود لشهداء المهنة في كتيب اليوبيل الماسي لها، بينما يظل القاتل دون حساب، أو مطالبة من أبناء صاحبة الجلالة بـ"حق الشهيد".
من كلية التجارة تخرج "أحمد"، ولعه بالصحافة، فضلا عن أسرته العامل كثير منها في مجال النشر، دفعه للالتحاق ببلاط صاحبة الجلالة، عمل بجريدة التعاون، قبل دمجها مع مؤسسة الأهرام، ليظل على قوتها، يكتب فيما يتعلق بالاقتصاد، يعمل على تحقيق حلمه بإنشاء دار نشر للكتب، يطمح أن يوسع نشاطها، ابنته هي كل ما يملكه من الحياة الدنيا.
في صباح يوم التاسع والعشرين من يناير 2011، قرر "محمود" الذهاب إلى مكتب دار النشر، بميدان لاظوغلي بالقرب من مكتب الأمن العام يقع مقر حلمه، الذي يماثل عمر ابنته، 10 سنوات. أخبر زوجته أن عليه دفع رواتب الموظفين لأن "واضح أن الحياة هتتقفل"، على باب المنزل احتضن صغيرته "نورهان" وهمس لها أنه سيعود سريعا، وأكد عليها ذلك في آخر مكالمة هاتفية قبل نحو ربع ساعة من وفاته.
الساعة تشير إلى الثانية عشر والنصف ظهرا، اتصل "محمود" بزوجته إيناس عبد الدايم، عبر وسلة الاتصال الوحيدة المتاحة حينها، وهي التليفون الأرضي "قالي متنزليش الشغل الشوارع فيها سحل"، ثم تلقفت الابنة المرتبطة بأبيها الهاتف، لكنه بلهجة سريعة طالبها بالغلق على أن يتصل بهم مرة أخرى "ده الوقت تقريبا اللي سمع فيه دوشة في الشارع وطلع يشوف في إيه" تقول الزوجة.
من شرفة الطابق الأول، حيث مكتب دار النشر، التقط "محمود" هاتفه المحمول، ليصور ما يجري "الشرطة كانت عاملة عمايلها وبتقبض على الناس وتركبهم ميكروباصات"، وما أن ضغط زر الالتقاط، حتى لمحه ضابط برتبة نقيب كما تقول "عبد الدايم"، وصوّب السلاح نحوه، في ذلك الوقت كان أحد الموظفين العاملين معه يفرون بالصعود إلى المكتب، رأي المشهد كاملا، نهايته بإيجاد الصحفي راكعا على ركبتيه بينما تسيل الدماء من رأسه، ليأخذه إلى المستشفى، في وضع غيبوبة دامت لمدة خمس أيام.
ظلت "إيناس" لا تعلم شيئا عن زوجها طيلة يومين، حجج تتلقاها من موظفين المكان بأنه مع والده المريض بالمستشفى "كانوا متخيلين أنه هيعيش ومش عايزين يخضوني"، انقطاع الاتصالات، وعدم تخيلها وصول الأمر حد الخطر، جعلها تصدق، وإن كان القلق ينهش كيانها، خاصة مع أسئلة ابنتها، ومحاولتها للاتصال بوالدها غير المتوقفة، إلى أن اضطر أحد الموظفين إخبارها بما حدث بعد التأكد أن حالة "محمود" حرجة "الرصاصة استقرت في الدماغ وعملت نزيف والدكاترة مش عارفين يوقفوه عشان يطلعوها".
"كنت شايفاه ميت خلاص لكن كنت عايزة أصدق أنه مش هيموت" كذلك كانت "إيناس" طيلة الأيام المتبقية في عمر زوجها، تراه مسجى على سرير المستشفى دون حراك، بينما تلتحف بالأمل حين يخبرها أحد أن التمس حركة خفيفة من يده، حتى فارق الحياة بشكل فعلي في الثالث من فبراير.
عقب الدفن بساعات، عادت الزوجة المكلوم للمنزل في حالة لا وعي بما جرى، استرجعت تفاصيل الكارثة، قبل أن تتصل بأحد زملاء الصحفي الراحل لتخبره "أحمد مات ودفنّاه انهاردة"، انهار الزميل متعجبًا أنها لم تتكلم طوال خمسة أيام، ثم ألقت عليه الصاعقة: "اللي ضربه ظابط"؛ فاستشاط غضبًا، واتصل بزميل آخر له، وانفتحت دائرة واسعة انتهت بمكالمة هاتفية من نقيب الصحفيين، مكرم محمد أحمد يعزّيها "وقاللي إنه هيقدم بلاغ في النيابة ويقف جنبي".
ما خشي منه قاتل "محمود" حدث، التقط الصحفي صورة لقاتله، ظلت قبيعة هاتفه المحمول، حتى تم استخراجها، لكنها لم تكن دليل كاف كما قالت النيابة لـ"إيناس"، ورغم شهادة المتواجدين في محيط المكان من أصحاب محال بمواصفات الضابط، غير أن الحجة القاطعة كانت في الرصاصة التي قتل بها الصحفي، لكنها دُفنت معه، إذ رفضت أسرة "محمود" تشريح الجثة، من منطلق "أن هذا قضاء الله"، فضلا أن زوجته لم تلتفت لهذا من هول الصدمة، وحينما أدركت، تيقنت أن ذلك لم يكن يحرك شيئا "مطابقة الرصاصة والبحث عن السلاح المضروب به حاجة استحالة تتعمل".
عانت الزوجة والابنة بعد وفاة سندهم "اللي ضربه مش عارف أن عنده أسرة هي كمان هتموت وراه؟"، ظلت الأم تخفي عن صغيرتها وفاة أبيها، استنفذت كل الحجج بغيابه، تعتصر ألما بإجابتها أنه مسافر، ينشغل بالعمل، حتى ساور ابنة الـ10 سنوات الشك، وصارت تتصل بمن حولها ليخبروها ما تظن أن والدتها تخفيه، حتى اضطرت "إيناس" بإخبارها الحقيقة، كان ذلك قبل أن تعود الفتاة لمدرستها، لتجد صورة والدها معلقة بفصلها بوصف شهيد الصحافة.
ما عادت "نورهان" ابنة الصحفي الراحل مهتمة بمجال أبيها، تحاول أمها بين حين وآخر تذكيرها بما أراده دائما "إنه يشوفها في كلية إعلام بتدرس صحافة وتشتغل في المهنة وتمسك دار النشر"، لكن كل مرة تتحدثان بالأمر ترد الفتاة ذات الـ15 عاما برفض قاطع دون إبداء السبب، فهي لازالت تتعافى من آثار موت الوالد، أما دار "اللطائف" التي أنشأها "محمود" على عينه "اشتغل فيها عشر سنين وكان بيطور طول الوقت" فقد صارت الآن مكتبة تعيد طبع الكتب بالطلب وتبيعها، كان آخر ما طُبع فيها المصحف الشريف، الذي أصر "محمود" على بيعه بسعر التكلفة.
كان "محمود" مهمومًا بحال المهنة، يلمس حرية طفيفة وتقدير المواطنين العاديين لدوره كصحفي "لكنه كان بيتمنّى إنه أبناء المهنة نفسهم يهتموا أكتر بيها لأن كان بعضهم متلون في نظره"، حين قامت الثورة كانت "عبد العليم" في مرحلة الحزن على وفاة رفيقها "لكن كان عندي أمل إنه الثورة تغير الدنيا للأفضل وتجيب حق اللي زي أحمد"، ومع الوقت أدركت أن حرية الصحافة تزداد تراجعًا والثورة تخبو.
لم تنتبه نقابة الصحفيين حتى إلى أبسط التفاصيل المتعلقة بالصحفي الراحل، فحسبما تقول الزوجة "كانت صورته موجودة في الأول واتمسحت"، وحينما انفعلت "عبد المنعم" على أعضاء النقابة أعادوا رسمها يسار حائط المدخل "هما مش مستوعبين إن النقابة بتقوى بصحفييها وإن تكريم اللي راحوا واجب".
لازالت تذكر "عبد العليم" خروجها برفقة مئات الزملاء في جنازة رمزية من نقابة الصحفيين، متوجهين لميدان التحرير في 7 فبراير 2011، رفعوا صور زميلهم الشهيد، هتفوا ضد الداخلية، أبقوا جذوة القضية مشتعلة، غير أن الوضع اختلف مع الوقت، صارت القضية طيّ النسيان، سقطت من حسابات الاهتمام "اللي يشوف ساعتها العدد والحماس ميتخيلش إن قضية أحمد هتموت كدة".
لم يغلق التحقيق في مقتل "أول شهيد للصحافة في الثورة"، كما تقول "إيناس"، تفاجأت بهذا بعد سؤالها صدفة لوكيل النيابة، لكنها فقدت الأمل في محاسبة أحد "خلاص لما مبارك يطلع براءة، وحبيب العادلي يطلع براءة هيتهموا مين بقى؟".
تعاقب النقباء بعد مقتل "محمود" غير أن الزوجة لم تجد تحرك إلا وقت النقيب الأسبق مكرم محمد أحمد، تتذكر حين اتصلت بها النقابة لحضور محاكمة مبارك والعادلي في قتل المتظاهرين وقت القائم بأعمالها صلاح عبد المقصود، لكنها تفاجأت بعدم الاهتمام حين أخبرتهم أن اسمها والمستشار القانوني للنقابة غير مسجلين "قال لي معرفش إيه الموضوع".
تمر المناسبات الخاصة بالصحفيين كل عام، تنتظر الزوجة أن يشار لزوجها من قريب أو بعيد "حتى اليوبيل الماسي اللي بتحتفل به النقابة مسمعتش حد افتكر شهداء الصحافة أو أسرهم"، ترى أن الصحفيين الراحلين صاروا مجرد رسوم على حائط النقابة، ولا تجد مبرر لهذا في الوقت الذي ظنت العكس "دول المفروض تهزوا المؤسسات بأنكم عايزين حق ولادهم، يعني الشرطة والجيش رافعين حق الشهيد، فين أحنا كصحفيين"، مضيفة أن الأمر ينطبق على الصحفيين المعتقلين والمُصابين كذلك.
تشعر "عبد العليم" أنها تحارب وحيدة في قضية زوجها، لا تنتظر سوى إعادة إحياء سيرته بالحديث عنه "هو والصحفيين اللي زيه"، فطالما نُسيت حكاية "أحمد محمود"، سُتعاود الكرة مع آخرين، وتبقى كلمة حرية الصحافة شعار فارغ يُقال دون خطوات على الأرض.
اقرأ باقي موضوعات الملف:
حقيقة اغتيال ''مبارك'' والتعذيب.. حين كان السبق الصحفي لـ''مدونة''
حسام السكري: نقابة الصحفيين لها وقفات شجاعة.. والسلطة تحتكر كل المنابر (حوار)
''مصراوي '' يحاور أحد مؤسسي حملة ''الرقة تُذبح في صمت''
هل يضع الصحفيون في مصر رقابة على أنفسهم؟ (تقرير)
أعمال صحفية غيرت مجتمعاتها.. أثر الإعلام ''يٌرى''
بالفيديو والصور: إعلاميون بلا ''إعلام''.. كيف يقتل أبناء المهنة المصداقية؟ (تقرير)
وصيفات (صاحبة الجلالة) يروون لـ''مصراوي'' كواليس مغامرات كسرن فيها حاجز الخوف والخطر
مؤمن قيقع.. وقع خطاه بـ ''كرسي متحرك'' يُغضب ''إسرائيل'' (حوار)
فيديو قد يعجبك: