الحكايات لا تنضب، والحيل لا تموت. يمر الصيف بحرارته على المصريين فيهربون إلى البحر، تُهلكهم الأعباء الاقتصادية طوال العام، لكن "شوية الهوا النضيف" طقس لا يمكنهم التخلي عنه. الأماكن البسيطة كثيرة؛ تبدأ من الإسكندرية ولا تنتهي عند بلطيم. في العام الماضي مر مصراوي على تلك الشواطئ، عايش فرحة المواطنين بها، ونقلها في ملف مُصور.
قبل انقضاء صيف هذا العام، ذهب مصراوي لأماكن جديدة؛ تبدو للناظرين عادية، تصل المياه لبعضها بالكاد، غير أن المصريين منحوها صيغة المصيف، فكل ما يحتاجه الأمر "عوّامة" و"شمسية" تجعل المكان زاهيًا، يسعد الأطفال، وتُحضر الأمهات الوجبات المنزلية، يلتفون حول شلال صغير في الفيوم، أو نبع ماء بالقناطر الخيرية، أو حتى في حمام سباحة وسط منطقة الدويقة المتاخمة لجبل المقطم بالقاهرة. المهم ألا تفوت فرصة الاستمتاع ولو ليوم واحد.
إعلان
إعلان
في شلالات وادي الريان في الفيوم، لا يوجد مظهر المصايف المتعارف عليها، لا رمال ولا شمسيات منصوبة، المياه نفسها ضحلة حتى أن أصحاب القامات الطويلة يستطيعون الترجل داخلها دون العوم، رغم ذلك فإنها مصيف وحيد بالنسبة لكثيرين. حوّلها أبناء المكان والوافدون من محافظات شتى مثل المنيا وبني سويف إلى ذلك، بالعوامات الملوّنة التي تسبح مع خصر الصغار، وملابس البحر التي يرتديها البعض، أو حتى بدون ذلك فإنه لا يهم سوى الاستمتاع بالمياه، وقضاء يومٍ بالطول والعرض في سبيل الانبساط.
إعلان
إعلان
على حافّة النهر، تراصّت الخيم. تهبط العائلات ببطء من تبّة مرتفعة، لكن الأمر يستحق العناء، فتأجير المكان ثمنه 20 جنيها طوال اليوم، أما أصحاب الرفاهية، فيمكنهم الذهاب في جولة نيلية على قارب، أو الجلوس داخل جزيرة. هُناك حيث يجري النيل تقبع العائلات وكأنها أمام البحر. الصخور كالرمال، وحركة المياه البسيطة كأنها الأمواج، يبدأ يومهم من الفجر، يُجهزون أشهى المأكولات، فيما لا يخلو المشهد من بائعي الشاي، الترمس وغيرها من "التسالي".
"قرّب.. جرّب.. متخافش". وقف الفتيان بأعمار مختلفة بمحازاة عيون القناطر الخيرية، يُلقن كبيرهم الصغار طرق السباحة، يقذفهم في المياه، ويتلقفّهم أصدقاؤهم الموجودون داخلها، لا حيلة للأولاد سوى التعلم "ده مصيفنا.. جنب البيت وببلاش وبننزل في أي وقت"، قالها محمد محروس (15 عاما) الذي يُراهن أصحابه يوميًا على عبور مسافة طويلة من النهر دون تعب. يبدأ اجتماعهم في العصر ولمدة ساعتين. تتكدس حقائبهم والملابس في زاوية أسفل الكوبري، يحرسونها بالتتابع. لا يتسرّب الملل إليهم أبدا "كل يوم بنط من حتة مختلفة وبنتسابق".
النزول لمياه القناطر "بيقوّي العضلات والقلب". يمارس محمود كريم (18 عاما) السباحة في أحد النوادي "بس هنا لمة الصحاب أحلى". رغم ولعه بالمكان، يتذكر الشاب المرة الأخيرة التي زار فيها الإسكندرية منذ عدة سنوات "الرملة هناك بتبهدلنا والدنيا زحمة، هناك بحر وهنا بحر برضو، بس هنا البحر بتاعنا لوحدنا". لا يخجل كريم من المارّة والسيارات "ماحناش بنعمل حاجة غلط، لو فيه فلوس كنا روحنا المصايف اللي بنشوفها في التليفزيون".
إعلان
إعلان
للمياه في شلالات القناطر استخدامات عدة؛ فبينما اتخذها البعض مكانًا للسباحة، خاضها آخرون لأجل الصيد، أما الصغار فلا يعنيهم سوى اللعب داخلها، لا يعبأون بالأرض المملوءة بالصخور، المغطاة بالطحالب اللزجة أو التجاويف الموجودة أسفل المياه الجارية.
السعادة لا تحتاج للكثير، إذا كان البحر صعب المنال، فيمكن لمياه القناطر أن تقوم بنفس الدور. أما الصورة الحلوة فلا تحتاج أكثر من هاتف محمول وابتسامة.
الأحوال تتبدل. منذ عشر سنوات كان بإمكان سمية حسين رؤية بحر جمصة، لكن السيدة الثلاثينية استغنت عن تلك الرفاهيات "بقى عندي 3 عيال والحياة بتغلى كل يوم". تقطن الأم رفقة زوجها محمد عبد الحافظ في منطقة أبو الغيط بمحافظة القليوبية، وبحسبة بسيطة توقن أن الذهاب للقناطر "أوفر بكتير". 20 جنيها أجرة التوك توك الذي ينقل الأسرة، بضعة شطائر وحلوى للأطفال "السنة دي كنا هنروح إسكندرية بس لقيت الواحد هيتكلف ف اليوم 20 جنيه". تراجعت عن الفكرة "خاصة بعد حوادث الموت اللي بنسمع عنها". ارتضت الأسرة بالمكان، لكن غصّة تعاود الأم "كنا بنيجي هنا مرة كل أسبوع.. دلوقتي لو جينا مرة في الشهر يبقى كويس"، تحمل السيدة عبء الـ100 جنيه التي يصرفها الزوج، تعيش بين نيران الأسعار واشتياق الأطفال "لأي فسحة وبحر والسلام".
اعتاد الصديقان، محمد وعماد التردد على شاطئ القناطر. يُحضر كل منهما ابنته "شمس ووفاء". لم ترَ الصغيرتان شاطئ البحر الحقيقي "كنا بنيجي هنا من واحنا قدهم". حظ الآباء أفضل قليلا "كنا بنروح نصيّف زمان بس بطلنا". يبعد منزلهما مسافة قليلة عن المكان " عشان كده أما يهفّنا الشوق بنيجي نشرب شاي ونقعد على الماية"، لا ينقصهما شيء سوى اهتمام المحليات بالشاطئ أكثر "بيكنسوا الطريق اللي برة ويسيبوا الزبالة هنا".
إعلان
إعلان
أطفال الدويقة يقضون الصيف عند "ست سناء"
المصيف يبدأ مُبكرًا في منطقة الدويقة؛ تفترش السيدة سناء حمام سباحة مُصغّرًا في مطلع شهر مارس وحتى سبتمبر. يعمل من السادسة صباحًا وحتى مغيب الشمس، تمامًا كما تفعل منذ سبع سنوات حين جاءتها الفكرة "شوفت طوق عليه عرض في محل، قررت أشتريه ويبقى رزق ليا ولولادي اليتامى".
يمنح حمام السباحة المنطقة مشهدًا مُبهجًا في مكان تكسوه أمارات اليأس "الناس هنا غلابة مش لاقية تاكل عشان تروح تصيف، أنا بقى جبتلهم المصيف لحد عندهم باتنين جنيه بس". تملأ سناء طوق السباحة يوميًا، وتفرغه في نهاية اليوم، العوم ساعة واحدة فقط بجنيهين، يأتيها الأطفال من أماكن شتى غير الدويقة "عشان بعاملهم كويس وبخلي بالي من هدومهم وموبايلاتهم لحد ما يخلصوا".
في الدويقة موسم الصيف مختلف تمامًا عما تعهده المصايف الأخرى "أنا شغلي أكتر في وقت المدارس بعد ما يخلصوا بييجوا، لأن العيل من دول أول ما يخلص امتحانات بينزل على الشغل على طول فمبيبقاش عنده وقت ييجي". لم تذهب سناء إلى أي مصيف "الموضوع مكلف وعشان أطلع أنا وعيالي يوم واحد بيتكلف 500 جنيه"، لكن حمام السباحة يمنحها المرح كما يهب أبناء المنطقة "البنات أصحاب ولادي بييجوا بالليل بقى ينزلوا عشان محدش يشوفهم، و أنا ساعات بنزل معاهم، بنفضل نضحك ونهزر"، فيما تملؤها السعادة بسبب دعوات الأهالي لها "عيالهم بيتبسطوا وأهو حاجة من ريحة المصيف ورخيص، مفيش أحسن من كده".
تتبع سناء قوانين صارمة في إدارة حمام السباحة؛ لا تسمح بنزول الأولاد أكبر من 13 عامًا "فيه بنات في الحتة فميصحش"، يأتيها بعض الشباب الراغبين في الترفيه عن أنفسهم لكنها ترفض بحزم، فيما تسمح للصغيرات بنزول المياه في الصباح الباكر أحيانًا أو ليلًا. الأطفال في الدويقة يعرفون العمّة سناء جيدا، يأتي لها رجب وعبدالله وتيتو سيرا على الأقدام، لمدة نصف الساعة، كلما جمع الأصدقاء الثلاثة المال اللازم لا يترددون في قضاء الوقت هناك.
لا يتذكر الصغار –أكبرهم 7 أعوام- آخر مرة رأوا فيها بحرًا حقيقي "كنا في إسكندرية"، يقولونها في نفس الوقت، لكن عبدالله يضيف "بس أنا روحت أكتر منكوا"، يضحك الصديقان، يتهمانه بالكذب، قبل أن يقول رجب "إذا كان أنت مجيتش حمام السباحة غير مرتين بس في الصيف كله". تعيش سناء بالقليل المتوفر في يديها، فيما لا تتوقف عن إصلاح أو تجديد مصدر دخلها "كان عندي واحد كبير بس باظ ومقدرتش أصلحه"، اضطررت لشراء الأصغر حجمًا بـ1700 جنيه "بس بقاله فترة بيتخرم وبضطر ألزقه كل يوم بأمير عشان يبقى كويس".
كل صيف تشتري سناء طوقًا جديدًا "أول مرة جبته كان بـ900 جنيه دلوقتي بقى بـ3 آلاف"، تأمل أن يأتيها الرزق "عشان معنديش شغلانة تانية في الشتا، حتى واحدة من عيالي خرجت من المدرسة عشان تساعدني في المصاريف". لا تتذمّر السيدة الخمسينية من الأحوال "منها بصرف على البيت والعيال بتتبسط برضو"، تخفف عنها جاراتها الكثير "ساعات أكون تعبانة ومنزلش بيخلوا بالهم من الحمام والولاد اللي بتلعب"، تضحك إذ تقول "حتى العيال الصغيرة ساعات بتساعدني أما المايه تقطع وتعبي الجرادل وتحولها على البسين لحد ما يتملي". رغم المقابل الزهيد، يجمع الصغار الجنيه بجانب الآخر ليزوروا سناء، أما كريم صاحب الـ12 عاما فكان يمر بهم ولا يملك المال الكافي للانضمام "أصل بشتغل من الصبح لبليل والفلوس مش هتكفي"، غير إن الحظ ابتسم له مرّة، حين تطوع أحد الشباب ودفع له جنيهين ليقفز في الماء كالبقية.
إعلان
إعلان
رغم لجوء المواطنين للمصايف البديلة، غير أن بهجة الشواطئ الاعتيادية لا تموت، طالما بقي ثمنها زهيدًا، تستوعبه ميزانياتهم. لا ينطفئ بريق إسكندرية، يلمع اسمها في الذهن حين تحضر كلمة مصيف. لا تزال مكانتها أثيرة في القلوب، مهما عرفت العائلات مصايف أخرى تظل أرواحهم "إسكندرية" الهوى في الصيف.
في عصر تقبض فيه الأيادي على الهاتف، أصحت مهنة مصور الشاطئ محمد أصعب، لذا يبحث عما يلقي الدهشة في قلوب المصطافين، وبالفعل حين يمر يخطف انتباه كل صغير وكبير على الشط بينما يستقر القرد على ذراعيه، وفي يده الأخرى يحمل الكاميرا منادي عمن يحب أن يحتفظ بصورة مع النسناس.
البحر يمّد لسابع جّد؛ اعتاد شعبان سيد المجىء إلى شواطئ إسكندرية، حتى بلغ الستين من عُمره ولايزال هواء وبحر إسكندرية "هو اللي يرد فيا الروح". لا ينزعج إذ اقتصر المصيف على الجلوس على كرسي، بينما لا تلمس المياه سوى أطراف قدميه، لكنه يجد الراحة وهو يتابع تقافز أحفاده فرحًا على الشاطئ.
المصيف بالنسبة للصغار بحر ورمل؛ تتجلى طفولتهم باللعب "بنقلع الشباشب وهووب ننط في البحر". تداعب المياه أقدامهم الحافية بحرية، وحين يتعبون من العوم، يخرجون إلى الشط، يرتجلون بأدوات البحر والرمل بيوتًا خيالية.
كالأسطورة التي لا تبرح أذهان الأمهات مع كل مصيف "البحر واسع والعيل ممكن يتوه". تحاول الأم الانبساط قدر الإمكان رِفقة صغيرها لكن بمحاذير، تجلس على الشاطئ حتى وإن لم تتقن العوم لمراقبة ابنها، العوامة قد تكون وسيلة للأمان لكنها لا تنسى ذلك الخاطر أبدًا "فببقى مكلبشة فيه أخاف يبعد عني".
إعلان
إعلان
في بلطيم المصيف "شعبي على أبوه" كما يصفه روّاده، هنا لا يوجد كُلفة في المظهر أو تكلفة، الخيم مصنوعة بمواد بسيطة، مجرد "ملايات" منزلية أو أجولة هى ملاذ المصطافين من الشمس، طيلة اليوم يسلمون أنفسهم للبحر وأمواجه، فيتلقّفهم بسعادة.
زخم لا نهاية له تمامًا مثل البحر؛ على شاطئ جمصة تتزايد الحركة، أصوات لا تنقطع، تداخل حناجر الباعة وهم ينادوا بضاعتها "فريسكااا.. أيوه القُرَص.. حلاوتك يا مانجا". يرتجلون اختراعات حتى لا يكلفهم المصيف سوى ثمن التوصيلة وطعام يعدونه منزليًا.
المصيف قد يكون كل عشرة أيام بالنسبة لعائلة السيد بدراوي، كلما كان المزاج رائقًا "وعندنا كيف للبحر بنيجي، يا دوب ساعة زمن ونبقى هنا". لا تشعر الأسرة بغربة في المكان "وّلفنا عليه خلاص"، يتصرفون على طبيعتهم مثلما يتواجدون في المنزل، وكما يحتاج الجد إلى "تعسيلة" وقت الظهرية، غفا تمامًا على الرمال.
لا ترى نجوى عبدالوهاب البحر سوى يومٍ واحدٍ في العام، ترضى بذلك "ما دام بنتبسط والعيال مزقططة"، حتى وإن انهمكت في التنظيم أكثر من الاستمتاع بالمصيف نفسه "بآخد بالي من العيال والأكل وألم الخيمة عشان مننساش حاجة".
إعلان
إعلان
لأول مرة يُصادِف مصيف مروة أيام العيد، لذا لم تغِب تفاصيل لا تستقيم الأعياد بدونها؛ ملابس جديدة، صبغة شعر مختلفة، مانكيير، ومساحيق تجميل بسيطة "حتى لو هنزل الميّه، بس ده العيد بالنسبة لي".
لا يشعر أحمد محمد بالتعب، رغم الرحلة الطويلة التي يقطعها من منزله في شبرا الخيمة إلى جمصة، وعند الوصول تزداد مسؤولياته لكنها "زي العسل على قلبي". يترك لزوجته وأولاده فرصة "البلبطة" في المياه بحرية تامة، بينما يتكفل بالحفاظ على مقتنيات الأسرة.
"المصيف مش نزول البحر وبس"، قد يظهر في أشياء أخرى بالنسبة لأم أحمد "أنا كمان مش غاوية ميه قوي، يا دوب أنزل شوية وأرجع للخيمة تاني". لكن الخيمة نفسها مليئة بروح المصيف، ملايات زاهية الألوان، شمسية، عوامة "وتُرمُس شاي لزوم الشرب بعد الغدا".