الثورة تكمن في الكاميرا وعين "سعداوي"
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
كتبت- إشراق أحمد:
تصوير- محمود بكار:
صور الميدان- أحمد سعداوي:
كان عزيزًا على المصور الصحفي أحمد سعداوي، أن يترك الكاميرا بعدما أفقدته رصاصة "خرطوش" الرؤية بعينه اليمنى في 29 يناير 2011. تبدلت الأحوال طيلة سبعة أعوام، به وبمن شاركهم أمل التغيير في ميدان التحرير، لكن كل محاولات نسيان أنه "مصاب ثورة" باءت بالفشل؛ فكلما تحسس -ولو صدفة- موضع رأسه بجانب أذنه اليمنى، ذّكرته "بلية" الخرطوش المحتجزة داخله أنه "في يناير كانت ثورة، شاء من شاء وأبى مَن أبى".
ينظر سعداوي لابنته رُدينى، يجزم أنه سيخبرها كل شيء؛ عن عينه اليمنى التي حُرمت رؤيتها. حين قامت الثورة كانت جنينًا في الشهر الثاني، انتظر قدومه منذ زواجه قبل عام ونصف العام قبل ذلك الوقت. الآن هي في عمر السادسة تلعب مع أخيها إياد، 4 سنوات.
ظل يوم السبت التاسع والعشرين من يناير محفورًا بتفاصيله كبصمة عين سعداوي؛ تخليه عن إجازته في ذلك اليوم، ومحايلة والدته "كان ناقص أبوس رجليك عشان متنزلش" التي أعادتها على مسامعه بعدما فقد عينه، فيما ربت حينها على كتفيها قائلاً "والله لو نايم على سريري لهيجيلي قدري". وجاء القدر.
في يوم الإصابة، تردد سعداوي على ميدان التحرير مرتين، كان يعود بعدها إلى جريدة الجمهورية لتفريغ ذاكرة الكاميرا، في المرة الثالثة لرجوعه إلى الميدان، طالبه زملاؤه أن يكتفي بما اقتنص من لقطات "لكن كنت شايف إن الواحد مش هيعيش حدث زي ده مرتين" يحكي المصور الصحفي.
شائعة تكررت على مسامع سعداوي: "الجيش والشرطة بيضربوا نار على بعض عند وزارة الداخلية" فقرر الذهاب لاستطلاع الأمر بعينيه.
تجاوز المصور شارع محمد محمود، في الربع الأخير منه التقط صورته الأولى لدماء تفترش الرصيف، بينما يدوي صوت إطلاق الرصاص مخترقًا الآذان. عبر الشاب الثلاثيني بزيه الكحلي اللون طريقًا جانبياً، حتى بلغ منتصف شارع وزارة الداخلية، والتقط صورته الثانية.
سيارة موديل فيات 128 محترقة، استتر المتظاهرون خلفها، بينما يقذفون الحجارة على التشكيل الأمني الذي يمطرهم برصاص الخرطوش والغاز المسيل للدموع. وجه سعداوي الكاميرا يمينًا تجاه الشباب الثائر، ضغط زر التصوير، ثم سريعًا التفت يسارًا حيث أفراد الشرطةـ "كان المشهد زي لقطة جدع يا باشا.. الفرق أنهم كانوا واقفين بالطول والصف الأول فيهم ماسك كله سلاح".
اعتاد سعداوي أن يصور بعينه اليمنى: "كان نظري فيها 6/6"، لكنها للمرة الأولى والأخيرة تُصبح مكشوفة "ملحقتش أصورهم. يادوب لفيت رفعت الكاميرا بس هم اللي صوروني" مبتسمًا يتذكر سعداوي مشهد إصابته والصورة التي لم يلتقطها.
"اللي بيسمع صوت الطلقة يبقى ما اتصابش بيها" تحققت القاعدة التي عرفها سعداوي في الميدان. انطفأ نور العين اليمنى للمصور؛ لم يشعر صاحب السبعة والثلاثين ربيعًا بشيء سوى عين تدمع، وضع يده فإذا سوائل مختلطة بدماء. احتمى الشاب بكشك خشبي في الجوار، فيه حاول الاتصال بزميله لكنه لم يجب، ليعلم أنها الثالثة والربع عصرًا. وتحفظ الذاكرة التوقيت.
دار الزمن برأس سعداوي منذ لحظة الإصابة وحتى الأسبوع الأول "كل اللي كنت عارفه إن فيه إصابة في العين هشوف ولا لأ محدش قال حاجة". خرج المصور من مستشفى روض الفرج في اليوم ذاته. لم يكن هناك مأمن "قالوا اللي يقعد على مسؤوليته"، وأما التقرير المبدئي: فجسم غريب قطع الشبكية والملتحمة والصلبة.
كانت الثورة في مخاضها بالخارج، فيما يجلس سعداوي في منزله انتظارًا لإجراء جراحة ثانية لاستخراج الجسم الغريب، التلفاز من أمامه وأصوات اللجان الشعبية تأتيه من الشارع. وفي أوقات الخلوة بالنفس، يسترق الأمل "كنت أشيل الشاش اللي على عنيا وأبص في السقف وأغمض العين الشمال يمكن يكون فيه أي رؤية أو شعاع".
أدرك سعداوي فقده نصف الرؤية، قبل أن يرى ذلك في عين من حوله، لذا كان الرضا رفيقه وزاده تفاصيل ساقها القدر إليه؛ فكلما حلت ذكرى الثورة، لا يستعيد إصابته وحدها، إنما يتذكر صوت أول شاب أتاه بعد طلقة الخرطوش، حينها سأله المصور "عيني فيها حاجة؟". ليبادله الشاب بنظرة وصمت أعقبها كلمة لا ينساها سعداوي "عينك إيه؟ إحنا بنموت".
صدمت الكلمات نفس المصور، في الوقت الذي سمع فيه تأوهًا قادمًا من منتصف الشارع "لقيت شاب وقع متكوم على الأرض تقريبا مات". لكنه لم يكن مشهد العزاء الوحيد، لحق به آخر في طوارئ أول مستشفى يستقبله؛ كان شابًا عمره ما بين 24 و26 عامًا، يتحدث إلى والدته الباكية، بينما يخبرها مبتسمًا وقد فقد حبيبتيه "يا أمي سبقوني على الجنة".
نظرة الشفقة بعين شاب التحرير ورضا الشاب المصاب والثالث الذي ظنه سعداوي متوفي. لقطات حفرها المصور في روحه ولم تسجلها الكاميرا، قبل أن يمضى ممسكًا "مراته" –كما يحب أن يسمي كاميرته- بعد شهور من الإصابة، رفض أن ينتقل إلى أقسام التحرير بجريدة الجمهورية.
كان ذلك في فصل الربيع لعام 2011، بينما لا تزال الثورة تعيش ربيعها، وقتها وضع سعداوي الكاميرا صوب عينه اليسرى، أمعن النظر إليها ثم قال كأنما يحدثها: "هو أنا هعرف أمسكك تاني.. أنا عنيا ضاعت بسبب إني كنت ماسكك. طيب أسيبك.. لا مش هسيبك". لكن الوضع لم يعد كما كان مع التصوير في أول اختبار حقيقي له بعد الإصابة.
خرجت الأخبار عن نشوب حريق في المبنى التابع لوزارة المالية. تحرك سعداوي بكاميرته "كان معايا ماسك الغاز المسيل للدموع" لكنه لم يتمكن من التصوير به، خاصة وقد أصبح يرتدي نظارة طبية، لكن ما إن خلعه لكثرة الدخان "اتفاجئت إني بقيت أعمى بمجرد ما غمضت عيني الشمال وحد أخد بإيدي وخرجني من الشارع".
منذ ذلك الموقف قرر مصور جريدة الجمهورية أن يختار أماكن عمله، صارت تقتصر على الرياضة وتغطية الأحداث الثقافية والحوارات. هجر سعداوي الأحداث كرهًا "الإصابة كسرت جوايا المجازفة.. الموضوع مبقاش فيه مراهنة تاني" يقول سعداوي متقبلاً الوضع.
صعب جراحيًا إزالة "الخرطوش" من رأس سعداوي لاستقرارها في مكان حساس قرب المخ كما أكد له الأطباء. ورغم ذلك مَن لا يعرف سعداوي لن يُميز أنه يبصر بعين واحدة "الدكتور كان حريص على أن شكل العين يفضل سليم ". لكن ذلك لم يدفع عنه السؤال عن سبب اهتزازه وعدم تقدير المسافات في بداية تأقلمه مع الإصابة، غير أن إجابته طالما كانت واضحة وسريعة "أنا مصاب ثورة والداخلية هي اللي ضربتني".
لم تعد الكاميرا رفيقة سعداوي الدائمة كما كانت. مضطرًا يهجرها لشهور، ليس لعينه فقط سبب في ذلك، إنما لذلك العكاز الذي يتوكأ عليه منذ دخل ثانية دائرة إجراء عمليات جراحية لتركيب شرائح مفصلية في رجليه "مكنتش عارف أني باخد علاج لعنيا فيه كورتيزون فده سبب لي تآكل في مفاصل الحوض".
في يناير 2012، اكتشف سعداوي أن مداواة عينه سببت له داءً مضاعفًا "موضوع رجلي أثر عليا وبعدني عن المجال أكتر.. الحاجات اللي فيها جري بقيت ببعد عنها عشان رجلي مش عنيا" يقول المصور الصحفي، معتبرًا أنه لم يصور لقطة يرتضيها منذ إصابته قبل سبعة أعوام.
لا يأسى المصور الصحفي على ما فات، لكنه أصبح بنصف أمل مثل رؤيته "لو الزمن رجع هنزل واعمل شغلي وأصور". ورغم ذلك كثيرًا ما نظر كارهًا لعدساته وكاميرته، لاسيما بعد عامي الثورة الأوائل. يمضي محدثًا نفسه "مش ندمان لكن مستحرم عنيا وأرواح شباب كتير مش هقول في البلد لكن في اللي مصممين إنها تفضل في وضع سيئ".
طيلة الأعوام الماضية ربط سعداوي على نفسه، حافظ عليها و"ثورتها"، لكن شيئًا واحدًا مجرد التفكير فيه ينغص كيانه "مش عايز أعدى من المكان اللي اتصابت فيه.. إحساس صعب إني أبقى عارف اللي صابني وحقي منه لسه مجاش".
ما تيسّر من "نور" الثورة.. 7 سنوات على فقدان بصر محمد دومة
ضيف مؤلم.. الإصابة تصنع من "السويسي" بطلا للثورة
أول طبيب ميداني لـ"يناير": الثورة أحلى "غلطة" في حياتي
فيديو قد يعجبك: