لغز "الأنبا إبيفانيوس".. من القاتل؟
كتبت- مارينا ميلاد:
"نهاية قاتمة لمستنير رائع".. هكذا قال المحقق "وليام" أثناء تجوله داخل أحد الأديرة المنعزلة في إيطاليا، ليحقق في جريمة قتل غامضة لراهب بهذا الدير، الذي يعتقد رهبانه أن شيطانًا يسكن بينهم هو المتسبب في هذه الواقعة وما تلاها من وقائع مشابهة لقتل رهبان بالدير نفسه.
هذا ملخص لأحداث فيلم "اسم الوردة" The Name of The Rose، المأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الإيطالي الشهير "أمبرتو إيكو"، الصادرة عام 1980.
ربما تُستدعى أحداث هذه الرواية في ذهن بعض من قرأوها أو شاهدوا الفيلم، بعد واقعة قتل الأنبا إبيفانيوس، رئيس دير الأنبا مقار، الأحد قبل الماضي، في "ظروف غامضة"، حسب وصف البيان الأول للكنيسة تعليقا على الحادث.
بالتأكيد لا يصح أن نتوقع تشابه النتيجة من عدمه، فالتحقيقات ما زالت مستمرة، لا نريد استباقها، لكن يمكننا أن نسرد عدة احتماليات، وفقا للمعلومات التي جمعتها زيارتنا للدير، والحديث مع من لهم صلة بالأمر، والبحث في أسباب اختلاف رهبان هذا الدير منذ ما يزيد على 50 عامًا.
ليس عملًا إرهابيًا
في تلك الأيام في الدير الواقع بصحراء وادي النطرون بمحافظة البحيرة، الشمس قاسية، الأجواء متوترة، الأمن ينتشر في كل مكان، الاستجوابات مستمرة، والزيارة ممنوعة لأي شخص غريب.
منذ أن ظهرت بعض المعلومات الأولية عن الحادث، بدت احتمالية أن يكون ذلك عملا إرهابيًا بعيدة، فالحادث وقع في وقت مبكر من صباح الأحد، تقريبا عند الساعة الثالثة والنصف، وهو الوقت المحدد لصلاة باكر بكنيسة الدير، التي يوجد طريقان للذهاب إليها.. يأخذ الأنبا إبيفانيوس منهما الطريق المختصر المواجه لقلايته (مكان سكن الراهب)، والتي تتشابه مع جميع القلالي المجاورة، ولا يوجد بها ما يميزها عن غيرها، ويقطع هذا الطريق – بحركة سيره البطيئة – في ثلاث دقائق تقريبا، ولا يوجد خلاله أي كاميرات مراقبة.
كلها مؤشرات جعلت التفكير في أن إرهابيا قد قام بذلك، لكنه يبدو غير منطقي إلى حد كبير، فهو لا يمكنه معرفة هذه التفاصيل الدقيقة الموجودة داخل أسوار الدير، التي لا يتخطاها إلا زائرون معروفون ومكشوف عن هوياتهم مسبّقا، إضافة إلى أن الإرهابيين يريدون عادة استهداف أعداد كثيرة، كما حدث في تفجيرات الكنائس السابقة، ولا يهمهم شخص بعينه، إلا إذا كان رمزًا أو لعله في صدام مباشر معهم.
الفاعل من الداخل
لا يمكن فهم ما حدث داخل هذا الدير- على وجه الخصوص- دون قراءة لتاريخه، فلم يخلُ الدير القديم الذي أسسه القديس مقاريوس (المسمى الدير باسمه)، عام 360م، من خلافات وانقسامات بين رهبانه، تعود أسبابها إلى سنوات مضت.
وقد عُرف القمص متى المسكين بأنه أبٌ روحيٌ للدير، وذلك منذ عام 1969، حيث تجمع حوله عدد كبير من الرهبان، أحبوه، واتبعوا تعاليمه جيدًا، حيث قال إن هدفها هو "عودة الرهبنة إلى أصولها الأولى"، فشجعهم على القراءة من المصادر نفسها، والانصياع لما يقوله الكتاب المقدس فقط.. وسببت أفكاره التي عبر عنها في كتبه خلافًا حادًا مع البابا شنودة- حتى قبل أن يتولى البابوية- حول عدد من الأمور العقائدية، ولم يقتصر الأمر على النواحي الدينية فحسب؛ إنما تخلله أمور سياسية أيضًا، إذ إن المسكين أصدر كتاب "الكنيسة والدولة" الذي وصفه البابا شنودة في إحدى محاضراته عام 91 بأنه "حارب الكنيسة مثلما لم يحاربها أحد".
وقبل إصدار الرئيس الراحل أنور السادات قراره ضد البابا شنودة، الخاص بتحديد إقامته داخل الدير في سبتمبر 1981، وتعيين لجنة خماسية لإدارة الكنيسة، قال القمص "متى" إنه تقابل مع السادات، واقترح أسماء أعضاء اللجنة، بعدما وجد تصميمًا منه على اتخاذ القرار، لكن نصحه بألا يمس وضع البابا الديني، مؤكدًا أنه رفض عرضه بتولي البطريركية، لأن قوانين الكنيسة لا تجيز ذلك- بحسب كتاب "أبونا القمص متى المسكين.. السيرة الذاتية" (التي دونها بنفسه).
لم يكن ذلك محل تصديق من البابا شنودة، وزاد من قناعته ما قاله المسكين لمجلة تايم الأمريكية بعد قرار السادات بأيام: "لا أستطيع أن أقول إنني سعيد، لكنني في سلام الآن. قرارات السادات حمت الكنيسة والأقباط، فهي من الله".
لذلك منذ أحداث سبتمبر 1981، لم يلتقِ البابا شنودة بالقمص متّى، حتى زيارته لدير الأنبا مقار في نوفمبر 1996، تبادل الاثنان كلمات التحية، لكن خلافهما ظل مستمرًا، ولم يزُرْ البابا الدير ثانية إلا بعد وفاة المسكين عام 2006، وكان ذلك في عام 2009، وبحسب الرواية التي يسردها الموقع الرسمي للدير: "فور معرفة الرهبان بنبأ استقالة الأنبا ميخائيل، مطران أسيوط، من رئاسة الدير بعد مضي 65 عاماً، توجَّه وفد منهم إلى البابا، أبلغوه رغبتهم أن يكون هو- شخصياً- المسؤول المباشر عنهم، ورجَوْه أن يزور الدير، فاستجاب، وذهب إليهم في صباح يوم 5 مايو 2009، وألقى عليهم كلمة عن الرهبنة، ثم ألبسهم القَلَنْسُوة بعد أن خيَّرهم في ذلك (المقصود هنا غطاء الرأس المشقوق من المنتصف، والمرسوم عليه صلبان، وهى القلنسوة التي يرتديها كل الرهبان، وكان يخالفهم فيها رهبان هذا الدير فقط، لارتدائهم القلنسوة القبطية، التي عرف بها الأب متى المسكين)".
كان الراهب باسيليوس المقاري الذي يبلغ من العمر الآن 84 عاما، شاهدًا على كل تلك الأحداث بحكم وجوده في الدير منذ عام 1973.
يروى لـ"مصراوي" أنه منذ هذا الوقت (أي وقت وفاة القمص متى المسكين)، والدير منقسم، حيث وفد إليه مجموعة من الرهبان الجدد، رسمهم البابا شنودة في دير آخر، ليسوا على وفاق مع رهبان الدير القدامى، كذلك مع الأنبا إبيفانيوس باعتباره تلميذ القمص متّى، والذي أصبح فيما بعد رئيسا للدير عام 2013 بموجب انتخابات، لم يصوتوا له فيها، حتى إن عددًا منهم مازالوا يقيمون بمزرعة الدير، وليس في القلالي الخاصة بالرهبان.
جاءت إلى الدير عربة صغيرة، كان يستقلها زائرون يجهلون قرار إغلاقه منذ الحادث، فأعادهم الأمن قبل وصولهم للحواجز الحديدية المواجهة لبوابة الدير الرئيسية، إذ إنه في هذا الوقت من كل عام تعتاد الكنائس تنظيم رحلات إلى الأديرة. هنا يأتي الزائر ليتجول بين كنائس الدير الثلاث القديمة، لرؤية القباب التي يقول عنها الدير إنها من "روائع الفن المعماري"، ليمر على الحصن الذي اعتبره الدير "أعظم وأضخم حصون الأديرة القبطية"، ليذهب إلى المطبعة، التي يصدر عنها مجلة "مرقس" الشهرية المعبرة عن أفكار ساكني الدير، أو إلى المكتبة، التي تحفظ الكتب والمخطوطات القديمة، ومؤلفات القمص متى، التي مُنع تداولها في أي مكان آخر بسبب خلافه مع البابا شنودة.
ربما أيضًا يسرق انتباهه مؤلفات الأنبا إبيفانيوس المتأثر بكتابات معلمه متى المسكين، والذي قال عنه عام 2016 في مؤتمر بإيطاليا، بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته: "من الصعب على غير الدارسين لتاريخ الكنيسة القبطية في العصر الحديث أن يُدركوا مدى الأثر الذي تركه الأب متى المسكين ومدى تأثيره على الحياة الرهبانية. أحدثت كتاباته تغييراً ملحوظاً في مجال التعليم بالكنيسة، وآمن أنَّ الوحدة المسيحية يمكن أن تتحقَّق".
كان موضوع الوحدة بين الكنائس الذي ذكره الأنبا إبيفانوس في كلمته بهذا المؤتمر، هو الشيء الذي ظل ينادي به سيرًا على درب معلمه، وتوافقًا مع أفكار البابا تواضروس، والتي يعارضها عدد ليس بالقليل من الأساقفة.
لعل قضية "توحيد المعمودية" بين الكاثوليك والأُرثوذكس، التي تمت مناقشتها أثناء زيارة بابا الفاتيكان الأخيرة إلى مصر، العام الماضي- هي الشاهد الأكبر على الفكرين المختلفين بين أساقفة الكنيسة، حيث يقف أساقفة معارضون لها لأسباب يقولون عنها "تمس المفاهيم الإيمانية"، ذلك في مواجهة أساقفة أخرين ينتمون إلى "تيار التجديد"، وكان منهم الأنبا إبيفانيوس الذي قدم دراسة للمجمع المقدس يعلن فيها أسباب قبوله لمعمودية الكاثوليك.
هذا الانفتاح جعله يكون ممثلا عن الكنيسة في مؤتمر حوار الأديان بإيطاليا، ودفع أيضًا البابا إلى اختياره مراقبًا بلجنة الحوار اللاهوتي، وهو منصب مستحدث، بقى على مقربة منه، وهو ما كشف عنه أثناء صلاة الجناز عليه، الثلاثاء الماضي: "في حياة نيافة الأنبا إبيفانيوس نتعلم الكثير والكثير. كان وديعًا ودائمًا يبحث عن سلام الكنيسة والدير. كان حكيما وكان رأيه دائمًا صائبًا، والحقيقة كنت أسترشد به كثيرًا في القرارات التي كنت آخذها".
ربما سبّب ذلك إزعاجًا للبعض، يقول الراهب العجوز الذي كان مقربًا منه: "كان يحكي لي أحيانًا أنه أثناء اجتماعه مع أساقفة المجمع المقدس، كان بعضهم يختلفون معه في آرائه، لأنه كان صريحًا، مثقفًا، يُدلل على آرائه من مراجع الكنيسة، لكن قِلة- دون ذكر أسمائهم- قالوا له في إحدى المرات في حوار جانبي (لما تكون في اجتماع المجمع ما تتكلمش ولا كلمة واحدة!)، وكانت لهجتهم كأن بها نوعًا من التخويف له".
لم تكن أمور هذا الدير هادئة أبدًا، ففي عام 2015، قرر راهب يدعى يعقوب المقاري تركه ليؤسس ديرًا جديدًا باسم "السيدة العذراء والأنبا كراس" بوادي النطرون أيضًا، وهو ما جعل الدير يصدر بيانا رسميا بتوقيع الأنبا إبيفانيوس ليتبرأ من هذا الراهب.
حين ذُكرت سيرته أمام الأب باسيليوس، جاء رد العجوز هادئًا: "قصة هذا الشخص انتهت، ولم يعد لنا علاقة به منذ هذا الوقت، ولم يأتِ إلى الدير مرة أخرى".
في حين أن راهبا آخر يدعى أشعياء المقاري، في الثلاثينيات من عمره، لايزال موجودًا- حتى وقت حديثنا- رغم مشاكله مع الدير: "هذا الراهب جاء إلى الدير، منذ فترة قصيرة، تسبَّب في مشكلات كثيرة، تتعلق بسلوكياته وأخلاقه، وقد رُفعت على الدير قضية بسببه، وأرسل الأنبا إبيفانيوس للبابا شكاوى عنه، ثم قرر إبعاده في فبراير الماضي ونقله لدير آخر، لكن توسَّط رهبان بتقديم طلب للأنبا إبيفانيوس ليسامحه، وقد استجاب بالفعل، وظل موجودًا بيننا".
لكن، أمس، أُصدر قرارًا بتجريد هذا الشخص من رهبنته، وطرده من الدير، نتيجة التحقيق من جانب لجنة خاصة مُشكلة من اللجنة المجمعية لشؤون الرهبنة.
قبلها كانت لجنة الرهبنة وشؤون الأديرة بالمجمع المقدس، قد أصدرت قرارات "حاسمة"، كما وصفها الكاتب كمال زاخر، مؤسس التيار العلماني، الذي كان قد تقدم بمقترحات تحمل نفس المضمون للبابا تواضروس مع بداية توليه منصبه، ووعده الأخير أن يأخذها بعين الاعتبار، لكن زاخر يرى أنه نفذها الآن "لأن المناخ بعد هذه الواقعة يسمح له باتخاذ قرارات إصلاحية".
تضمن بيان اللجنة 12 قرارا، أهمها: وقف الرهبنة في جميع الأديرة داخل مصر لمدة عام، تحديد عدد الرهبان في كل دير بحسب إمكانياته، التدقيق بالتزام الراهب داخل الدير، ممنوع الظهور الإعلامي لأي راهب لأي سبب وبأي وسيلة، ممنوع التورط في أي تعاملات مالية لم يكلفه بها ديره، ممنوع التواجد خارج الدير بدون مبرر، غلق الرهبان لأي صفحات أو حسابات لهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
الشك يَطَال العمال
في الشمال الشرقي من الدير، توجد مباني المزرعة الموجودة على مساحة عشرة أفدنة تقريبا، وهي عبارة عن ورش وحظائر المواشي والدواجن والمخازن، وقرية عمالية كاملة تستوعب 500 عامل زراعي، إضافة إلى جراجات خاصة بالمعدات.
تقول التحريات الأولية في القضية: إن الضربة تمت بواسطة آلة حادة، أدت إلى تهشم الجمجمة.
واصل العمال أشغالهم في الدير بشكل طبيعي، لم يكن هؤلاء محل شك الأب باسيليوس، يبرر ذلك قائلا: "ليس من مصلحة أي عامل أن يقوم بذلك، نحن نطلب العمال بالاسم من بلادهم في الصعيد، ونعرفهم جيدًا، علاقتنا بهم جيدة، وهم يحاولون المحافظة على عملهم، كما أننا لم نكتشف حدوث أي سرقة".
الفاعل من الخارج
يحرس الدير أفراد أمن يتواجدون فقط أمام بوابته الرئيسية، لم يتغيروا منذ سنوات طويلة، جميعهم من محافظة البحيرة، سألتهم إن كانوا يعرفون رئيس الدير، فقال أحدهم باقتضاب: "لم يكن خروجه كثيرا. يلقي السلام علينا. عرفناه هادئا ومحبوبا".
عبرت أمامي سيارات كثيرة لرجال أمن وأخرى تحمل بضاعة وأعلاف للدير، بعد تفتيشها جيدًا.
يحيط بكل ذلك أراضٍ زراعية مترامية، البيوت تتوسطها، لا يفصلها عن الدير إلا سور ربما لا يتعدى طوله 6 أمتار تقريبا.
إذًا، هل من الممكن أن يكون مرتكب الجريمة شخص من خارج الدير ربما بمساعدة أحد في الداخل أبلغه التفاصيل؟ ولم لا؟ خاصة أن الدير الذي يقع على أكثر من 10 كيلومترات مربعة لا يمكن تأمين سوره بالكامل.
كما أن للدير مع هذه الأرض حكاية: في يوليو 2014، أرسل رهبان الدير بـ"استغاثة عاجلة" موقعة من الأنبا إبيفانيوس للرئيس عبدالفتاح السيسي، للتدخل الفوري من أجل وقف التعدي على أراضي المنطقة الأثرية المحيطة بالدير، إذ استولى شخص يدعى "ج. س" من أصحاب السوابق الجنائية على مساحة تُقدر بـ500 فدان، كما سبق له التعدي على الدير وإطلاق أعيرة نارية في وجود مسؤولي الآثار ورهبان الدير والتهديد بحرقه- بحسب نص الشكوى.
ومنذ 3 شهور، أفاد خبر منشور بأن الأرض المحيطة بهذا الدير مازالت مطمعًا للبعض، وهو ما دفع مجموعة من رجال الأعمال للتعاون مع الدير، للتقدم إلى وزارة الآثار بطلب لإقامة سور حولها على نفقتهم الخاصة، لمنع التعدي على ما تبقى منها، لكن المسؤولين رفضوا ذلك، دون إبداء أي أسباب.
في هذا الأمر، أكد الأب باسيليوس أن هذه المشكلة قد تم حلُّها حين جاءت الشرطة وطردت المعتدين، وأضاف أن هذه الاحتمالية بعيدة عن واقعة القتل، لأن هؤلاء لا يمكنهم معرفة تفاصيل الدير، ولا يحتمل أن أحدا ساعدهم.
يمر الوقت.. تستمر الاستجوابات داخل الدير.. تُطرح هذه الاحتمالات وغيرها، في محاولة لحل هذا اللغز الكبير..!
لعل ذلك قد يحدث قبل أن يجتمع رهبان الدير مع البابا تواضروس قريبًا للتحدث عمنْ يخلف الأنبا إبيِفانيوس، ليدير أمر نحو 150 راهبًا في نفس المكان الذي سالت فيه دماء سابِقِه.
فيديو قد يعجبك: