بعد محاولته الانتحار.. مصطفى يقود مبادرة ضد التنمر في المدارس
كتبت-إشراق أحمد:
خمس سنوات مرت، ولازال مصطفى أشرف يتذكر انتحار صديقته "جاسمن" جراء الكلمات المسيئة التي داوم زملائها في المدرسة على قذفها بها. كيف له أن ينسى وهو منذ الحادية عشر من عمره، ويتعرض لمضايقات نظرائه بلغت حد رفع سكين عليه، وإفلات الفاعل دون تأنيبه. طاردت المواقف نفس مصطفى، نهشت روحه، وذات ليلة، بينما يقيم في منزل صديق له، قرر ذو الخمسة عشرة عامًا أن ينتحر.
أمسك الفتى سكينًا، قربها من شرايين يده، وقبل أن يفعل كشف صديقه الأمر، ودعاه لينام ثم يتحدثا في الغد، وفيما اصطنع مصطفى النوم لقرابة 12 ساعة، كان رفيقه يقظًا يراعي سكونه حتى الصباح، وفي اليوم التالي شعر بالامتنان له لمنعه من الانتحار، واتخذ مصطفى قرارًا جديدًا "عايز أعمل حاجة تساعد الناس، أخليهم يحسوا أن فيه حد موجود عشانهم، أنا عايز أكون الشخص ده".
منذ أربعة أعوام، تحوّل مصطفى من فتى يائس وضحية إلى مدرب يعرفه 6 آلاف متابعًا لصفحة "advice seekers" أو "طالبي المشورة". المبادرة التي أطلقها، بينما عمره لم يتجاوز السادسة عشر عامًا، للتوعية من التنمر في المدارس والجامعات.
أمام عشرات من طلاب جامعة "مودرن أكاديمي" في منطقة المعادي، وقف مصطفى لأول مرة يتحدث عن التنمر، الخوف يتملكه، لكنه منذ عقد العزم على الخوض في ذلك الطريق، وتقوية ما تعرض له من مواقف، أخذ يحكي عن صديقته "جاسمن"، وزادته المشاركات ثقة وقوة، يتذكر ذلك الشاب الذي بادله مرارة تعرُّض صديقه بعد وفاته للأذى اللفظي. عمّ البكاء بين الجامعيين، وشعر مصطفى أن عليه ألا يتوقف عن المساعدة.
عانى مصطفى من السخرية والعنف اللفظي، أكثرها عن هيئته، يُسمعه البعض كلمات مثل "يا تخين"، ويداوم آخرون ضربه بمجرد رؤيته. كان طفلاً في الحادية عشر من عمره، يلتحق بمدرسة دولية في منطقة التجمع الخامس، ونشأ خارج مصر، لذلك جهَل لسانه العربية لسنوات طويلة، وصار هذا مثار التنكر عليه كذلك.
لم يكن ما يتعرض له مصطفى يؤلمه وحده، بل السلبية من قِبل المدرسين، كثيرًا ما واجه الرد الصادم من مدرسته "بيهزروا معاك عادي"، يستعيد الكلمات مُعلقًا عما أراد التحدث به حينها "إزاي أصلا يتقال لطفل 11 سنة أن الضرب والكلام السيء هزار عادي!".
كان عام حزين على نفس الصبي، الذهاب إلى المدرسة أصبح عقاب، والمتنمرون يراهم يرتاحون في تعذيبه النفسي يومياً دون حتى لفت نظر، لكن القاصمة مع وفاة صديقته الأجنبية "جاسمن".
جمعتهما الرفقة منذ عمر صغير، وظلا على تواصل رغم مغادرتها مصر، كانت تأتي كل صيف، لكن الاتصال بينهما لم ينقطع، لكنه لا يتذكر أنهما قد تحدثا من قبل عن مضايقات تتعرض لها في مدرستها، كما يقول.
يتم مصطفى عامه الحادي والعشرين، ديسمبر المقبل، ولا ينسى تفاصيل ذلك اليوم، كيف بلغه نبأ رحيل "جاسمن"، بعد 13 محاولة اتصال منها به، بينما كان في حصة للغة العربية، ومعاودته التواصل معها دون رد منها، حتى انفتح الخط على صوت والدها يخبره "اعتذر لما فقدت.. لقد رحلت جاسمن".
استغرق الأمر أسبوعًا كي يستوعب مصطفى ما حدث، وجلسة طويلة مع والده يُحاول إفهامه معنى الانتحار، وقد علم الشاب من صديقات "جاسمن" أنه نتيجة معاناة ذي الاثنى عشر عامًا من مضايقات إلكترونية، وواقعية تردد فيها أنها قبيحة.
ساءت الحالة النفسية لمصطفى بعد وفاة صديقته، تعثر في الدراسة، وأصبح ذلك مثار تنمر آخر، وصار سلوكه عنيفًا "بعد سنة ونص بقيت بضرب أي حد يتعرض لي"، مما اضطر والده لنقله إلى مدرسة أخرى في منطقة التجمع الخامس أيضًا.
لم يسلم مصطفى من المضايقات في المدرسة الجديدة، رغم اختلاف حال المدرسين "كانوا بيساعدوني بالمواساة لكن مبيوقفوش اللي بيحصل". يُلقىَ التنمر تارة لعزلته، وأخرى لتحدثه باللكنة الإنجليزية وليس الأمريكية كما يفعل غالبية طلاب مدرسته الدولية، وكانت النهاية مع محاولة أحدهم طعنه.
يحكي الشاب عن تلك الحادثة أنه كان في الفناء أثناء فترة الاستراحة، حينما تعرض له ثلاثة من الصبية المتنمرين، سبّه أحدهم بأمه، غضب مصطفى خاصة أنه يتيم الأم من سن الخامسة، تبادل معهم الضرب، إلى أن امتدت يد أحدهم لسكين يستخدمها الطلاب من الكافتريا وقت تناول الغذاء، حاول الصبي درأ الأذى، فتلقى إصابة في يده تركت ندبة.
في عدد من محاضراته أمام طلاب المدارس، يكشف مصطفى عن يده ويروى قصة الجرح، الذي تسبب في طرده من المدرسة التي انتقل منها، إذ رأى الجميع أن مصطفى أحدث عنفًا، وعليه الانتقال إلى مدرسة جديدة. كان ذلك نهاية عام 2011 عندما التحق الشاب بمدرسة قريبة من منزله في منطقة المعادي، وفيها تغير مشواره.
التقى مصطفى زميلة تعاني أيضًا من التنمر، لكن من أسرتها، وفي خضام لحظة حماس، طرح طالب الثانوي حينها إطلاق مبادرة ضد التنمر، للتوعية بما يحدثه من تشوه نفوس الضحايا حد التفكير في الانتحار، والاستجابة للباحثين عن مشورة تعينهم على الدفاع عن أنفسهم من مثل هذه المضايقات فكانت "advice seekers" عام 2014.
ما كان الطريق يسيرًا "قالوا لنا في المدرسة بالبداية مش هينفع ووقفنا شوية لكن فجأة الموضوع بقى جد"، يقول مؤسس المبادرة إن عدد المتابعين لفكرتهم بلغ 600 شخصًا سريعًا، فضلًا عن وصول رسائل عديدة من أمهات وطلاب تخبرهم عن وجود تنمر في مدارسهم، فشدّ ذاك من عزم مصطفى للذهاب إلى المدارس، وجاءه المدد النفسي مع أول زيارة.
بين جمع طلاب للمرحلة الإعدادية، تكرر الحديث عن طالبة تتسبب في إيذاء زميلاتها، دعا مصطفى الفتاة لتقف معه أمام الجميع ويواجهها بما تفعل، لكنها أنكرت وأخذت تبكي، ظنّ الشاب أنها حيلة للخروج من المأزق، وستعاود أفعالها حتى تحدث كارثة، لكن بمجرد انتهاء المحاضرة، وجد مديرة المدرسة تدعوه للمجئ، ليجد الفتاة اعتذرت لكل من أخطأت بحقه، وطالبت بحضوره للتأسف له هو الآخر، ومن وقتها كفّت الطالبة عن التنمر.
من ثلاثة أفراد بالفريق إلى 42 شخصًا، ومن مدرسة واحدة إلى 68 زارها فريق "طالبي المشورة"، يغلب على أكثرها النظام الدولي، لكنها لم تخل من المدارس الحكومية "روحنا حوالي 5 مدارس وبنحاول نوصل لأكتر من كده لكن المشكلة إن المسألة محتاجة إجراءات وورق"، يشير مصطفى إلى صعوبة الحصول على تصاريح لدخول الكيانات التعليمية التابعة للدولة.
حكايات لا حصر لها يتشاركها مصطفى مع الطلاب، في المقابل يمدهم بخبرة التعامل مع التنمر، ومع كل أذى جديد يعرفه، يتأكد أن عليه مواصلة الطريق لأجل مثل أصحاب القصص هؤلاء. يمتن الشاب لمّا استجاب فيها لطلب أم دعته للحضور إلى منزلها والحديث لابنتيها "خوفت وقتها. احنا بنعمل الحملة لمدرسة كاملة وأعداد كبيرة إزاي بس اروح لاتنين وحدهم وليه!". لكن فضوله وشكوكه أن ثمّة خطب عصيب دفعه لخوض التجربة، ولم يخب أمله.
كان ذلك العام الماضي، في منزل تنتمي ابنتيه للمدرسة الألمانية في الدقي، سمع مصطفى ما هاله؛ شقيقتان تتعرضان لإيذاء نفسي شديد من قبل زميلاتهما في مدرسة يُعرف عنها صرامة التعامل مع الطلاب. الكبرى 14 عامًا لا يراها المتنمرات إلا ويضربنّها، والثانية 13 عامًا تعزف آلة الكمان وأشاعت عليها إحداهن أنها "مثلية" الجنس.
ضغط نفسي ألم بمصطفى، كيف يُخرج هاتين الفتاتين من الهم القابض على نفسهما وعلى وشك الانفجار؟. يزداد الأمر تعقيدًا بمعرفة أن الصبية التي تتعرض للضرب طالما شكت لمعلميها، لكن تحالف المتنمرات والإدعاء كذبًا يُضعف موقفها كل مرة "البنت اللي بتضربها كانت بتخلي 10 تانيين يضربوها، ويقولوا للمُدرسة إن هي اللي بتعمل كده فطبيعي تصدق الأغلبية"، أما الآخرى فالحياء مما اتُهمت ألزمها السكوت طوال الوقت.
كسر الصمت، نقل الخبرة الشخصية، التعريف بوسائل الدفاع عن النفس من الثقة في الحديث والتفوق، وعرض تجارب آخرين.. كلها وسائل طرحها مصطفى على الفتاتين على مدار ساعتين، قبل أن يتركهما ويتابعهما بين الحين والآخر.
وفي إبريل 2018 جاءت مصطفى الجائزة الكبرى في نظره، حينما أخبرته الأم بالتغيير الذي أحدثه بابنتيها، فالأولى استمرت في تفوقها، بينما رسب مَن يتنمر عليها وطُردوا من المدرسة، والثانية فازت بمسابقة دولية وصارت أحد أشهر الطلاب المفضلين بين المدرسين وزملائها وانكشف ما فعلوه لها، فيما كان الشاب من الفرحين "أكتر حاجة خليتني أحب اللي بعمله وبقيت عايز أعمل أكتر من كده".
استعادت الفتاتان حياتهما، كما فعل مصطفى من قبل، قلّ التنمر عليه لكنه لم يتوقف، إلى الآن يواجه الشاب مضايقات متعمدة، لكنه أصبح مستعدًا لها، بعد فترة عصيبة مر بها، دفعته للتردد على طبيب نفسي كي تعافى.
تغير مصطفى بفضل المبادرة كما يقول، اكتسب مهارات من زملائه والأطباء النفسيين المشاركين في المبادرة، صار يعرف كيفية التعامل مع الآخرين، لَفَظ الانطواء وبات مشهورًا بين طلاب صغار كُثر يعرفونه من المقاطع المصورة له، التي يتحدث فيها عن التنمر.
من جولاته رصد مصطفى عدة أشياء، أن التنمر أكثر عنفًا بين الفتيات وبعضهن، ومن الصبية على الفتيات، وفي المدارس الدولية يَكثر التنمر اللفظي، فيما تحظى المدارس الحكومية بوجود العنف الجسدي حسب قوله.
سنوات انقضت على بدء المبادرة، كان أهم ما فيها لدى مصطفى أنه تجاوز ما لاقاه، سامح مَن آذوه، حتى أنه تَقبّل انضمام الفتاة التي تنمرت عليه وهو في الحادية عشر عامًا كعضوة بفريق "طالبي المشورة"، التقاها وقَبِل اعتذارها، بعد مُضيّ سنوات على تشويهه لصورتها في الكتاب المدرسي كي لا يراها، أما اليوم يصفها بأنها مؤثرة وتبذل الجهد بين رفاق المشروع.
لا يتوقف بحث واجتهاد مصطفى عما يفيد مشروعه لنبذ التنمر، حتى أنه رفض الالتحاق بالجامعة خارج مصر أو داخلها، خوفًا من أن يوقفه ذلك عن حلم المبادرة، ورغم ذلك يملأ حياته بالعمل في مجال تحرير الفيديوهات مع شركة يوتيوب.
لصاحب "advice seekers" تطلعات لا تنتهي، أقربها التخطيط لجولة تجوب هذا العام المدارس في المحافظات المصرية خاصة الحكومية، فيما يأمل أن تمتد مبادرته لخارج مصر، ولعل البداية ستكون في كندا، يقول مصطفى إنه شكّل فريق يبدأ العمل قريبًا.
يعكف مصطفى على العمل، مُوقنًا أنه لن يستطيع إنهاء التنمر، لكن الحدّ منه بالتوعية وطرح وسائل حماية مثل الدعوة لوجود طبيب نفسي في المدارس، وتدريس السلوك ضمن المواد التعليمية للأطفال من صغرهم، مما يكفل لهم احترام الآخرين، وفهم أن الأذى خطأ فادح وليس "لعب عيال".
تابع موضوعات الملف:
التنمّر على كل شكل ولون.. ذكريات المدرسة "مش وردية"
حقائق حول التنمّر (فيديو جراف)
"إنتوا جايين بلدنا ليه؟".. سوري وسوداني يواجهان التنمّر داخل المدارس المصرية
"انتوا بنات ملجأ".. حكاية 3 فتيات عانين من التنمّر
حائط صد.. الأهالي ساندوا أولادهم لمقاومة العنصرية في المدارس
"كنت متنمرًا".. نورهان أوشكت على الوقوع في فخ الأذى
روشتة "إخصائي اجتماعي مثالي" لمواجهة الأذى النفسي في المدارس
مواجهة "فريدة".. حكاية طالبة تغلبت على التنمر واستقبلت رسالة اعتذار
"الحل عند الآباء".. كيف نتعامل مع الطفل المتنمّر؟
"لسانك حصانك".. التنمّر دفع أحمد وكريم لكراهية المدرسة
بعد حملة "التعليم".. قصص "التنمر" ضد مسيحيين في المدارس
فيديو قد يعجبك: