هل يجوز الاستغناء بالقرآن عن السُّنَّةِ؟
ما قولكم فيمن زعم الاكتفاء بالقرآن وعدم الاحتياج للسنة النبوية؟ بل زعم أن الاستغناء عن السنة يرفع الخلاف بين المسلمين في الأحكام.
تجيب أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصرية:
القرآن الكريم يشتمل على آيات مجملة، ولا بد للعمل بها من شرح يُبيِّنها ويوضحها ويفسرها، وكذلك أخرى عامة ومطلقة تحتاج إلى بيانٍ يُظْهِر ما خُصَّت وقُيِّدت به هذه الآيات، ولا بد أن يكون هذا الشرح والبيان من عند الله تعالى؛ فهو الذي كلَّف العباد، وهو العليم بالمراد من كتابه، فلا اطلاع لغيره عليه.
وهذا الشرح والبيان هو السنة التي نزل بها الوحي ابتداء، أو أقرَّ اللهُ رسولَه عليها؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنِّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ .. [النحل: 44]، وقد بيَّن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)). [أخرجه أبو داود وغيره]. وأخرج مالك في الموطأ بلاغًا، ووصله الحاكم في المستدرك، والبيهقي في الكبرى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: ((قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كَتِابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ)).
وقد زكَّاه الله -في أقواله وأفعاله- في كتابه بقوله: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى* إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ .. [النجم: 3- 4]. فلا انفكاك للقرآن عن السنة، ولا يمكن الفصل بينهما؛ لأنها بيانه وشرحه وتوضيحه، فكل ما وصل إلينا من الدين إنما هو عن طريق سيدنا محمَّد -صلى الله عليه وسلم- وفي مقدمة ذلك القرآن نفسه، فإن قرآنية القرآن لم تثبت لدينا إلا بواسطة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في ذم هؤلاء الضالين المفسدين فيما رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه واللفظ له: ((يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِثْلَ الَّذِي حَرَّمَ اللهُ)).
ومن الأمثلة التي تبيِّن مدى احتياج القرآن في بيانه للسنة قول الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾.. [البقرة: 43]، فهذا يُفْهَم منه وجوبُ كُلٍّ من الصلاة والزكاة. ولكن ما هي حقيقة هذه الصلاة التي أوجبها وما كيفيتها؟ وما وقتها؟ وما عددها؟ وعلى مَن تجب؟ وكم مرة تجب في العمر؟ والزكاة الصيام والكثير من الأمور الدينية الهامة.
فالاستقلال بفهم الشريعة وتفاصيلها وجميع أحكامها من القرآن وحده متعذر من غير بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما سيتضح من الأمثلة الآتي ذكرها، فلا بد لنا من النظر في السنة التي نزل بها الوحي أو استنبطها النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاده من القرآن وأقره الله عليها؛ حتى نتمكَّن مِن فهم مراد الله تعالى، واستنباط تفاصيل الأحكام من القرآن؛ لأن السنة السبيل الوحيد إلى ذلك.
ولو لم تكن السنة حجة وبيانا، لما وَجَبَ ولما صَحَّ لأحدٍ من المجتهدين أن ينظر فيها ويستعين بها على ذلك، ولما فَهِم أحدٌ ما كُلِّف به- فتتعطل الأحكام، وتبطل التكاليف، وهو ما يصبو إليه أعداء الإسلام للقضاء على الدين.
وأما ما ورد من آيات يُتَوَهم من ظاهرها صدق شبهة الاكتفاء بالقرآن، فمن عدم فهمها على الوجه الصحيح يأتي هذا الفهم العقيم، وذلك مثل احتجاجهم بقوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾.. [الأنعام: 38] على أن المراد بالكتاب هو القرآن الكريم، لكن المراد من الكتاب في الآية اللوح المحفوظ وليس القرآن، فإن اللوح المحفوظ هو الذي حوى كل شيء، وهو المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ((جَفَّ القَلَمُ بَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ)).
وأما قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين﴾ .. [النحل: 89]، فقد قال الشوكاني في تفسيره: «﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ﴾ أي: القرآن... ومعنى كونه ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ أن فيه البيان لكثير من الأحكام، والإحالة فيما بقي منها على السنة، وأَمَرَهم باتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما يأتي به من الأحكام، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدَّالة على ذلك، وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)).
قال الإمام الفخر الرازي: «وأما الفقهاء فإنهم قالوا: القرآن إنما كان تبيانًا لكل شيء، لأنه يدل على أن الإجماع وخبر الواحد -أي: السنة النبوية المنقولة عن طريق الآحاد- والقياس حجة، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأصول كان ذلك الحكم ثابتًا بالقرآن».
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ .. [النساء: 80]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾.. [الحشر: 7]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.. [آل عمران: 31].
وأما زعمهم أن عدم الأخذ بالسنة في الأحكام يرفع الخلاف الفقهي بين المسلمين، فباطل؛ والمثال على ذلك ما ورد في عدة المطلقة المذكورة في قول الله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾.. [البقرة: 228]، فلو نظرنا في معنى القُرْءِ لوجدنا أن القُرْءَ من المشترك، بل من الأضداد، فهو يطلق على الحيض والطهر معا، فلو طلبنا الحكم من الآية من خلال اللغة لم يسعفنا ذلك، لأن معاجم اللغة ستعطينا المعنيين المتضادين؛ ففي «المصباح المنير» للفيومي عند تفسيره للقرء: «قال أئمة اللغة: ويطلق على الطهر والحيض».
وبناء على ما سبق فإن الدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم والاستغناء به عن السنة المطهرة هي دعوة باطلة، والعمل بها يؤدي يقينا إلى هدم الشريعة بل وإلى هدم الدين، والذي يدعو إلى الاكتفاء بالقرآن يدعو لإزاحة السنة، وبعد ذلك يبدأ في إزاحة القرآن؛ إذ يبقى معطَّلًا لا يمكن فهمه وتطبيقه بلا بيان من رسول الله ، وينبغي على المسلم التمسك بدينه كما نقل إليه من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، حتى يومنا هذا، كما أن في تلك الدعوة مخالفة صريحة للقرآن الذي يدعي بعضهم الاكتفاء به.
والله تعالى أعلم.
فيديو قد يعجبك: