"رتوش يناير" على جدران المحلة.. حكايات من قلب "شرارة الحرية"
معايشة- محمد سعيد وأحمد جمعة ونورا ممدوح:
يُجرف الزمان ذكريات العهود الفائتة، إلا أن قليلاً من الأحداث تبقى محفورة في جبين الدهر، تتصارع التواريخ في بحر لُجي من التفاصيل المتشابكة، إلا أن "النقاط المضيئة" تخشى أن تتوارى في غياهب النسيان، طالما كان وراء ذلك حكاؤون يتسامرون في أيام بطولاتهم الأولى.
على مسيرة ساعتين ويزيد من القاهرة، انطلقنا صوب "المحلة الكبرى" نبحث عن أُناس هبوا يوم انتفاضتهم الكبرى ضد "فساد الحاكم وحاشيته" بحثًا عن "عيشة هنية" تُغطى احتياجاتهم اليومية، بجانب "رشفة" من الحرية ترفع رؤوسهم إلى الأعلى، وتخلع عنهم رداء "الخوف" إلى غير رجعة وترد إليهم بعض الكرامة التي أهدرت.
رتوش الأحداث الدرامية التي عاصرتها المحلة تأبى أن تُحذف من الذاكرة الجمعية للمدينة الواقعة في دلتا مصر، تبقى "الجدران" مزهوة بشعارات "الحرية" التي خرج الأهالي والعمال للمطالبة بها، تقف أمام التيار الجارف من المناسبات المتلاحقة منذ خمس سنوات على 25 يناير، تبدأ باستفتاء دستوري وانتخابات برلمانية ورئاسية، وتختتم مسيرتها بذات الصراعات السياسية، لكن شعارًا كهذا "المحلة.. شرارة الحرية" يبقى صامدًا في مكانه رغم محاولات "الطمس" المتعاقبة.
في منتصف ميدان الشون ـ أحد أشهر ميادين الثورة في مصر ـ كان في انتظارنا كمال الفيومي، القيادي العمالي وأحد الداعين لإضراب المحلة يوم 6 أبريل 2008 لنبدأ رحلتنا في التنقيب عن بدايات الثورة الحقيقية التي دائمًا ما تكون نبتتها الأولى هم العمال.
"هنا أسقطنا صورة مبارك قبل ثورة 25 يناير بأكثر من عامين"، مشيرًا بأصبعه تجاه منتصف الميدان، قالها الفيومي ـ الرجل الخمسيني ـ وعلى وجهه ابتسامة مليئة بالفخر وممزوجة بالحزن.
وفي طريقنا إلى إحدى المقاهي، يستوقفنا الفيومي، "شايفين الشقة دي، دا مقر جماعة الإخوان، لكن أهالي المحلة أحرقوه أثناء تظاهرات 30 يونيو"، على بعد 10 دقائق سيرًا على الأقدام من ميدان الشون وصلنا إلى مقهى يبعد عن شركة مصر للغزل والنسيج، مصنع القيادات العمالية المناضلين التي تأسست 1927، ورفع العمال لواء المناضلة منذ اللحظة الأولى حيث لم تتوقف مطالبهم التي وصفوها بـ"المشروعة" منذ البداية وحتى الآن، فيما خرجوا مرارًا لدعم القضية الفلسطينية.
البداية في 2008
"لا يمكن أن نتحدث عن ثورة 25 يناير، إلا بالعودة إلى بداياتها" يقولها الفيومي، مضيفًا "البداية الحقيقية لثورة يناير كانت هنا في المحلة، وبالتحديد في 6 أبريل 2008، حينما تحدينا رئيس اتحاد عمال مصر آنذاك حسين مجاور الذي حاول أكثر من مرة الوقيعة بين العمال والقيادات العمالية، حيث دعينا إلى إضراب عام؛ تحقيقًا لمطالبنا بعد أن نفذت كل آمالنا في زيادة الحوافز وبدل الغذاء".
يروي الفيومي ـ وكأن الأحداث كانت البارحة ـ "حددنا يوم 6 أبريل للإضراب لاعتبارين، أولهما أنه تم تحديد يومي 7 و8 لانتخابات المحليات، بحيث يكون كل العمال قبضوا المرتبات ونعرف نقف على رجلنا".
بدأت الحركات السياسية الفاعلة في القاهرة وعلى رأسها حركة كفاية وحزب الكرامة، تنظر لهذا الإضراب وكأنه الحجر الذي سيُحرك مياه الظلم والفساد الراكدة في بحور الدولة، يقول الفيومي "بدأت الحكومة مفاصلها تسيب، حينما زادت أصداء دعوات الإضراب ووجدت من يطالبون بتحويلها إلى عصيان تام ردًا على ممارسات الدولة التي اتسمت بالبطش طيلة ما يقرب من ثلاثة عقود كاملة".
مراوغة
"استدعى حسين مجاور بعض العمال في محاولة لتهدئة الأمور، فيما أعلنت شركة الغزل والنسيج زيادة بدل الغذاء بنسبة 100%"، يضيف الفيومي، "سقف مطالب العمال بدأ يرتفع، وفي محاولة لاحتواء الأمور، علمت باجتماع مسعد الفقي رئيس اللجنة النقابية بشركة مصر للغزل والنسيج، يوم 30 مارس، مع عدد من القيادات العمالية منهم: (محمد العطار، السيد حبيب، فيصل لقوشة، عبد القادر الديب).
واستطرد الفيومي منفعلًا، "قررت أروح الاجتماع ورافقني وائل حبيب، الفقي قال إنه مجهز 13 جواب اعتقال مفتوح لمن يحاول إشعال المحلة يوم 6 أبريل". وبحركة تمثيلية لحديث الفقي مع القيادات العمالية يقول الفيومي نقلًا عنه "يوم 6 أبريل هنزيد الإنتاج وسيتم عمل اتفاقية عمل جماعي تقروا من خلالها بعدم الانسياق وراء العمل السياسي، فقاطعه حسين مجاور بلهجة حادة "البلد لازم تستقر بقى يا جماعة".
وغادر الفيومي دون أن يُوقّع مع باقي القيادات العمالية على الاتفاقية "مش همضي إلا وفيه مكسب لزملائي رغم إن مجاور هددني أني هروح ورا الشمس". فوجئت باتصال هاتفي من ضابط أمن دولة، بعد 48 ساعة من عودتي إلى المحلة، حيث طلب مقابلتي، وحددنا معاد لها يوم الجمعة 4 أبريل. يُضيف "الضابط قالي لي فيه تقارير من القاهرة ضدكم، أنا مش عاوز أضر حد فيكوا"، ما دفعني أن أرد "أحنا مش عاوزين حاجة غير إننا نحقق مطالبنا" فقاطعه الضابط "أنتوا ناوين على إيه؟" فرديت "العمال هما اللي يقرروا". فأنهى الضابط حديثه بنبرة حادة "يوم 6 أبريل خافوا على نفسكوا وعلى عيالكوا، ومحدش يُخرج من البيت".
مؤامرة
حاولت بعد القيادات العمالية المُوالية للنظام آنذاك إثناء العمال عن المشاركة في الإضراب، وأكدوا لهم أن بعض العمال وقّعوا على اتفاق بعدم المشاركة "في اجتماع القاهرة" للوقيعة بينهم. واشتدت القبضة الأمنية مع اقتراب الموعد المُحدد، ففي صبيحة يوم 6 أبريل وبالتحديد الساعة السابعة والنصف صباحًا وبعد وردية الليل تحولت المحلة إلى ثكنة عسكرية بقدرة قادر، وأجروا سيارات أجرة لنقل عمال الورديات عقب خروجهم من باب الشركة إلى منازلهم في سابقة هي الأولى من نوعها".
يضيف "الوشوش كانت غير المألوفة بالنسبة ليّا، حالة من الرعب تملكت الجميع، قبضة القلب انعكست على وجه الرايح والجاي في الشارع، أنا قولت خلاص مفيش أمل، سيرت على قدمي إلى ميدان الشون حيث الصحفيين وعدد من الحقوقيين في انتظار أن ينزع العمال فتيل الإضراب ليتحول إلى عصيان عام في القاهرة. يقول الفيومي "عرفت إنها مؤامرة حينما اتصل بي أحد أفراد قناة الجزيرة مباشر آنذاك ليقول لي أن العمال بيقولوا "احنا زي الفل وملناش مطالب".
نقطة تحول
في تمام الساعة 2:15 ظهرًا، يقول الفيومي "عرفنا أن زميل لنا احتجز في المستشفى ـ التي تبعد عن شركة الغزل والنسيج ببضعة أمتار ـ ذهبت للاطمئنان عليه ولكن فوجئنا بعشرة أفراد يرتدون ملابس مدنية ولكنهم في الحقيقة أفراد شرطة، ألقوا القبض عليّ وزميل معي، ووجدت ضابط أمن الدولة أسامة شكري الذي هاتفني من قبل وحذرني من المشاركة، قادونا تجاه البُوكس ومنه إلى الحجز".
يسرد الفيومي: "استطعنا الساعة 3 عصرًا، أن نحصل على هاتف محمول من بلطجي بالحجز، وكان قد نجح زميلي أن يُخفي شريحة تليفون قبل تفتيشنا، وهاتفت ابني محمود وأبلغته أن يتصل بهشام فؤاد أحد مؤسسي حزب العمال الديمقراطي، وفاطمة رمضان مسئول ملف العمل بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية ويُخبرهم بأنه تم إلقاء القبض علينا".
سيدة خمسينية فاض بها الكيل، خرجت محاولة أن تُزيل من على صدرها مرارة العوز والفقر المدقع، "العيشة بقت غالية" قالتها بصوت يُخالطه الصراخ" هكذا يروي الفيومي حينما سأل ماذا حدث عقب إلقاء القبض عليه. وحاول هيثم الشامي ضابط المباحث آنذاك ـ الذي عُرف عنه قبضته الحديدية في التعامل مع الأحداث بالمحلة ـ أن يثنيها عن فعلها وأطلق عيارًا تحذيرياً في الهواء، "من هنا بدأ الشباب يتجمع والاشتباكات عرفت طريقها إلى ميدان الشون".
لفت انتباهنا بحركة يده، "ميدان الشون ماسك أربع مناطق، طريق سكة زفتى، الجمهورية، المنشية، وشارع البحر"، هذه الشوارع دار فيها الاشتباكات بين الشباب الذي استخدم الحجارة للتعبير عن غضبه حيث وزّع نفسه مجموعات، في مواجهة الغاز المسيل للدموع وطلقات الخرطوش. بدأ العدد في الزيادة حيث التحم عمال شركة الغزل "وردية 3:30 عصرًا" مع الشباب في الميدان، صوت الضرب كان بيوصلنا في الزنزانة، يقولها الفيومي متأثرًا بومضات استذكاريه للأحدث.
حق الحياة
"استدعوني من الحبس الانفرادي بمقر أمن الدولة بالمحلة، الساعة 12 صباح يوم 7 أبريل، وصعدت السلم مَعصُوب العَينين مقيد الأيدي، وظننت أنني سأواجه أبشع أنواع التعذيب"، يقول الفيومي ـ وهو مرتجفًا ويبدو أنه استدعى شعور هذه اللحظات ـ "أصعب خمس دقائق مرت عليّا في حياتي، لاقيت نَفس بيحوم حواليّا وتأهبت لأي تصرف يمكن أن يحدث، وظل لساني لا ينطق سوى: "حسبي الله ونعم الوكيل".
"بلسان يرتجف وقلب يخفق وقدم لا تقوى على حملي حاولت اقناع الضباط ببراءتي، أنا معملتش حاجة كل اللي نفسي فيه أن أكفي عيالي مصاريفهم" يقولها الفيومي ـ المعيل لأسرة تضم 3 أبناء وزوجة ـ متأثرًا، رد الضابط وهو منفعل دون أن أقدر على تحديد شخصيته: "عجبك اللي حصل في المحلة، البلد ولعت!"، واستمر التحقيق لمدة ما يقرب من 30 دقيقة، ثم عدت إلى الحبس الانفرادي مرة أخرى، تلك الزنزانة التي احتوت على قالبي طوب وكرتونة لاسترح عليها، بالإضافة إلى زجاجة مياه للاستخدام الشخصي.
المحلة المحتلة
بالتزامنِ مع التحقيقات المتواصلة لمدة يومين وفي تمام الساعة 3:30 صباح يوم 8 أبريل، قبل أن استغرق في النوم داخل محبسي، جاءني شخص وأعصب عيني مرة أخرى، وقادني إلى سيارة ترحيلات، من المحلة إلى طنطا ومنها إلى الإسكندرية وأثناء هذه الرحلة التي تخللها الضحك في محاولة لمواجهة مصير غير معلوم، علمت ما حدث منذ يوم الإضراب وكيف أهل المحلة ضربوا مثلًا للجميع أنهم قادرون على مواجهة الظلم والاستبداد. يُضيف الفيومي "الأمن انتشر في كل الشوارع وأطلق آنذاك مُصطلح (المحلة المحتلة)، تلك المدينة التي لا تهدأ ليل نهار، الجميع ألتزم بيته "بمجرد دخول الليل مكنش حد بيقدر يخرج، المحال أغلقت أبوابها، المقاهي أعلنت الحداد، الأسواق أصبحت خاوية، الأمن كان بيعتقل بشكل عشوائي، باختصار الدنيا كانت مكهربة".
"بعد 15 يومًا من الكعب الداير، وصلنا إلى طنطا داخل قفص المحاكمة، وقضت المحكمة بمقبول الطعن من حيث الشكل ورفضه من حيث الموضوع حيث وُجهت لنا تهم واهية مثل السطو على 3 بنوك، وقلب نظام الحكم، وعلمنا أننا سيخلى سبيلنا وهو ما لم يحدث". يحكي الفيومي "أدركت إننا محبوسين سياسيًا خاصة أن جميع ما قُبض عليهم معنا تم الإفراج عنهم إلا ثلاثة آخرين غيري، ذهبنا إلى سجن برج العرب بالإسكندرية واحتجزنا لمدة 58 يومًا".
في هذه الفترة بدأت الصحف تكتب عنا خاصة مع الانتقادات التي وجهت من النشطاء والقيادات العمالية نتيجة اختفاءنا، وهو ما حرك الرأي العام حيث صدر في حقنا ما سُمي "إفراج وزير" من الطاغية آنذاك حبيب العادلي. يقول الفيومي عن التجربة "عشت 58 يومًا كأنهم 58 عامًا".
علقم
وفي منتصف أبريل الماضي وبعد 30 سنة من العمل المتواصل أصدرت شركة غزل المحلة قراراً بفصله. يقول الفيومي "فصلوني بدعوى أن بحرض العمال على الإضراب، احنا كنا بنطالب بحقوق مشروعة في زيادة الحوافز عن سنة 1013/12014، بس واضح أنهم شافوني خطر على المصنع، أخرة خدمة الغُز علقم".
"حال العمال أسوأ من قبل ثورة يناير، دائمًا ما يتم نقل العمال وفصلهم وتشريدهم والسبب التحريض على الإضراب وذلك يعكس الوضع الحالي للعمال"، أرجع الفيومي السبب وراء تدهور أوضاع العمال إلى "سيطرة رجال الأعمال على الشركات، فالأوضاع تتراجع مقارنة بأيام مبارك، مفييش تعينات بتحصل، وصناعة الغزل دي صناعة قومية ليه يهمشوها وليه بتعاملوها على إنها عبئ على الدولة".. كلمات اختتم بها الفيومي حديثه لمصراوي مودعًا إيانا إلى عمل جديد في عالم "النقاشة" ارتضاه على أن يبقى مقيدًا محرومًا من حقوقه العمالية.
أقرأ في الملف..
في الذكرى الخامسة لثورة يناير.. ''ما أطول الرحلة'' (ملف خاص)
على ''مائدة يناير'' بالسويس.. ذهبت الثورة وبقيَّ رحيقها
عبدالله السناوي: إذا نزعنا ''ثورية'' 25 يناير سقطت 30 يونيو - حوار
بورصة يناير.. مؤشرات 5 أعوام بين القضبان والاختفاء والمنفعة (ملف تفاعلي)
في سنة 5 ثورة .. المَلف الحقوقي ''لم يُراوح مكانه''
''هتيف السويس''.. والاسم ''عربي'' (بروفايل)
نائب رئيس قطاع الأخبار يحكي كواليس تعليمات الحزب الوطني ونهاية مبارك (حوار)
''ثوار''.. جبهة تعثرت في طريق الثورة
فيديو قد يعجبك: