"سجينة طهران".. فصل من حياة فتاة إيرانية داخل سجن "إيفين"
كتبت-رنا الجميعي:
تضع عصابة على عينيها، وتمسك طرف شادور -الرداء الإسلامي الرسمي بإيران- الفتاة بالصف أمامها، وفي طابور تسير الفتيات إلى مكان لا يعرفن حدوده، ويتجهن نحو العراء الذي يحسونه بالبرودة التي تنخر في عظامهم، في ظُلمة لا يُقدّرون آخرها، لا تُنزع عنهم تلك العصابات، يقفون بجوار بعضهم البعض، يديرون ظهورهم نحو اللا مكان، يعرفون حينها أنه وقع عليهم حُكم الإعدام، يوقنون ذلك مع صوت تكات البنادق، هناك صوت سيارة قادم بسرعة بشكل مفاجيء، يقطع المشهد المقرر نهايته لجميعهم بالموت، يُستثنى من ذلك المشهد فتاة صغيرة، لا يتجاوز عمرها السادسة عشر، ورقة تُخلصها من نهاية ذلك الفيلم، ليضعها مع أحداث فيلم آخر، فمارينا نعمت تم تخفيف الحكم الصادر ضدها إلى السجن مدى الحياة.
تحكي مارينا في سيرتها المُسماة "سجينة طهران"، الواقع عدد صفحاتها بـ339، جزء من سيرة حياتها التي لا تنتهي باعتقالها في سجن "ايفين" بطهران، بعد قيام الثورة الإسلامية هُناك بنحو عامين -1982- حيث تظل هناك سنتين آخرتين بسبب الأقدار، رغم الحكم الصادر بسجن مدى الحياة، فلم يمضي سجنها بالشكل المتعارف عليه كأي معتقلة سياسية، حيث مر العامان مع كثير من الحزن والألم والأمل، وقائع عديدة ألمّت فتاة صغيرة، تُرجمت لمشاعر وقعها ثقيل، غير أن مارينا العنيدة والقوية استطاعت تجاوزهم، تقول في مقدمة الكتاب "ما دمت لم أستطع النسيان، فربما يكون الحل في التذكر".
خلال صفحات السيرة المكتوبة، الصادر في طبعته الأولى باللغة الإنجليزية عام 2007، ومترجم للعربية عام 2011، تسرد مارينا قصة اعتقالها عام 1982، بدأتها بالحاضر، حينما داهمتها الكوابيس عن "ايفين" في منزلها بكندا، وجدت الحل بكتابة مذكراتها عنه، عرضتها على زوجها "أندريه" الذي اندهش من الذاكرة التي لم يعرف عنها شيء، توّجه لها بالسؤال : لماذا لم تخبريني من قبل؟، اعتذرت له، غير أنه طالبها هي بالسماح، وحينما استفسرت عن أي شيء، قال لها: عن عدم السؤال.
لم تدخل مارينا مباشرة إلى قصة سجنها، صحيح أن الفصل الثاني يحكي لحظة اعتقالها، وبداية ذلك اليوم الذي استيقظت فيها فجرًا، واستشعرت أمرًا، ثُم قبض الحرس الثوري ليلًا عليها، غير أنها رسمت البدايات الأولى، عن مارينا الطفلة، خطّت بقلمها تلك الشخصيات التي أحبتها، بدءًا بجدتها الروسية زينا، وألفريد صاحب المكتبة، وحتى أندريه، زوجها الثاني، اصطبغت الشخصيات بطابع سحري، أضفته إليها هيبة الكتابة.
لم تسكب مارينا سيرتها على خط زمني واحد، خطّت القصة بزمنين متجاورين، تجاوز نصف الكتاب، حيث سردت طفولتها بالتوازي مع دخولها سجن "ايفين"، وقصّة مأساتها بالداخل، ووصف ظلام ذلك السجن المعروف بسمعته السيئة -في زمن الشاه والخميني- ورغم كل ما تعرضت له لم تنهار بشكل تام، استطاعت بإيمانها وتشبثها بالأمل مقاومة آلام التعذيب، حزن قلبها على رفاقها الراحلين، أوشكت مارينا، قبل تعرضها للسجن، على الانتحار، لكنها تراجعت باللحظة الأخيرة، متذكرة كيف يُمكن أن تحوّل حزنها إلى مقاومة، وهو ما فعلته داخل "ايفين" أيضًا.
لم تذكر مارينا سبب اعتقالها سوى بمنتصف الرواية، على الرغم أنها لم تنضم لأي من الجماعات السياسية في ذلك الوقت، إلا أنها تمردّت، بالمنطق الشائع في عهد الخميني، حيث ضاقت ذرعًا من مدرسة التفاضل التي لا تشرح المنهج بقدر ما كانت أداة لدعاية الثورة الإسلامية، وحينما واجهتها بذلك، تعنتت المدرسة طالبة منها الخروج إذا لم ترغب بالاستماع، وهو ما فعلته، فتبعتها كثير من طالبات الفصل، تحوّلت مارينا إلى قائدة الإضراب الذي استمر لثلاثة أيام، وأجهضته المديرة بتهديدهم بقدوم الحرس الثوري، المعروفين بقسوتهم، من تلك النقطة بدأت مارينا بالاشتغال بالسياسة، حيث ناهضت السلطة بمجلات الحائط، والاشتراك بالمظاهرات، فأصبح اسمها على قائمة المطلوبين بسجن ايفين.
في السجن تعلّمت مارينا كيف يُمكن أن يحيا في قلبها الخوف والشك والغضب والحزن، صارت نزيلة مبنى "246"، ثُم إحدى الزنزانات الانفرادية، بين هاذين المكانين حدث الكثير، تحوّلت مارينا من المعتقلة السياسية التي تُشارك رفيقاتها الغرفة، إلى المعتقلة زوجة علي، أحد الحراس الثوريين، الموكل بالتحقيق معها، والذي وقع في حبها، وهددها بحياة والديها، فقبلت الزواج منه.
رغم حُب علي الكبير لها، وما ظهر لمارينا منه بعدما عرفته جيدًا، أنه بالأساس انسان جيد، غير أن المبادئ التي تحكمه هي على التضاد منه، في إحدى نقاشاتهم سألته: هل ترى إلى أين يقود العنف للناس؟ أنت تقتلهم وهم يقتلونك، إلى متى سينتهي كل هذا؟، لم تستطع أن تحبه، لم تر في زواجها منه سوى "اغتصاب"، رغم درب التغيير الذي سار عليه علي، أوصله ذلك إلى الاستقالة من عمله، وفي تلك الفترة كانت مارينا تحيا بزنزانة انفرادية، اتفقت معه على أن يحضر لها السجينات الجديدات بـ"ايفين"، لتخفف عليهم ولو قليلًا وطأة السجن.
رأت مارينا نفسها خائنة مع موافقتها لزواجها من علي، تستحق الألم والسجن، خلال اقامتها بـ"ايفين"، تمكنت من الذهاب خارجًا عدة مرات، عند زواجها بعلي، وزياراتهم معًا لأسرته، منذ الزيارة الأولى أحبت مارينا أسرة علي، هم مؤمنون غير متشددون، غمروها بالحب رغم غرابة الزواج بمسيحية مناهضة للثورة.
قبل الاعتقال كانت حياة مارينا مليئة بالحركة، بطهران التي تحبها، والبيت الصيفي الذي تقضي فيه أوقات سعيدة، بعد ايفين صارت حياتها محبوسة بين الجدران، لم تُلونها قليلًا سوى رفيقاتها بالغرفة، غيّرت مارينا أسماء الفتيات، كما أضفت تفاصيل من قصص معتقلات أخريات إلى قصصهن، حكت عن سارة التي لا ترغب بنسيان حياتها السابقة، فكتبتها على جسدها ثُم الجدران، وعن اللحظات الجميلة التي جمعتها بترانه، يتشبثان سويًا بالحياة التي تنتظرهما، تقول ترانه: سنذهب في نزهات طويلة سيرًا على الأقدام، فترد مارينا: نعم وسنذهب إلى منزلنا الصيفي، لم يحدث ذلك لترانه، حيث حُكم عليها بالإعدام، ورحلت بينما مارينا مازالت بالسجن.
غريب أن يتذكر أحدنا تفاصيل مرت به وهو في عمر صغير، يسرد الأطوال والأعمار لشخصيات قابلهم في حياتهم، غير أنه على ما يبدو أن مارينا استطاعت سجن حياتها السابقة داخلها، حتى أطلقتها على الورق، حيث تسرد بالضبط أعمار الرجال الذين استقبلوها بإيفين، وأطوالهم، السيدات اللائي أشرفن على مبنى "246"، ووصف ملامح وجوههن.
للمرء أعمار عدة يعيشها داخل حياته الواحدة، هو المسئول عنهم جميعًا، في الثمانينات انقسمت حياة مارينا إلى ما قبل وبعد ايفين، غير أنها بعد سفرها لكندا أول التسعينيات، صار لها حياة جديدة مع زوجها أندريه، وابنها الصغير مايكل، ولعشرين عام قبعت تفاصيل الحياة بإيفين داخل صدرها، لم يسألها أحد عنها بعدما خرجت، لم تدر كيف تخبر أهلها وحبيبها بأمر زواجها من علي، وفقدانها لجنينها منه، حتى أنها تساءلت داخل الكتاب، هل يحمونها أم يحمون أنفسهم.
تنعم مارينا بذاكرة قوية لتحكي عن حياتها السابقة بطهران، تذكر الأناس الذين مروا بحياتها، وتكرر كيف أن حياتها هي امتنان لرفيقاتها الذين تعرضوا للسجن والموت، لكنها كذلك لم تنس ذكر الأناس الذين وقفوا بجوارها وقت كتابة الرواية، وفي صفحتين بعد خاتمة الحكاية تشكر كل واحد منهم لسبب يخصه، ورغم واقعية أحداث الرواية إلا أن الخيال والسحر لعبا بها، ما أضفى عليها جمالًا يليق بشخصية مميزة، تقول مارينا داخل طيات الرواية "كنت أحيانًا أتخيل نفسي سحابة بيضاء صغيرة تنجرف وسط السماء الزرقاء، أو راقصة باليه أمام حشد كبير من الناس، أو سفينة تُبحر في نهر سحري".
أخرجت مارينا ما علق من سواد داخل نفسها، وصار لديها حياة جديدة بكندا، كتبت كتابا آخر بعد سيرتها الأولى، اسمه "بعد طهران"، لربُما تُعالج مارينا روحها بالكتابة، لتستخلص منها روحًا جديدة قادرة على استيعاب الآلام التي تنتهي، ولتتذوق بها الأفراح التي لا تفنى.
تابع باقي موضوعات الملف:
هل أتاك حديث السجون؟ (ملف خاص)
الطريق إلى ''زمش''.. ''لما الشيوعية ماتت م الضحك''
يا صاحبي السجن''.. حكاية ''المعتوم'' بعد 100 يوم سجن
''تلك العتمة الباهرة''.. قصاصات عن الموتى الأحياء
في ''شرق المتوسط''.. كلنا سجناء
''شرف''.. حين يُحول السجن الإنسان إلى ''مسخ''
''حيونة الإنسان''.. طوبى لمن غنّى خلف الجدران
فيديو قد يعجبك: