إعلان

"ديستوفيسكى".. رجلٌ انتصر على الحياة بسِن القلم (الحلقة الثالثة)

04:00 م السبت 26 مارس 2016

ديستوفيسكى

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-علياء رفعت:

"أن تحب شخصاً ما يعني أن تراه كما كان الله ينوي له" هى إحدى أشهر مقولات ديستوفيسكي على الإطلاق، والتي رُبما لم تجرى على لسانه إلا بعد أن قابل "آنا سنيتكينا" من أصبحت زوجته الثانية وأمًا لأطفاله فيما بعد، رافقته رحلته الصعبة حتى رحل عن العالم بعد مُعاناة طويلة مع المرض، ورفضت هى أن تتزوج بعده مرة أخرى مُعللة ذلك "من يمكن أن أتزوج بعد ديستوفيسكي!، رُبما تولستوى؟".

تعرف ديستوفيسكي إلى زوجته "آنا" أثناء كتابته لرواية "المقامر"، حيث كانت تساعده فى أعمال الطباعة، ليُنجز روايته تلك فى وقت قياسي برغم مرضه وإفلاسه نتيجه إدمانه على المقامرة، انقطعت صِلتهم بعدها لفترة، ثم عاد ديستوفيسكي ليطلب منها أن تساعده فى أعمال طباعة روايته الجديدة "الجريمة والعقاب"، لم يكن ذلك الطلب سوى سبيل لخطب ودِ الفتاة العشرينية التي وقع بحبها دون أن يشعر، فالتمس كُل السُبل ليبقيها قُربه قبل أن يطلب يدها للزواج.

فى مذكراتها التي كتبها قبل وفاتها مباشرة روت "آنا" كيف ابتكر ديستوفيسكي طريقة طريفة ليعرض عليها الزواج: "عرض عليَّ الخطوط العامة لحبكة روايته الجديدة، وكان المفروض أن تنتهى الرواية بعودة الفنان إلى الحياة من خلال حب يشفيه وينقذه من وحدته وشيخوخته المبكرة. ولم يخطر ببالى ساعتها أنني كنت المقصودة ببطلة الرواية المزعومة. لكنه باغتني مرتبكًا؛ ما رأيك؟ هل تستطيع فتاة شابة أن تحب فنانا عجوزا مريضا مثقلًا بالديون؟، لنفترض أن الفنان هو أنا، البطلة أنت، فما رأيك؟. وجدتنى أقول له: لو كان الأمر كذلك فعلا لأجبتك: أحبك وسأظل على حبى مدى العمر".

صورة 1

وحين سألته آنا بعدها عن سبب إتيانه بحيلة ليطلب يدها للزواج أجابها ديستوفيسكي: "الحقيقة كنت يائسًا، وكنت أعتبر الرواج منك تهورًا وجنونًا. فالتفاوت بيننا رهيب. أنا شيخ عجوز تقريبا وأنت فى عمر الطفولة وفارق السن بيننا ربع قرن. أنا مريض كئيب سريع الإنفعال، وأنت مفعمة بالحيوية والمرح. أنا إنسان مستهلك أكلت عمري وتجرعت المصائب و الأهوال. وأنتِ تعيشين حياة هانئة والمستقبل كله أمامك. ثم إنى فقير ومكبل بالديون. فماذا أنتظر؟. كنت أخشى ما أخشاه أن أغدو مثارًا للسخرية فيما لو رفضت. فكيف يحق لرجل كهل قبيح مثلى أن يطلب يد فتاة شابة مثلك؟ كنت أتوقع أن تردي علي بأنك تحبين شخصا اخر. ولو جاء جوابك على هذا النحو لكان ضربة قاسية لى، فانا أعانى من وحدة خانقة وكنت أريد أن أحتفظ بصداقتك على الأقل. ولذا أردت أن أستطلع رأيك في البداية من خلال مخطط رواية وهمية. كان أسهل علي عندئذ أن أتحمل رفضك إذ سيكون موجها ضد بطل الرواية وليس ضدي شخصيا."

بعد زواجهما واجه الثنائي العديد من الصِعاب التي اضطرتهما للسفر إلى أوربا فدستوفيسكي كان مَدينًا بالكثير من الأموال لإدمانه المقامرة فترة ليست بالقصيرة، ولكن سنوات الغُربة تلك كانت مثمرة على الصعيد الأدبي، ففي أوربا استطاع ديستوفيسكي إنهاء روايته "الأبله"، ليبدء بعدها في روايته السياسية الأولى “The possessed” والتى كتبها وفقًا لأحداث حقيقية، وتدور أحداثها حول شاب ثوري يقوم رفاقه بالاتفاق على قتله، وقد أثارت تلك الرواية جدلًا واسعًا لدى نشرها.

صورة 2

في عام 1871 تمكن ديستوفيسكي من العودة إلى روسيا مرة أخري ليواصل مسيرته الأدبية، فقبل رئاسة تحرير جريدة إسبوعية تُدعى "المواطن" لينشرله فيها عمودًا صحفيًا بعنوان "مذكرات كاتب" استمر من خلاله بكتابة القصص القصيرة والعديد من المقالات التي عبرت عن أرائه المختلفة، فدام تحريره لهذا العمود حوالى أربع سنوات قبل أن يتفرغ عام 1877 لكتابة رائعته الأخيرة "الإخوة كارمازوف" والتي تروي أحداث مأساة عائلية يتم فيها قتل الأب على يد أحد أبناءه الأربعة.

صورة 3

وتعتبر هذة الرواية من الأعمال الأدبية الخالدة على مر العصور، فهي كما يعتبرها النقاد "تحفة فنية لا تفنى".. لم يكن ديستوفيسكي يعلم أن "الإخوة كارمازوف" ستكون آخر إنتاجا أدبيًا له، ولكن المتأمل لحياته وسيرته الذاتية سيظن أن هذا الرجل الذي خدع الموت سابقًا ربما كان على عِلم بقدومه هذه المرة حتى إنه وضع خلاصة تجاربه فى الحياة بتلك الرواية، واستوحى شخصية الأب فيها من شخصية والده وقسوة معاملته.

سفره للعلاج:

اشتد المرض على ديستوفيسكي الذي كان يعاني مُنذ الصبا من نوباتِ الصرع، وأضاف الكِبر له أمراض القلب والرئة فنصحه الأطباء بالسفر إلى ألمانيا للتداوي فى أواخر عام 1879، هُناك قضى أيامًا طويلة وحيدًا، لا يؤنس وحدته تلك سوى الرسائل التي كان يكتبها لحبيبته وزوجته "آنا".

بعث لها في إحدى هذة الخطابات يقول: "تكتبين لي (كيف يمكنني بأن أحب امرأة عجوز وقبيحة مثلك)، أنتِ تكذبين كليا!. بالنسبة لي أنت الهناء بذاته، ولا يوجد لك مثيل، انتِ بنفسك لا تلاحظين مدى إمكانياتك. أنتِ لا تديرين البيت فقط، وليس أعمالي وحدها، ولكن أعمالنا جميعًا، وتتحملين كل مشاكلنا ونزواتنا. آه كم أحلم بان أجعل منك ملكة، وأعطيك مملكة بكاملها، وأقسم لكِ بأنك تستطيعين ما لا يقدرعليه أحد وهذا بفضل ما تملكينه من عقل راجح رزين، فكر سليم، قلب واسع وطاهر، ومعرفة تدبيرية". لترد عليه آنا بخطابٍ قليل الكلمات، كثير المعاني "أحبك كثيرًا، كما لو أنه لا توجد زوجة على ظهرالبسيطة أحبت زوجها هكذا".

في العام التالي عاد ديستوفيسكي إلى بطررسبرغ بعد أن تحسنت أحواله الصحية نسبيًا وقلت نوبات الصراع التي كانت تداهمه باستمرار، فكان يزور الأصدقاء، يتردد على الصالونات الأدبية، ويقابل مشاهير عصره من العلماء والأدباء، وفى خِضم كل ذلك كان يخطط لكتبة الجزء الثاني -والذي لم يرى النور- من روايته "الإخوة كارمازوف" فكان من المقرر أن يتناول هذا الجُزء حياة الأبطال بعد مرور عشرين عامًا.

وفاته:

حدثت الفاجعة بعد انفجار شريان رئوي، نزف ديستوفيسكي على إثره من فمه مراتٍ عديدة، فأصيبت آنا بالهلع كما روت في مذكراتها "عندما وصل الطبيب كان في حالة إعياء شديد ثم غاب وعيه، غير أن الطبيب أكد لي أن لا خطر على حياته وقال إن الدم سيتخثر في الشريان الرئوي المنفجر ويسد الثغرة، لاسيما وأن ما نزف منه في المرات الثلاث لا يتجاوز قدحين".

صورة 4

توقف النزيف بالفعل إلا أن حالة ديستوفيسكي الصحية لم تتحسن وطلب من زوجته أن تحضر له الإنجيل لتقرأ منه عليه، فكان أول ما قرأت "وإذا السموات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وأتيا عليه"، فنظر لها وهو يقول "سأموت اليوم يا حبيبتي"، ليغفو بعدها بهدوء، فيعاوده النزيف وتوافيه المَنيّة هذة المرة.


اقرأ الحلقات السابقة

''ديستوفيسكى''.. رجلٌ انتصر على الحياة بسِن القلم (1-3)

''ديستوفيسكى''.. رجلٌ انتصر على الحياة بسِن القلم (الحلقة الثانية)

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان