لعبة "ترانتينو" الجديدة.. "الصبر مفتاح الإبداع"
كتب- أحمد الليثي:
"اسم اللعبة هنا.. هو الصبر" جملة عابرة وسط فيلم طويل، جاءت في الدقيقة الثالثة بعد الساعة الثانية من بداية الأحداث، ربما كانت الأنسب لوصف العمل الذي بدء رتيبا حتى أضحي مُبهرا قرب منتصفه، تعم مشاهده الأولى ثلوج كثيفة وإيقاع بطئ، ثم يصبح الدم وفوران الأعصاب سيد الموقف، يشرح ويُشرح ترانتينو شخصيات الأبطال على مهل خلال 80 دقيقة، وكأنه قد صك عقدا مع مريديه، فعلم أنهم على الموعد لإطلاق الصافرة لمباراة تمثيلية في فيلم "الثمانية المكروهون"، وإن تأخرت كثيرا.
وسط عاصفة ثلجية يقف ماركيوس –صمويل إل جاكسون- رائد سابق بالخيالة الأمريكية بعدما تعثر جواده، يستوقف عربة مرت للتو بتمثال خشبي للمسيح وهو مصلوب، يستقلها جون روث –كيت راسل- صائد مكافأت –يحضر الفاسدين والمطلوبين للعدالة مقابل مكافأة مالية- بحوزته أسيرته ديزي ديمارجو –جينفر جيسون لي، يرافقهما ماركيوس الذي يحمل 4 جثث لمطلوبين للعدالة وكذا خطابا شخصيا من إبراهام لينكولن رئيس الولايات المتحدة، قبل أن يلحق بهم المأمور القادم للبلدة المتوجهين نحوها ريد روك.
40 دقيقة مرت دون حدث يجري على الأرض، تخللها موسيقى تصويرية هي الأقوى تأثيرا صنعها إينيو موريكون بإتقان وملابس مقنعة لكورتني هوفمان. المحطة التالية كانت داخل متجر للخردوات، كاستراحة دائمة يعرفها سائق الجياد، غير أن صاحبتها غابت عن المكان وتركته لآخر حتى تعود، حسب روايته، بالداخل اجتمع الشمل، جنرال سابق في جيش الولايات الجنوبية –الداعية للانفصال واستمرار الرق- وقت الحرب الأهلية، وعامل مشنقة ورفيق ثالث من رعاة البقر، انضم لهم القادمون صوب ريد روك.
رغم أن الفيلم ليس ملحميا ولا يعتمد على مناظر خلابة فقد خرج بشريط سينمائي 70 ملم، وكعادة ترانتينو؛ لا يتكلف في إظهار إمكاناته، فلا أماكن مفتعلة للتصوير ولا بهرجة أوحركة كاميرا في غير موضعها، فقط ينتقل مدير التصوير روبرت ريتشاردسون بسلاسة، فقد اقتصرت المشاهد على تلك الاستراحة/ محل للخردوات كأرض للصراع.
مع منتصف الفيلم المقسم لـ5 فصول، تظهر أولى ملامح الحقد لأولئك الثمانية، حين يسخر المأمور المنتظر –والتون جوجيز- من صائد المكافأت الذي صدق في أن يحمل زنجيا رسالة من رئيس الولايات المتحدة، فآذن له بمرافقته، وفي حوار ثري يقول ماركيوس "هل أذيت مشاعرك.. أعلم أني الزنجي الوغد الوحيد الذي قابلته، ولكن هل لديك فكرة أن تكون زنجيا؛ ألا تكون آمنا إلا حين يكون الأبيض أعزل، أو أن تكون هذه الرسالة فعالة بنزع سلاح البيض".
تسريب السيناريو الخاص بالفيلم في أوائل عام 2014 كاد أن يلغي المشروع التالي لترانتينو بعد "جانجو"، فيما قرر الكاتب والمخرج الكبير أن يدخل تصوير العمل في نهاية العام ذاته بتكلفة إنتاج وصلت 62 مليون دولار، وظهرت منه نسخ على الانترنت قبل أن يعرض رسميا في ديسمبر 2015، وسط إعجاب النقاد، وإيرادات تخطت 53 مليون ولار حتى منتصف فبراير الجاري.
في مشهد تالٍ يتقدم الزنجي نحو الجنرال يذكره بأنه حارب في الشمال لتحرير العبيد بينما كان هو يقود جبهات الجنوب لاستمرار الرق، يحاربه نفسيا، يحدثه عن ولده الذي فقده ولا يعرف أين محله، فيخبره أنه مات في اليوم الذي التقاه فيه، حين قرر "وهو الأبيض أن ينزع حياة زنجي مقابل 5 آلاف دولار"، وهنا تجعل الموسيقى الحدث في أوجه، وظف المخرج الموسيقى في المشاهد دون ابتذال أو إسراف، حين يعزف عامل المتجر على بيانو تزامنا مع حوار الجنرال –بروس ديرن- والرائد –صامويل إل جاكسون، يخرج الأخير مسدس ويضعه جوار العسكري المتقاعد، وتدور رحى معركة تمثيلية.
بدأ ماركيوس يحكي كيف انقلب الحال، متى توسل الابن للزنجي أن يتركه يرحل، وأين استجداه ألا يقتله، ولماذا باتت كل أحلامه "بطانية" تقيه الموت متجمدا في الجليد، وكيف أهانه جسديا، بينما تشير الكاميرا إلى الجنرال وهو يتآكل على مقعده، حتى يقبض الرجل على السلاح فيعاجله ماركيوس بالقتل، ويعم حديث عن شرعية ما جرى بأنه دفاع عن النفس.
أداء صمويل إل جاكسون المبهر لم يكن محض صدفة، ففي إحدى اللقاءات الصحفية يحكي الأبطال عن تعامل ترانتينو بنفسه مع كل صغيرة وكبيرة، كيف يوجههم ويشاركهم قراءة النص في منزله، أما الممثل المخضرم -ذو الـ67 ربيعا- صاحب الستة أعمال من أصل 8 للمخرج الكبير فيقول: "بعد 20 عاما وستة أفلام معا، كل ما يحتاجه جاكسون هو مكالمة هاتفية قصيرة".
لا يؤمن ترانتينو بالتصاعد النمطي؛ فالفيلم المرشح لنيل 3 جوائز أوسكار –أفضل ممثلة مساعدة وأفضل تصوير وأفضل موسيقى، استمر 80 دقيقة بلا حراك، من بعدها باتت كل لحظة قادمة تحمل حدثا، قبل مقتل الجنرال بـ40 ثانية كان أحدهم يسم القهوة، جاء ذلك على لسان الراوي، بينما تعزف الأسيرة "ديزي" على الجيتار ولكنه عزف على أوتار الموت، يضج المكان بالدماء، يفرغ صائد المكافأت ما في بطنه، وكذا سائق الجياد، ويرمي المأمور المنتظر قهوته فتمنعه من اللحاق بالقتيلين.
"صانع النجوم" هو اللقب الملتصق بـ"ترانتينو" ففي كل عمل يُخرج مخزون إبداعي لبطل جديد، في "الأوغاد المجهولون" و"جانجو" كشف وجها مغايرا لـ"كريستوفر والتز"، وكان نصيبه محجوزا للمرة الثالثة على التوالي، فيما حصد الدور والتون جوجيز، ولم يخذله بل أدى بشكل مذهل وصنع إطارا محكما لشخصيته فتنسى معه الممثل وتعيش مع المأمور المنتظر ولكنته المميزة، وكذا جاء أداء جينفر جيسون لي –للأسيرة ديزي- ملفتا للغاية، لذا تنتظر أن تحوز جائزة أفضل ممثلة مساعدة في ترشيح يتصارع نحوه 5 ممثلات.
تتعالى صيحات الحقد، ويبدو البقاء على قيد الحياة لأحدهم مصيره يحل بموت آخر، يقرر الزنجي ومأمور ريد روك استجواب البقية الباقية –الأسيرة وعامل المشنقة وصاحب المكان وراعي البقر، وبعد مرور ساعتين من الفيلم تبدو حبكة هيتشكوك جلية، ومن خلال "الفلاش باك" يظهر أن ساكنوا المكان لم يكونوا سوى جزء من عصابة يقودها شقيق الأسيرة "ديزي"، بعدما اغتالوا أصحاب المتجر، ويطل شقيق الأسيرة من أسفل المتجر قبل أن يلقى حتفه، ومن بعده رفاقه وكذا شقيقته، فيما بقي الزنجي والمأمور على قيد الحياة بجراح تئن بالدم.
ويأتي القسم الأخير من الرواية/ الفيلم، المعنون بـ"رجل أسود وجحيم أبيض" ملخصا لصراع أظهر فيه المخرج أبطاله جميعا كأوغاد لا تشعر تجاه أيهم بالتعاطف، في أعقاب مرحلة فقدت فيها أمريكا نحو 620 ألف جندي وعدد غير معلوم من المدنيين، غير أنه احتفى في المشهد الختامي بالمستقبل؛ حين انتصر الشرطي للعدالة وأخذ صف الزنجي على حساب صفقة مع البيض، قبل أن يخوض المأمور المنتظر في قراءة خطاب لينكولين لصديقه الزنجي –بيد غطتها الدماء- والذي جاء فيه "رجال مثلك سيصنعون الفارق، نجاحك العسكري يضيف قيمة ليس لك فقط ولكن لعرقك أيضا، لا زال لدينا شوط طويل لنقطعه.. ولكن يدا بيد".
فيديو قد يعجبك: