"هامش في تاريخ الباليه".. حكاية فراشة مصرية اسمها "ماجدة"
كتبت-رنا الجميعي:
"حينما يُذكر الباليه المصري تُذكر ماجدة صالح".. جملة قيلت على لسان أحد الممثلين بفيلم "هامش في تاريخ الباليه"، للمخرج هشام عبد الخالق. الفيلم الوثائقي الذي عُرض أمس الجمعة ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي، ويحكي عن رواد فن الباليه الأوائل، وكيف نشأ هذا الفن الكلاسيكي في مصر.
قدم باليرينا وأخرى قلم حبر، ذاك هو الشعار الذي ظهر في البداية، ليخط به عنوان الفيلم، كمحاولة من صناعه التذكرة بتاريخ الفن الكلاسيكي في مصر، البداية كانت مع ثورة 1952 كما تقول راقصة الباليه الأولى، ماجدة صالح، حيث كانت العلاقات مع الاتحاد السوفييتي في أوجها، وعلى رأس وزارة الثقافة كان الدكتور ثروت عكاشة، الذي وجه له المخرج، خلال ندوة أعقبت الفيلم، شكرا كبيرا على أنه وزير الثقافة الوحيد الذي اهتم بهذا الفن قائلًا "دا كان بيحضر البروفات".
على ألسنة الباليرينات الأوائل كانت الحكاية: نادية حبيب وعلية عبد الرازق وودود فيظي وديانا حاكاك، يغزلن من خلالها قصة ذلك الفن، منذ افتتاح مدرسة الباليه في الخمسينيات، ووصول معلمين روس، وانتقال المدرسة من موقع لآخر دون أن يكون لها مكانها الخاص، حتى تأسيس أكاديمية الفنون عام 1958، وتخصيص مبنى للمعهد العالي للباليه.
الكثير من خيوط الحكاية كان على لسان صالح، المقيمة بنيويورك الآن، تخبر المشاهدين بما جرى في الفصل الأول من ظهور فن الباليه في مصر، تمكنت هي وزميلاتها الأربع من السفر إلى روسيا، في بعثة عمرها عامين للدراسة بفرقة البولشوي، حلم كل باليرينا، القصة لها جزء طريف أيضًا، فتقول صالح إن إحدى المعلمات أخبرتهن بألا يظهرن أمام زميلاتهن الروسيات بفساتين جديدة كل مرة، لأنهن لا يملكن سوى فستان واحد طيلة العام، "كنا نحن البلد النامية التي يساعدها الاتحاد السوفييتي".
تخرجت الفتيات عام 1965، امتلكن في مصر شهرة كبيرة، وحظين بفخر أساتذتهن، واهتمام وزارة الثقافة بأكملها، أقمن بعروض باليه عديدة في دار الأوبرا القديمة منها كما تذكر صالح "نافورة بختشي سراي"، التي تحكي عن الخان التتاري الذي تمكن في إحدى غزواته ببولندا من أسر الأميرة البولندية ماريا ويقع الخان في حبها فتغار منها بشدة زوجته زاريما، ويظهر ذلك الصراع بشدة في عرض الباليه، وأوضحت المادة المصورة بالفيلم بعض صور ذلك العرض، حيث تناوبت الفتيات على لعب دوري ماريا وزاريما، وظهرت صالح بفستان أبيض كماريا أما عبد الرازق فظهرت بفستان أحمر كزاريما.
اهتمام الوزارة بالباليه لم يقف عند هذا الحد، دعا وزير الثقافة جمال عبد الناصر لحضور إحدى العروض، كذلك حصلت الباليرينات الخمس على وسام الاستحقاق، وبسبب دائرة الاهتمام تلك جاء قرار للسفر إلى أسوان للعرض هناك، كان محل استغراب الجميع عرض الباليه بالبلد التي لا يعرفوا عنها سوى أنها "بلد السد العالي"، لمن سيعرضن هناك؟.
صفوف من رجال الاتحاد الاشتراكي العربي، كان هذا هو جمهور عرض الباليه الأول هناك، صمت بين الصفوف في اللحظات الدرامية من عرض الباليه دون معرفة هل أعجبهم أم لا، كما تحكي صالح، غير أنها فوجئت بعد العرض برجل بسيط يرتدي جلباب، صعد إلى الكواليس يحملق في الفتاة الوحيدة التي مازالت على المسرح، كسرت صالح اللحظة بقول "فيه حاجة يا عم؟"، فرد عليها "يا سلام يا ست أمّا دي حاجة جميلة"، تُعلق راقصة الباليه أنها عرفت وقتها أن احساس العرض قد وصل لهذا الرجل البسيط.
بعد النكسة 1967 بدأت تتغير الأوضاع، تُشير صالح إلى ذلك عبر موقف حدث لها، حيث كان من المفترض أن تسافر خارج مصر في إحدى العروض، وعليها الذهاب لمجمع التحرير حتى تأخذ الموافقة "وقتها مصر كلها كانت لازم تاخد إذن للسفر"، وقابلت أحد الموظفين هناك وما إن رأى الوظيفة المكتوبة بـ"الباسبور" كراقصة باليه حتى قال لها "لازم يكون فيه موافقة من شرطة الآداب"، لم تسافر صالح حيث ثار أباها بسبب هذا الموقف، هاجرت حكاك إلى أمريكا، كما انتقلت عبد الرازق إلى الإسكندرية، وأسست مدرسة للباليه هناك.
يستمر سير الحكاية مع صالح تحديدًا، ورغم أن باقي ضيوف الفيلم يسردون جزء من القصة أيضًا، إلا أن الأساس تملكه صالح، كما لو أن بداية الباليه في مصر خيط ممتد بحياة صالح، كان نجاح صالح مبهرًا، اختيرت من فرقة البولشوي لكي تشاركهم بأحد العروض، حتى جاء حريق دار الأوبرا، عام 1971، ليُغير كل شئ، من خلال صور قديمة لحريق دار الأوبرا، ظهرت الخيبة والحزن على ملامح صالح، التي شهدت الكارثة.
410 من الصور النادرة التي تُظهر راقصات الباليه في عروض مختلفة من بينها "دون كيشوت، بحيرة البجع، كسارة البندق"، بالإضافة إلى مواد أرشيفية سينمائية بعضها من البحرية والمخابرات الأمريكية، غير أن هناك مواد فيلمية أخرى متعلقة بتراث الباليه "أكلتها الفيران"، كما يذكر عبد الخالق أثناء الندوة.
إلى جامعة كاليفورانيا ثم نيويورك، اتجهت دراسة صالح هناك للرقص الحديث، أصابتها مشكلة في الظهر لم تمكنها من رقص الباليه بعد ذلك، غير أنها صارت مصممة للرقصات ومعلمة باليه، كما ظهر اهتمام شديد بمصر من خلاله صنعت فيلم اسمه "مصر ترقص"، تستعرض من خلاله 12 رقصة من مختلف المدن المصرية.
بعد المنح الدراسية عادت صالح ثانية إلى مصر، لتصبح أول عميدة لمعهد الباليه من خريجيه، ثُم أول رئيسة لدار الأوبرا الجديدة بعد 17 عام من الحريق، وكما يقول عبد الخالق بشريط الصوت "اعتقدنا أنها بداية لعصر جديد"، غير أن اتصال من سكرتيرة صالح يُخبرها بمنعها من دخول الأوبرا وإغلاق مكتبها بالشمع الأحمر، أحبط الآمال بحياة فنية ثرية، لم يُذكر سبب القرار القادم من وزير الثقافة الأسبق، فاروق حسني، غير أن أحد الحضور بالندوة قال إن السبب هو دعوة صالح للرئيس الأسبق، حسني مبارك، مباشرة لحضور الافتتاح وتخطيها لوزير الثقافة.
"الاعتذار لماجدة صالح".. هكذا قال عبد الخالق، في الندوة التي أعقبت الفيلم، لما حدث لها من فصل بطريقة غير لائقة،صنع عبد الخالق فيلم يؤرخ لفترة مهمة في تاريخ مصر هو تحية لراقصات الباليه، كما أكد على أنه يجب تكريم هؤلاء الراقصات، اختتم الفيلم بالحياة الحالية التي تعيشها صالح بنيويورك، مع زوجها عالم المصريات، وتقيم فعاليات بمكتبة نيويورك العامة، لفنون الأداء، تُعلي فيه من اسم مصر.
فيديو قد يعجبك: