30 سنة على عرضه.. كيف تمكّن فيلم "الكيت كات" من الخلود؟
كتبت-رنا الجميعي:
في أحد الأيام من ثمانينيات القرن الماضي تعلّق المخرج السينمائي داوود عبد السيد برواية "مالك الحزين"، لكاتبها إبراهيم أصلان، تأثّر كثيرًا بالحكاية التي نسجها أصلان لسكان منطقة الكيت كات، وفي لحظة ما من قراءة الرواية وجد عبد السيد نفسه يتصوّر معالجة سيناريو فيلم للرواية "كانت المُعالجة زي ما تكون رؤية جات لي، والشيخ حسني جزء منها".
لم يكن يعلم عبد السيد أن ذلك الخيال سيتحول إلى حقيقة، وأنه سيتمكن من صناعة واحد من أهم الأفلام المصرية على مر تاريخها، والتي اختارها نُقاد ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في السينما المصرية، واحتفى بها مهرجان القاهرة السينمائي، في دورته الـ42، بمناسبة مرور 30 عام على عرضه لأول مرة عام 1991.
خلال كتابته لسيناريو الفيلم لم يهتم عبد السيد كثيرًا بالالتزام بنص الرواية، بل كانت أمانته تتجلى في نقل حالة شخصيات الرواية إلى الفيلم "كنت حاسس بالعجز اللي بتشعر بيه الشخصيات"، حسبما ذكر في ندوة الفيلم المقامة على هامش المهرجان، وقد اختار عبد السيد الشيخ حسني-الذي لعب دوره الممثل محمود عبد العزيز- بطلًا رئيسيًا للفيلم، رغم أنه لم يكن بطل الرواية "لأن كان عنده صراع قوي يقدر يشيل الفيلم".
في الفترة التي كان عبد السيد يختار فيها الممثلين للعب أدوار الفيلم، وقع اختيار على الممثل محمود عبد العزيز الذي كان مُناسبًا في ذلك الوقت، فقد كان في قمة نجوميته كبطل مسلسل "رأفت الهجان"، كما أن شكله الجسدي تغيّر عما كان عليه من قبل "كان قبل كدا شكله هو الشاب الوسيم لكن وقتها كان عبد العزيز بدأ يتخن ويبقاله كرش"، مما ساهم كثيرًا في تمثيله لشخصية الشيخ حسني.
وحينما بحث محمود عبد العزيز وراء شخصية الشيخ حُسني، أراد مقابلة البعض الذين يُشبهون تلك الشخصية، ولم يعلم عبد العزيز أنه سيقابل تلك الشخصية خلال عزاء والد الناقد الفني طارق الشناوي، فقد وقعت عينيه على مُقرئ العزاء، وهو الشيخ عيد الأبيض، حينها شعر عبد العزيز أن ذلك الرجل يُشبه الشخصية المُتخيلة كثيرًا، وبالفعل قابله عدة مرات بعدها، حتى أن الشيخ عيد الأبيض ظهر كمُقرئ أيضًا داخل الفيلم، تحديدًا داخل عزاء "عم مجاهد"-الذي لعب دوره أحمد سامي عبدالله-، ولم يكتفِ عبد العزيز بذلك؛ بل إنه قابل آخرين ساعدوه على تقمص الشخصية، وقد أضاف عبد العزيز لشخصية الشيخ حُسني بُعدها الكوميدي الذي خفف كثيرًا من الإيقاع الثقيل للفيلم.
لم يدر في بال عبد العزيز أن ذلك الفيلم سيُحقق نجاحًا، صحيح أنه آمن بالفيلم، لكنه كان يقول للممثل أحمد كمال "دا فيلم بتاع مثقفين هما اللي هيحبوه، وهيقعد في السينما أربع أيام"، يروي الحكاية الممثل أحمد كمال خلال الندوة، لكن الفيلم حقق نجاحًا كبيرًا، وأحبّه الجمهور، كما أن الكيت كات حاز على عدة جوائز من بينها مهرجان الإسكندرية ومهرجان دمشق السينمائي، وحينها رجع عبد العزيز لمخرج الفيلم يقول له باكيًا "أنا آسف يا داوود، أنا مكنتش شايف كدا خالص"، وقد كان الفيلم نقلة كبيرة في حياة عبد العزيز الفنية، كما يذكر كمال.
قابل عبد السيد صعوبات عديدة حتى يتمكن من صناعة الفيلم، استغرق الأمر سنوات حتى عثر على مُنتج يتحمس للسيناريو، وهو المنتج حسين القلا، فقد رفض الفيلم العديد بدعوى أنه كئيب وقاتم، كما أن رئيسة الرقابة على المصنفات الفنية في ذلك الوقت رفضت الفيلم بعد تنفيذه بحجة إنه "مينفعش البطل يكون أعمى"، رد عليها عبد السيد حينها قائلًا "يعني نمنع أشعار أبو العلاء المعري عشان هو أعمى؟"، ولكنها وافقت في نهاية الأمر.
لم تكن تلك الصعوبات الوحيدة فحسب، بل أن أحد لا يتخيل أن شوارع الكيت كات التي ظهرت في الفيلم هي ديكور بالكامل، من تصميم أنسي أبو سيف، لكن صنع حارة كاملة في التسعينيات لم يكن أمرًا سهلًا، بل استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى تمكّن أبو سيف من إقناع المسئولين باستديوهات السينما، في البداية اتفق أبو سيف مع إدارة الديكور في الاستديوهات بتحملهم لإحضار العمال مُقابل تحمل صناع الفيلم تكلفة الخامات، وعلى أن يبني أبو سيف الحارة بدلًا من الحارة التي احترقت داخل استديو النحاس، لكن إدارة الاستديوهات عارضت الاتفاق بعد ذلك "وقالولنا نكمل على الجزء الموجود من الحارة المحروقة، وهي حارة اسلامية بيمثلوا فيها زمان المسلسلات التاريخية".
بعدها توصل أبو سيف لحل مناسب، وهو إحضار الخشب الذي بنى به حارة داخل فيلم "اسكندرية كمان وكمان"، وصنع شارعًا واحدًا بدلًا من عدة شوارع-كما كان مخطط له- وبالفعل نجح أبو سيف في صناعة الحارة التي ظنّ كل من شاهد أنها تُشبه الكيت كات تمامًا، وبسبب معضلة الديكور تعطّل الفيلم لمدة خمس سنوات كاملة، واستغرق أبو سيف في صنعها 6 أشهر متواصلة، كما تكلفت 50 ألف جنيه "وكان طولها أقصر ستين متر من الخطة الأولى، وكان عليا إني أعمل إيهام عشان تبان إنها أكتر من شارع واحد".
الموسيقى كانت عُنصرًا لا يقل أهمية عن باقي عناصر الفيلم، وقد شكّل عبد السيد مع الموسيقار راجح داود ثُنائيًا- فقبلها صنع الموسيقى التصويرية لفيلم الصعاليك من إخراج عبد السيد-، وعبر جلسات نقاشية بين عبد السيد وداود تمكّن الموسيقار من الوصول للصيغة المناسبة للفيلم، فقد أوضح عبد السيد له فكرة الفيلم بإيجاز شديد "قالي إن الفيلم بيتكلم عن العجز، وشخصيات بتحاول تثور ضد عجزها"، مثلما كان الشيخ حُسني غير مقتنع بأنه أعمى، ومُحاولًا في أحد مشاهد الفيلم الأساسية ركوب الموتوسيكل، وقتها تجلّت الفكرة داخل داود "قلت أحط آلتين هما عكس بعض، الأرغول ودي آلة صوتها عميق وبتتسمع في الكنايس، وجمبها العود وهي آلة حنينة بتتسمع طول الوقت على القهاوي وفي المحلات"، وبذلك تمكّن داود من تحدّي العجز عبر الموسيقى أيضًا.
أدار الندوة الناقد السينمائي محمود عبد الشكور، وقد شاهد الفيلم في سينما دالاس حين عرضه، ويعتبر الكيت كات بالنسبة له فيلمًا بالغ الأهمية والتأثير، فقد شاهده عبد الشكور في مرحلة الشباب، ومثّلت أغنية النهاية "يلا بينا تعالو" بمثابة "السلام الوطني"-على حد وصفه- لجيله في ذلك الوقت، فقد كانت جُملة "وكل واحد مننا يركب حصان خياله" إجابة سحرية وعزاء للشباب في ذلك الوقت.
برغم من مرور 30 سنة على عرض الكيت كات، لكن الحضور كان أغلبه من الشباب، وهو ما أسعد عبد السيد كثيرًا، فذلك يعني أن الفيلم يلمس أرواح عديدة بغض النظر عن السن، ، ويعني أيضًا أن عبد السيد نجح في صناعة فيلم لازالت لغته السينمائية وحكاياته مُناسبة لليوم، فعبد السيد حين صنع الفيلم مزج رؤيته الخاصة بشخصيات تعيش واقع مُنكسر بعد نكسة 1967، وفي نفس الوقت لم يغفل عن نسج لغة شاعرية تُعطي بعض الأمل كما يغني الشيخ حسني وابنه في نهاية الفيلم "هنهرب من النهاردة ونهرب من المكان\ ونطير ونطير\ نطير مع نسمة شاردة ونروح لأيام زمان".
فيديو قد يعجبك: