حصل مينا ووجدي، طالبا الرهبنة بمعهد إعداد الرهبان، على إجازة لزيارة أسرتيهما.
عاد مينا إلى قريته "دير درنكة" في أسيوط، هذه العودة اختلفت عن غيرها، فكانت المرة الأولى التي يلتقى فيها أماني (اسم مستعار) بثوب الرهبنة بعد ثلاث سنوات من انتهاء قصة حبهما، لم تكن مصدومة أو حزينة، ليس لأنها فقط كانت تعرف الخبر منذ وقت طويل، لكنها أصبحت في علاقة ارتباط أخرى، قالت له إنها بقدر ما كانت تتمنى أن يكملا معًا، لكن لكل شخص رسالة في حياته عليه تنفيذها، وعدته أن يكونا قريبين دائما كأصدقاء، لم يكن يريد أن يسمع سوى ذلك منها، لكنه لا يخفي شعوره بأنها تختلف عن غيرها بالنسبة له، وأنه لازال يتخيل أحيانًا كيف كان سيكون شكل حياتهما إذا اكتملت قصتهما؟
في الوقت نفسه، عندما عاد "وجدي"، وقابل حبيبته السابقة شيرين (اسم مستعار)في قريتهما "حجازة" بالأقصر، لم يشعر تجاهها بأي شيء مما كان موجودا في الماضي، رغم أنها لم تكن قد ارتبطت بعد.
إعلان
إعلان
في سالف الأيام، كان يمكن في يوم مثل هذا أن يتقابل مينا حنا مع أماني في اجتماعات كنيستهما، التي تمنع تقاليد مجتمعهما الذهاب خارجها، يجلسا وسط أصدقائهما، ويخطفان لحظات يتبادلان فيها أحاديث جانبية. ويمكن لشيرين أن تنتظر حتى المساء لترى وجدي في نادي الكنيسة، فهي لا يمكنها رؤيته صباحًا، لأنه الوقت المخصص لعمله في مجال النحت على الخشب، الذي تشتهر به قريته.
كان مينا، الحاصل على دبلوم، يعمل في تجارة الأجهزة المنزلية، وانتقل من أسيوط للإسكندرية قبل رهبنته بـ6 سنوات من أجل هذا العمل، هناك استطاع أن يشتري شقة ليستعد للزواج من أماني.
تغير كل شيء عندما اقترب مينا من الزواج، شعر أن هذا ليس طريقه، وأن زواجه من أماني ليس هو السعادة الكاملة التي ينتظرها، رغم أن أشقاءه وشقيقاته تزوجوا، وكانوا سعداء في حياتهم: "كبرنا، وكل واحد طلع كل اللي جواه، وبدأت تسألني (أنت ناوي على إيه؟ هنكمل؟)، سبنا الموضوع مفتوح شوية، لحد ما كل واحد عرف أنه خلاص"، لم يكن يعرف حتى تلك اللحظة ما الذي يجب عليه فعله؟، فقرر أن يجرب الارتباط بأخريات ليتأكد إذا ما كانت أماني هي سبب هذا الشعور أم لا.
أدرك أن المشكلة لم تكن في أماني، لم يكن راضيًا، لم يرد أن يكون زوجًا ورب أسرة، نما هذا الإحساس داخله عندما واظب على قراءة سير الرهبان، وكأنه اقترب من أن يجد ضالته.
اسمع قصة مينا وأماني بصوت الراهب
إعلان
إعلان
بينما كان لوجدي زاوية أخرى، فلم تكن رهبنته مفاجأة لمن حوله إلى حد كبير، إذ تسبب حديث أهله الدائم منذ أن كان طفلًا عن أنه سيكون في يوم ما شخصا يكرس حياته لله، في شك شيرين طيلة عامين من أن علاقة حبهما ستكتمل، وأنه سيقرر فجأة أن يكون راهبا أو قسيسا كما تنبأت وتمنت أسرته، وبالفعل حدث ما كانت تخشاه.
مر وجدي بقصص حب عابرة، لكن شيرين، كانت قصته الأكبر. سافر إلى الغردقة وقضى عاما كاملا هناك، ليحسن إمكانياته المادية ليتمكن من الزواج منها، لكنه بدلا من أن يعود إليها جاهزا للذهاب إلى أهلها، خاصة وأنها قد اقتربت من إنهاء دراستها الثانوية، عاد مقررًا الرهبنة، شعر أن كل تلك الخطط التي كانت عنده – ادخار أموال وشراء شقة– تبدو عديمة المعنى عندما دقق فيها.
أخبر شيرين بقراره: "قلت لها إن اللي فات كان حب مش تمثيل، لكني هكون مبسوط أكثر في حياتي مع ربنا. حسيت كأن واحد بيحب اثنين، ولازم في الآخر يفضل طرف عن الثاني".
لم يكن وجدي شخصًا محبا كأمثاله من الشباب لإرسال الجوابات، وسماع أغاني الحب، هو شخصية أقرب إلى العملية، حتى أنه كان حريصا على الحفاظ على صورة شيرين دائمًا، واضعا في ذهنه احتمالية رهبنته في أي وقت، لذلك لم تأخذ شيرين وقتًا حتى تتقبل الأمر وتتجاوزه.
إعلان
إعلان
وجد مينا، حين بلغ العشرين من عمره، ما يتمناه في عالم الرهبنة الفرنسيسكانية، حيث البعد والاختلاء وفي نفس الوقت خدمة العالم، ذهب لراعي كنيسته، صارحه برغبته، وشارك فيما تسميه الكنيسة بـ “المسيرة"، وهي التنقل بين أكثر من مكان للاختلاء بالنفس والتفكير والصلاة، وعلى جبل سانت كاترين، اتخذ قراره.
لم يكن سهلا عليه أن يأخذ قرار البعد عن عمله، وأسرته، وأن يتعهد أمام الجميع بعدم الزواج ابدًا، فبعد هذا اليوم الذي كان فيه أعلى الجبل، ظل عاما كاملا يفكر ويتابع الإرشاد الروحي مع راعي كنيسته، حتى قرر أن يتقدم للرهبنة، ذلك الفعل الذي شجعه عليه والده، وحزن بسببه والدته وإخوته، وبالفعل بدأ سنته الأولى في نوفمبر 2011 دون أن يودع أماني.
وبالمِثل بعدما تأكد وجدي من اختيار طريق الرهبنة، جلس مع راعي كنيسته، الذي نصحه بالصلاة والتفكير جيدًا، حينها بدأ يقرأ عن القديس فرنسيس الأسيزي، مؤسس الرهبنة الفرنسيسكانية، وقضى شهرا مع الرهبان ليتعرف على حياتهم أكثر.
سار مينا (29 سنة) ووجدي (31 سنة) في الطريق الذي رأيا فيه سعادتهما الكاملة، والآن هما في سنتهما الثامنة في الرهبنة، يدرسان اللاهوت في معهد الرهبان الفرنسيسكان، ويتبقى لهما عام واحد لتنتهي دراستهما، ويصبح كلاهما راهبا رسميًا.
تزوجت أماني منذ فترة قصيرة وانتقلت من أسيوط إلى القاهرة، ولازال مينا يتواصل معها ومع زوجها، الذي يعرفه منذ سنوات، ويزور أهلها في أسيوط عندما يذهب إلى هناك في الإجازات، وتزوجت شيرين أيضًا بعد انفصالها عن وجدي بـ4 سنوات، وأنجبت، ولم يمنع ذلك أن يلتقيا ويتحدثا حين يذهب في إجازته القصيرة إلى الأقصر.
ينشغل كل من مينا ووجدي في الصلاة، القراءة، والمذاكرة، وأعمال المعهد التي تتوزع عليهم بحسب خبرة كل شخص، لكن مينا لا ينكر أن الحنين للماضي قد يداهمه، يكون قادرًا على امتحان قوة تحمله أحيانًا، وتتزاحم في رأسه أسئلة بلا إجابة أحيانًا أخرى، عندما يتسلل وقت فراغ بين كل هذا.
يسأل نفسه كثيرًا: "هل سأظل وحيدًا طوال العمر؟"، يتمنى لو أن هناك شخصًا يحبه، قد تتمدد أمنيته عندما يغمض عيناه، لكن عليه دائمًا توقيفها، قد يشد على عيناه كما لو أنه يستطيع أن يخفي ذلك كله، يمضي النهار داخل المعهد، ويواصل دراسته وعمله، ويُحدث نفسه كأنه يحذرها من الاستجابة لأفكاره، لأنه وقتها لن يُكمل الطريق الذي اختاره، يقول لها إن الحرية كانت لديه ولازالت إذا أراد التوقف وترك الرهبنة، فيدرك على الفور أن ذلك ما هو إلا "وقت تجربة" وسيمر، يلجأ للصلاة والحديث مع بعض زملائه ومرشده الروحي، ويتذكر أنه عندما كان لديه عمل مربح، وفتاة يحبها، وحياة مستقرة، لم يكن سعيدًا، ودائمًا ما كان يشعر بشيء ينقصه، وجده هنا.