ولم يتمكن من نجا من الموت (سعيد الذي أصيب، وزميله السوري) من التواصل مع قادتهما، بسبب تدمير شظايا الانفجار جهاز اللاسلكي، وسيلة التواصل الوحيدة مع الكتيبة؛ التي اعتبرتهما في تعداد الموتى بمجرد انقطاع الاتصال معهما، وظل الجنديان، المصري والسوري، في الخندق لمدة يومين، حتى أوشك ما معهما من طعام على النفاد، فأدركا حينها أن الموت قادم لا محالة.
يمر شريط الذكريات أمام سعيد المصري، يتذكر حلمه في السفر إلى روسيا، ورهانه على أن حياته ستتغير للأبد بعد انتقاله للعيش في دولة غربية تتشاطر مساحتها المصنفة بالأكبر عالميًا قارتي أوروبا وآسيا.
ففي أواخر صيف 2021، جاء سعيد ذو الـ18 عامًا إلى روسيا، من أجل الالتحاق بجامعة كالينينغراد التي تحمل اسم المقاطعة الروسية القابعة وسط الأراضي الأوروبية، تاركًا أهله بمحافظة الإسكندرية التي ولد ونشأ وعاش فيها، كخطوة وصفها المقربون منه بـ"الجريئة" على طالب انتهى لتوّه من اجتياز امتحانات الثانوية العامة بمجموع 80%، لكن ما شجعه على خوض التجربة رغم تحفظات أسرته إقدام عدد من دائرة معارفه على القيام بها.
عقبات تعلم اللغة في عامه الأول في روسيا، وعامه الثاني بين أروقة الجامعة الروسية، وحلمه في جمع شمل أسرته في روسيا بعد حصوله على جنسيتها التي خاطر من أجلها.
يبتسم سعيد ابتسامة ساخرة، متذكرًا اعتباره الالتحاق للقتال ضمن صفوف القوات الروسية في أوكرانيا الطريق المختصر والأسرع وطوق النجاة الذي سيمكنه من إنقاذ حلمه والتأسيس لحياته الجديدة الدائمة في أوروبا، وكانت معرفته بالتحاق أحد زملائه الطلاب من العرب والمصريين للقتال ضمن صفوف القوات الروسية يعزز فكرة انضمامه.
الشاب المصري "سعيد" وزميله السوري في الفرقة الاستكشافية والكتيبة القتالية كانا من ضمن 100 ألف شاب تعاقدت معهم وزارة الدفاع الروسية خلال الأربعة أشهر الأولى من عام 2024، بينهم آلاف الشباب من جنسيات عربية مختلفه (مصريون وسوريون وعراقيون ومغاربة…وغيرهم)، لا يمتلك أغلبهم خبرات عسكرية سابقة. ووصل إجمالي المتعاقدين منذ إقرار التعديلات على قانون الخدمة العسكرية (في مارس 2022) إلى 420 ألف جندي حتى إبريل 2024، وفقًا لبيانات وزارة الدفاع الروسية.
الفرقة الاستكشافية التي تتكون من سعيد المصري وزميله السوري وثلاثة جنود روس، كانت مهمتهم التوغل بمناطق الاشتباك لتقفي أثر القوات الأوكرانية، وكل جندي منهم يحمل سلاحه وذخيرة احتياطية وقربة ماء وقطع بسكويت تكفيه ثلاثة أيام.
التوقيت الذي تعاقد فيه الشاب المصري سعيد مع الجيش، كان التطوع للقتال في مناطق العمليات العسكرية مثار الحديث في تجمعات الطلاب العرب والمصريين الذين يدرسون في الجامعات الروسية، سواء في العالم الافتراضي؛ حيث امتلأت المجموعات المغلقة والصفحات العامة الخاصة بالعرب باستفسارات وأسئلة عن كيفية التطوع ومميزاته ومخاطره، وتُرجم هذا التفاعل الافتراضي على أرض الواقع، كما يحكي محمد عبد الشهيد، قائلّا: "في دائرة معارفك كعربي أو مصري داخل روسيا تجد شخصا على الأقل تطوع في الجيش"، وانتشرت مقاطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي لشباب مصريين وسوريين يرتدون الزي الرسمي للجيش الروسي، كان أبرزها ما تم تداوله في يناير 2024 لطلاب عرب أصبحوا متطوعين للقتال في صفوف الجيش، وأثار الفيديو حالة من الجدل آنذاك .
"جيش أممي حقيقي.. مقاتلون من النيجر ومصر وسوريا يحاربون إلى جانب روسيا"، تحت هذا العنوان نشرت الوكالة الروسية RT في يناير 2024، تقريرًا مدعومًا بالصور يتحدث عن انخراط مقاتلين عرب ومصريين ضمن صفوف الجيش الروسي في حربه على أوكرانيا.
وأشار التقرير الذي نُشر باللغة الإنجليزية إلى أن واحدة من "الكتائب الأممية" تنشط حاليًا في إطار سرية سكيف التي تتمركز بالقرب من "سوليدار". وقالت الوكالة الروسية: "يخدم هنا جنود من النيجر ومصر وسوريا ومولدوفا. درسوا في روسيا وتمكن منهم حب البلاد كثيراً لدرجة أنهم ذهبوا للدفاع عنها".
تشابه الطريقة التي سافر بها سعيد من أجل دراسته الجامعية في روسيا بطريقة تطوعه في الجيش؛ فكلاهما كان عبر وسيط حصل منه على عمولة، وإن اختلفت طريقة الدفع؛ ففي الأولى (دفع العمولة من ماله الخاص مقدما للوسيط) بينما في الثانية (خُصمت العمولة من المقابل المالي الذي نص عليه التعاقد مع الجيش).
وكذلك اختلاف جنسية الوسيط، فأثناء سفره للدراسة كان الوسيط مصريًا طالبًا بإحدى الجامعات الروسية، بينما الوسيط الذي أنهى أوراق تعاقده مع الجيش الروسي لمدة عام، كان سيدة أعمال روسية، تُدعى بولينا أليكساندروفنا أزارنيخ، معروفة في الأوساط الطلابية العربية والأجنبية داخل روسيا بتسهيل تعاقد الأجانب، خاصة غير المقيمين في روسيا.
تواصل "سعيد" مع "بولينا" عن طريق أحد الطلاب المصريين في روسيا، الذي نسّق له معها وأعطاه رقم هاتفها، وأضافه في مجموعة خاصة "قناة على تطبيق تليغرام"، طالبًا منه الاطلاع على محتوى الجروب أولا قبل التواصل مع معها، "لما تشوف قوائم المنضمين الجدد واستفساراتهم هتفهم أكثر" .
وتكشف قناة تليغرام التي تديرها سيدة الأعمال الروسية، أن أغلب أعضاء الجروب أو المشتركين فيه من خارج روسيا، كما تدل أرقام هواتفهم التي يظهر بعضها لباقي المشتركين بالقناة، ويخفي البعض الآخر أرقام هواتفهم عن جميع الأعضاء كإحدى مميزات الخصوصية التي يوفرها التطبيق ذو النشأة الروسية، ويعتبر انضمام الأجانب من خارج روسيا غير قانوني وفقا لقانون التجنيد الروسي، على عكس الأجانب المتواجدين داخل روسيا؛ حيث يمكنهم الذهاب إلى مقرات التجنيد المنتشرة في جميع المدن والولايات الروسية من أجل التعاقد للتطوع في الجيش بعد التعديلات التي أجريت على القانون من أجل تسهيل انضمامهم.
"نور" الشاب المصري الذي سافر إلى روسيا من أجل الدراسة لم يكن له أي خلفيات عسكرية أو خبرة في استخدام السلاح، وتدرب على كيفية التعامل مع الأسلحة المختلفة واستخدامها، وشارك في تدريبات ميدانية ومحاكاة لعمليات الاشتباك، والتحق بتدريب خاص بالسلاح الذي خدم فيه؛ ليتم بعدها توزيعه على إحدى الكتائب المتمركزة داخل منطقة العمليات العسكرية ولم يحصل "نور" على إجازة إلا بعد مرور 6 أشهر من تواجده بالخدمة وكانت مدتها 15 يوميا.
رغم معرفة "نور" المحدودة باللغة الروسية، وفر مركز التدريب مترجما من اللغة الروسية إلى العربية والعكس، لتسهيل التواصل وتنفيذ الأوامر خاصة أن أغلب المتطوعين في دفعته لا يجيدون اللغة الروسية.
يختلف التدريب الذي يخضع له الأجانب المتطوعون للتجنيد بالجيش الروسي، بحسب الوحدة التي يلتحق بها كل جندي، وفقا لكبير محللي الشؤون الروسية بمجموعة الأزمات الدولية، أوليج إجناتوف، موضحا أن هؤلاء الأجانب لا يشكلون عاملاً حاسمًا في هذه العملية العسكرية، إلا أنهم جزء من الجهود الروسية الحالية للتجنيد ويعتمد على التطوع وليس على التعبئة الإلزامية.
ورغم هذه التدريبات التي يخضع لها أي متطوع أجنبي بالجيش الروسي، لكنها لم تكن كافية لتأهيل المتطوعين لخوض معارك في مناطق العمليات وفقا لأحد القادة الميدانين، الذي وصف هذه النوعية من الجنود بـ"الأغبياء والمتخلفين" في مقطع فيديو متداول عبر قنوات تليغرام الخاصة بأسر الجنود الروس، يظهر فيه هذا القائد الميداني أثناء تدريبه للمتطوعين الأجانب، ويعلق موضحا أن قدرتهم على التعلم والاستجابة بطيئة لعدة عوامل أهمها صعوبة اللغة والتواصل، ويشتكي من أن المترجم نفسه يجد صعوبة في فهم بعض الكلمات الروسية والأوامر التي يصدرها الضابط، وانتشر الفيديو على جروبات المصريين في روسيا وبعض مواقع التواصل الاجتماعي، لم يصدر أي نفي أو تعليق من أي جهة روسية عن محتوى الفيديو .
مشكلة التواصل أكثر تعقيدا مع المتطوعين الأجانب الذين يأتون من خارج روسيا ولم يسبق لهم الإقامة في روسيا أو عمل بها أو الدراسة فيها، كما يحكي "نور" الذي كان ضمن دفعته زملاء لم يمر على تواجدهم في روسيا سوى أيام معدودة، وهذه النوعية من المتطوعين يأتون إلى موسكو بتأشيرة سياحة أو عمل أو دراسة، وبمجرد وصولهم يتم انتهاء إجراءات التحاقهم بالجيش من خلال وسطاء وسماسرة، كما تفعل الروسية بولينا أليكساندروفنا عبر القناة التي أنشأتها على تطبيق تليغرام ويتواجد لها مساعدون من جنسيات عربية على جروبات المصريين والعرب في روسيا يحرصون على التواصل مع المصريين والعرب وعرض مساعدتهم للتطوع في الجيش.
كان آخر متطوعين مصريين من خارج روسيا، وصلا إلى موسكو يوم الجمعة 13 سبتمبر الحالي، كما أعلنت السيدة الروسية على جروب تليغرام، مؤكدة أنهما سيوقعان العقد مع وزارة الدفاع في الاتحاد الروسي.
فالسيدة الروسية تستغل جروب تليغرام لتطويع الشباب من جانب والترحيب بالمجندين الجدد من جانب آخر، إضافة إلى نشر صور القتلى والمصابين من الشباب الذين تعمل على تجنيدهم.
"صديق روسيا" اسم القناة التي أنشاتها الروسية بولينا أليكساندروفنا على تطبيق "تليغرام"، وتضع صورة الرئيس الروسي بوتين بروفايل لها، وتصف ماهيتها بـ"قناة لدعم جيش الاتحاد الروسي بمنطقة العمليات العسكرية"، وترفق بالوصف رابطًا يُمكن المشتركين بالقناة من دعوة الراغبين في السفر إلي روسيا من أجل التطوع في الجيش، وهو ما سهل عضويتنا في الجروب بمساعدة من أحد أعضائه الذي كان يخطط للتعاقد والسفر إلى روسيا من أجل الانضمام للجيش الروسي بهدف الحصول على الجنسية الروسية، لكنه تراجع بعد معرفته بمقتل أغلب من سبقوه من زملائه للتطوع في الجيش الروسي عن طريق نفس الوسيطة.
تفرض "بولينا أليكساندروفنا" حماية على محتوى القناة مستغلة مميزات الخصوصية والتشفير والحماية الأمنية التي يوفرها التطبيق الروسي تليغرام، فلا يستطيع أحد من المشتركين تحميل صور أو فيديوهات أو حتى نسخ ما ينشر، ولا الحصول على لقطة شاشة "سكرين شوت" دون استخدام وسائط أخرى.
وتتباين أعداد المشتركين في قناة "صديق روسيا"، حيث تنخفض تارة وتتزايد أخرى، كما رصدناها على مدار 30 يوما، وكان أقصى عدد للمشتركين وصل إلى 1144 مشتركا، من جنسيات عربية وإفريقية، ويتنوع محتوى القناة بين رسائل تحفيزية للتطوع وعرض مميزات ومواد بصرية عن تجارب المتطوعين للقتال في مناطق العمليات العسكرية أو أخبار المتعاقدين الجدد، وأبرزها قوائم تضم عشرات الأسماء من المصريين المقبولين للانضمام والقتال في الجيش الروسي.
بخلاف قناة تليغرام تملك بولينا أليكساندروفنا حسابين شخصيين على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) غير موثقين، أحدهما يغلب عليه الطابع الخاص، بينما الآخر تشارك وتتفاعل من خلاله في جروبات العرب والمصريين في روسيا.
تقيم "أليكساندروفنا" في مدينة فورونيج الواقعة جنوب غرب روسيا، بحسب بياناتها التي دونتها على أحد حسابي الفيسبوك. بينما علاقتها بالعرب والمصريين لم تقتصر على تسهيل التعاقد من أجل التطوع في الجيش، بل سبق لها العمل في تسهيل سفر الطلاب المصريين والعرب والأفارقة من أجل الدراسة في روسيا من خلال شركة تمتلكها، وفقا لشهادة عدد من المصريين المتواجدين في روسيا، كان من بينهم "محمد حسن- محمود سعيد- عبد الرحمن سيد" سافروا عن طريقها من أجل الدراسة قبل سنوات.
بل امتدت علاقتها بالعرب والأجانب في روسيا إلى أكثر من ذلك، حيث تزوجت قبل 10 سنوات من شاب عراقي جاء إلي روسيا من أجل الدراسة وأنجبت منه طفلها الوحيد وانفصلت عنه قبل سنوات، وعلى إثر هذا الانفصال تم ترحيل زوجها السابق إلى العراق.
وتظهر بيانات "السجل الموحد للكيانات القانونية (USRLE)، مورد المعلومات الحكومي للتقارير المالية، أن "أليكساندروفنا" السيدة التي جاءت من خلفية متواضعة، عملت سابقًا في إدارة شركات صغيرة في مجالات التعليم والسياحة، حيث عملت "بولينا" سابقًا مديرًا عامًا لشركة "OOO RASHEN TURS"، وهي شركة متخصصة في خدمات الوكالات السياحية، ودشنت أعمالها في 15 مارس 2023، لكن الغريب أن الشركة لم تستمر سوى نحو عام واحد وأغلقت، تحديدا في 5 أبريل 2024، باعتبارها كيانا غير موثوق به.
قبل "OOO RASHEN TURS" أنشأت "بولينا" شركة باسم "LLC "INTEREDU في 26 مارس 2021، والتي كانت تعمل في مجال الخدمات التعليمية، مثل تنظيم الدورات التدريبية أو تقديم الاستشارات التعليمية، وأيضًا استخراج تأشيرات السفر للطلاب الراغبين في الدراسة بروسيا، وكانت تستهدف الطلاب العرب تحديدا ومن بينهم المصريون. لكن هذه الشركة تمت تصفيتها أيضًا في 18 نوفمبر 2022 بعد ما يزيد قليلًا على عام ونصف العام من تسجيلها.
كل من شركتي OOO "RASHEN TURS" وLLC "INTEREDU" تمت تصفيتهما وإغلاقهما بعد فترات قصيرة من تأسيسهما إضافة إلى استبعادهما من السجل الحكومي للكيانات القانونية بسبب تقديم معلومات غير دقيقة. هذا النوع من الإجراءات يتخذ عادة عندما تجد السلطات أن الشركة قدمت بيانات غير صحيحة أو مضللة، مما يشير إلى احتمالية وجود شبهات حول نشاط الشركة. رغم ذلك أصبحت "بولينا" السيدة الروسية ذات الملامح الحادة أشهر الوسطاء بين الشباب العرب ووزارة الدفاع، لكن قصتها تتجاوز مجرد التوسط. حيث تعمل على تنظيم عقود للشباب مقابل رسوم تبلغ 300 ألف روبل (حوالي 4 آلاف دولار)، خاصة للقادمين من خارج روسيا، وتحتفظ بالحق في استخدام صورهم بالزي العسكري لأغراض دعائية كما فعلت مع "سعيد ".
السيدة البالغة من العمر 39 عامًا، تُدير عملها من خلف شاشة. ترسل لضحاياها عقودا إلكترونية، تقطع لهم وعودًا برحلة مختلفة عن حياتهم الحالية، أموالا باهظة وإقامة دائمة وجنسية روسية، بينما في الباطن تخفي شبكة من "السمسرة" لإرسال عرب وأجانب للقتال بالصفوف الأمامية لحرب أوكرانيا المستعرة منذ فبراير 2022.
رغم إصابة سعيد رمضان بشظايا إحدى القذائف التي استهدفت الخندق الذي حاولت فرقته الاستكشافية الاحتماء داخله من قذائف الدرون الأوكرانية، حاول الشاب المصري بعد انتظار يومين، ولم يأت أحد لإسعافه أو معرفة مصير أفراد فرقته، إقناع زميله السوري بضرورة تحركهما والاعتماد على أنفسهما من أجل العودة إلى الكتيبة بدلا من انتظار الموت مكانهما، وهو ما رفضه زميله السوري خوفاً من استهداف الطائرات الدرون، ليقرر سعيد التحرك بحثا عن علامات أو إشارات تساعده في الوصول إلى كتيبته، بينما اكتفى زميله السوري بالانتظار كما يفترض أن يفعل في حالات الطوارئ، وفقا لتعليمات قادة الكتيبة.
"أجانب في الصفوف الأولى بمناطق العمليات العسكرية" هذا ما رصده ونشره مركز العمليات القتالية الأوكرانية في خاركيف أوبلاست المحاصرة يوم 4 أغسطس 2024، وذكر التقرير أن بين هؤلاء الأجانب مصريين يشاركون في القيام بأعمال عدائية، وخلال العامين الماضيين رصدت السلطات الأوكرانية زيادة في أعداد الأجانب في القوات الروسية بمناطق الاشتباك داخل الأراضي الأوكرانية، وفقا للنائبة في البرلمان الأوكراني إينا سوفسون، التي أوضحت أن تقارير الرصد ذكرت وجود مصريين مرتين ضمن القوات التي وصفتها بـالمحتلة.
الطلاب المصريون عندما توجهوا إلى روسيا توجهوا لتحصيل التعليم، لكن استغلالهم في الحروب والزج بهم على جبهات القتال أمر مخالف للأعراف والقوانين الدولية، يقول رامي أبو شمسية، عضو حزب الباتريوت الأوكراني، ويصف هؤلاء المتطوعين بــ"المرتزقة"، وهو ما أشار إليه كبير محللي الشؤون الروسية بمجموعة الأزمات الدولية، أوليج إجناتوف، مؤكدا أن القانون الدولي، قد لا يمنح هؤلاء الجنود وضع أسرى الحرب أو المقاتلين ويمكن أن يتعرضوا للمحاكمة بتهمة "الارتزاق"، خاصة أن الدافع الرئيسي لتطوع الأجانب بالجيش الروسي، هو الحصول على المال والجنسية من خلال إجراءات مبسطة، فبعد توقيع العقد، يمكن للأجنبي وأفراد عائلته الحصول على الجنسية.
بعد المعلومات التي عرفناها من المتطوعين ووثقناها عن السمسارة الروسية "بولينا" قررنا خوض تجربة التواصل معها، من أجل استكمال الصورة، والتحقق من روايات المتطوعين وذويهم وأصدقائهم، وكانت البداية بالتواصل معها عبر تطبيق واتساب على أحد الأرقام التي وضعتها على الجروب، لكي يتواصل معها من يرغب في الانضمام للجيش الروسي، وبمجرد مراسلتها للاستفسار منها عن إجراءات الدعوة التي ستتم من خارج روسيا للانضمام إلى الجيش والمقابل المادي، وكذلك الإجراءات المتعلقة بالحصول على الجنسية الروسية، جاء ردها سريعا وبالتفصيل على كل النقاط التي طرحتها من أجل سفر شقيقي إلى روسيا، ودارت المحادثة بيننا كالتالي:
ولم تتوقف "بولينا" على مدار الأيام التي تلت تواصلنا معها عن الاستفسار عن انتهاء استخراج وثائق السفر (جواز السفر وتصاريح السفر من مصر) لكي نرسلها إليها، لكي تتمكن من إنهاء إجراء الدعوة والسفر والتعاقد مع الجيش بمجرد الوصول إلى موسكو، وهي الخطوة التي حذرنا منها أربعة مصريين ممن خاضوا التجربة كاملة، فإرسال أوراق السفر والحصول على دعوة سواء للسياحة أو العمل أو الدراسة، والوصول إلى روسيا، بعدها لا يمكن التراجع عن قرار الانضمام للجيش، بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلي استدعاء بمعرفة الشرطة الروسية لتنفيذ التعاقد الذي وقع عليه بالفعل باعتباره مواطنا أجنبيا على أرض روسيا.
بينما من ينتهي من الإجراءات ويوقع على تعاقده مع الروسية "بولينا" كخطوة أخيرة يفصل بينها وبين التعاقد المباشر مع وزارة الدفاع الروسية بعد وصوله إلى روسيا، فبمجرد الهبوط في مطار موسكو يكون في استقباله أحد العاملين مع السيدة الروسية، كما روى الشاب الثلاثيني "شاكر" ابن محافظة الدقهلية لزوجته، بمجرد وصوله إلى المطار في أواخر سبتمبر 2023، حيث كان في استقباله شخص يحمل لافتة صغيرة مدونًا عليها اسمه بالعربي، وقضى ليلة واحدة في أحد فنادق موسكو، وفي صباح اليوم التالي سافر إلى المكان الذي يتجمع فيه المتطوعون الجدد الذين وصلوا روسيا عن طريق "بولينا"، حيث يتواجدون لمدة يومين أو ثلاثة بمنزل في إحدى الغابات بمحيط قرية صغيرة على أطراف إحدى المدن الروسية (نتحفظ على ذكر اسم القرية والمدينة حتى لا نساهم في استهدافها).
ويمنع على الشباب التحرك خارج حدود المكان، يمكثون وسط حراسة حتى يستلمهم الجيش وفقا لروايات المتطوعين سعيد رمضان ونور السيد، اللذين وصفا طبيعة المكان وما يحدث داخله كما نوضحه في الشكل التفاعلي التالي:
الطلاب المصريون الذين توجهوا إلى روسيا لتحصيل التعليم، يرى رامي أبو شمسية عضو حزب الباتريوت الأوكراني من خلال تجربته في الحرب، أن روسيا تستغلهم على جبهات القتال، مضيفا: "مجرد طُعم في الحرب يدخلون القتال ويقتلون فقط".
المصير الذي لحق بالعشرات وربما مئات المصريين الذين تطوعوا للقتال ضمن صفوف القوات الروسية، والموت الذي ينتظره من نجا منهم، كان سببا في تراجع العشرات عن إتمام تعاقدهم للتطوع بالجيش، وكان من أبرز الرسائل ما عبر عنه الشباب المصري أحمد البحيري بعد مرور 5 أشهر على تطوعه بالجيش في تسجيل صوتي لصديقه "عطية " المقيم في روسيا حاليا، يحذره فيه من التفكير أو الإقدام على تلك الخطوة نهائيا.
قائلا له: “إن القدر شاء أن ينجيه حتى هذه اللحظة من الموت، بعدما تغيرت مهمته من المشاركة في القتال إلى التواجد في مقر الكتيبة بعد إصابته في إحدى مناطق القتال، ولم يذهب مجددا إلى مناطق العمليات العسكرية كما حدث مع رفاقه الـ8 الذين دخلوا معه وماتوا باستثناء اثنين"، ويخبره صديقه: "إذا خرجت حيا من الجيش سأفتح بالأموال التي حصلت عليها مشروعا ونعمل معا".
من أغرب حالات الوفاة التي حدثت لمتطوعين مصريين في منطقة العمليات العسكرية، ما حدث مع "وليد" الشاب المصري الذي لم يتجاوز الـ21 من عمره، وترك قريته شربين بمحافظة الدقهلية، وسافر إلى روسيا من أجل الدراسة، لكنه انضم إلى الجيش الروسي من أجل الجنسية والحصول على المال ومات بعد 40 يوما من التحاقه بالجيش إثر انفجار لغم، كما يحكي صديقه "مروان"، الذي تلقى اتصالا من قائد السرية التي يخدم بها "وليد"، يخبره بوفاة صديقه وأرسل إليه صورة جثمانه.
على عكس سعيد رمضان ونور السيد اللذان اختارا التطوع في الجيش الروسي من أجل الجنسية والمال، كان تطوع محمد محمود وشاكر السيد المفر الوحيد لتجنب الترحيل من روسيا، فالأول مصري جاء إلى روسيا من أجل العمل وعاش فيها 6 سنوات، ولم تكن حياة وردية كما توقع، وازدادت سوءا بانتهاء تصريح العمل الخاص به العام الماضي، ولم يتمكن من الحصول على وظيفة جديدة.
طلب الشاب من والده إرسال أموال له للعودة إلى مصر، وهو ما لم يستطع والده توفيره، فلم يكن أمامه فرصة سوى الانضمام للجيش الروسي، ليلقى حتفه إثر انفجار لغم في المدرعة التي كان أحد أفراد طاقمها.
بينما شاكر الذي سافر إلى روسيا في سبتمبر 2023 بعد محاولات عدة لاستخراج التأشيرة، نجح عن طريق مكتب سفريات في الحصول على عقد عمل في موسكو، للعمل في مجال المقاولات، لكن الشاب التحق بعد سفره بأيام بالجيش الروسي، ولم يعمل في مجال المقاولات، وقتل أثناء المعارك في نوفمبر من نفس العام.
الكرملين "أجبر" آلاف المهاجرين والطلاب الأجانب على القتال مع القوات الروسية في حربها ضد أوكرانيا، هذا ما نقلته وكالة بلومبرج عن مسؤولين أوروبيين، في يونيو الماضي، وأوضح المسؤولون الروس أن هذه الخطوة منحت الجيش الروسي قوة بشرية إضافية لهجومها في منطقة خاركيف. واتهمت الوكالة مسؤولين روس بتهديد أجانب بـ"عدم تمديد تأشيرات الطلاب والعمال الأفارقة المقيمة في روسيا ما لم يوافقوا على الانضمام إلى الجيش".
شاكر السيد ومحمد محمود اثنان من ضمن 10 حالات ينحصر مصيرهم ما بين مقتول ومجهول، رصدنا استغاثات لذويهم انتشرت على المجموعات الخاصة بالعرب والمصريين في روسيا، وتواصلنا مع عدد منهم، الذين أكد 3 منهم تقديم شكاوى إلى وزارة الخارجية لمعرفة مصير أبنائهم المجهول، ومازالوا في انتظار رد الوزارة.
وبعد ساعات من السير في غابات "دونيتسك"، وصل سعيد رمضان المصري إلى مقر كتيبته، يجر قدمه المصابة، "إنت عايش"، بتلك الجملة استقبله قائد الكتيبة، وأخبره الشاب المصري بمقتل 3 من زملائه وبينما خامسهم مازال على قيد الحياة بالخندق الذي استهدفوا فيه، طالبا الذهاب إليه بماء وطعام ومحاولة إنقاذه.
خضع سعيد رمضان للعلاج في المستشفى، وفي آخر اتصال له مع صديقه محمد أخبره، أن الأوامر صدرت بعودته مجددا إلى منطقة العمليات، وبعدها بأيام خرج في مهمة عسكرية على خط المواجهة وانقطعت أخباره عن صديقه محمد وأسرته و لا يعرف أحد مصيره حتى الآن، بينما نور السيد الذي أنهى مدة تجنيده بالجيش وحصل على الجنسية الروسية، تحول إلى وسيط وسمسار يسهل انضمام الراغبين إلى الجيش الروسي من أبناء قريته والقرى المجاورة بصعيد مصر، ويعرض خدماته التي يقدمها بمقابل مادي للراغبين على جروبات المصريين والعرب في روسيا.
سعيد ووليد ومحمود والبحيري، وغيرها من الأسماء التي تم سردها خلال التحقيق، جميعها أسماء مستعارة، قررنا إخفاء هوياتهم الحقيقية، خوفًا على من تبقى منهم على قيد الحياة، وأيضًا احترامًا لمشاعر عائلات من فقدوا حياتهم، خاصة وأنّهم لم يعلنوا أن أبناءهم قُتلوا على جبهات الحرب الروسية الأوكرانية بل ماتوا في حوادث مختلفة.
تواصلنا مع وزارة الخارجية الروسية والخارجية المصرية ولم نتلق ردًا حتى نشر التحقيق.
لسماع النسخة الصوتية من التحقيق إضغط هنا ⬇
تحقيق: سارة أبو شادي
رسوم: سحر عيسي
بودكاست: أحمد الشيخ
جرافيك: مصطفي عثمان - مايكل عادل
تصميم وتنفيذ: محمد عزت