دقيقة واحدة وقع فيها كل شيء، انخلعت القلوب، اهتزت الأرض، دبّ الخوف، دقت الساعة لتُعلن الدقيقة العاشرة بعد الساعة الثالثة من عصر الاثنين 12 أكتوبر 1992، ستون ثانية كانت كافية وكفيلة بإقناع الجميع بضرورة الهرب، بوجوب تجاهل كل ما هو ثمين وغالٍ، بلزوم التمسك بالحياة، ومراقبة الدراما المُدمرة لإرث وذكريات المئات.. من منا لا يتذكر زلزال 92.
هناك فارقٌ زمنيٌ كبيرٌ، بين من وُلدوا قبل 12 أكتوبر 1992، ومن وُلدوا بعده، فمن شهدوه وعاصروه، يتغنون دومًا بأنهم حضروا الزلزال، أما من لم يُولدوا في عصره، فهُم مُلامون بالتأكيد، هم الأقل خبرة أحيانًا، وربما "مبيفهموش حاجة"، ولكنها دُعابة دومًا تتردد من أبناء جيل ما قبل الزلزال إلى الجيل الذي بعده.
قصة الزلزال ولتّ منذ 28 عامًا، لكنها لا تزال حاضرة مع كل سطوع شمس ليوم يحمل تاريخ 12 أكتوبر، يتذكر الجميع الحدث الجلل، عبر الواقعين الافتراضي والفعلي، ومع كل حديث حوله، يظهر هو كالبطل الذي لا يموت، ما إن ينطقون اسمه حتى تنساب التفاصيل والحكايات، وكأن الحديث عن عتمة الزلزال وضحاياه وكوارثه ينتهي دومًا بطاقة نور، تتمثل في "أكثم"، ذلك الرجل الذي خرج من تحت الأنقاض بعد 82 ساعة وأكثر.
ثلاثة أيام ونصف اليوم، (ما يقارُب 4 آلاف و920 دقيقة)، تحت الردم، يفصله فقط بين أن تُسحق دماغه وجسده ذلك العمود الخرساني، الذي منع السقف من السقوط عليه، لم يكن وحيدًا، كان بصحبته: "والدته، زوجته وابنته سميرة"، كانوا يتحدثون جميعًا حتى ساد الصمت فعلم أكثم وقتها أن رفض أسرته ووالدته شُرب "البول"، كان سببًا كافيًا لكي يلقوا مصرعهم جواره.
لم يظهر أكثم عبر شاشات التلفاز سوى فى حوارٍ واحد مُقتضب للتليفزيون المصري، وذلك عقب الحادث مباشرة، وصفته مانشيتات الجرائد بالمعجزة البشرية، الصحفيون كتبوا وتغزلوا فيه بأبيات الشِعر، ورغم غيابه الذي طال لما يزيد على الـ 28 عامًا، إلا أن ذكراه حية، ولأنه كان البطل، والأبطال في ذاكرتنا لا يموتون، كان لا بُد من أن نحاول العثور عليه، والحفر حول تفاصيل حياته ما استطعنا، والتدقيق بين سطور الأرشيف الباهت، والغوص في أعماق البشر الذين عاصروه، أو سمعوا عنه وشاهدوه.
كانت أفضل بداية هي الذهاب إلى موقع الحادث مباشرة، لنُسجل بأعيننا، ونستعيد بذاكرتنا، ما حدث هناك؟، وكيف صارت ملامح تلك المنطقة "المنكوبة" سابقًا. توجهنا إلى عمارة الحاجة كاملة، أو العمارة المنكوبة، أو كما يُفضل تسميتها الكثيرون "عمارة أكثم".
مرور السنوات ومُرها، حول المنطقة التي كان تعج بالفيلات، إلى أبراجٍ شاهقة، كما أن دخول محطة المترو في قلبها غير ملامحها تمامًا.
أما "عمارة أكثم" الأشهر في الميدان؛ فعلى مدار سنوات لم يقترب أحد منها، ولم يجرؤ أحد على إنشاء حتى عقار شبيه بالذي هوى.. لكن في آخر 7 سنوات، بنت كنيسة "مارجرجس هليوبوليس" مبنى ملحقًا لها في نفس المكان.
ذلك المبنى الظاهر وكأن أحدًا لا يسكنه، ما إن تنظر إليه وتسترجع مشاهد من الذاكرة للزلزال، تستحضر على الفور، المشاهد القاسية والصُراخ، أنين أجسادٍ على شفا الموت، وحناجر لم تستطع حتى أن تنضحّ واستسلمت للموت، أسفل أساس تلك العمارة ذكريات غير قابلة للمسح.
في أحد أدوار العقار، كان ساكنًا يُداعب ابنته الصغيرة، وفي الدور الذي يعلوه زوجان وصلا من الغربة ووضعا تحويشة العُمر من أجل شقة في هذا البرج الشاهق الذي كان مكونًا من 15 طابقًا به 41 شقة؛ كلها بيعت لأصحاب المستوى الاقتصادي المتوسط والمرتفع. انهار تمامًا على ساكنيه حاصدًا أرواح 130 من سكانها بينما نجا 4 فقط كان آخرهم وأشهرهم "أكثم سليمان".
أسفل مُلحق الكنيسة المبني حديثًا، يتواجد كُشك، سألنا صاحبه السبعيني عن زلزال 92، والعقار ومن نجا منه؟. أجابنا بذهول: "ياااااه.. دي حاجة بقالها سنين.. إيه اللي فكرك؟". أوضحت له أنني بصدد كتابة قصة عن العقار والناجي منه "أكثم". أجابنا: وقت الزلزال لم يكن متواجدًا في هذا المكان تحديدًا، حيث نقلوا الكشك حديثًا بسبب أعمال مترو الأنفاق، وما يتذكره من الحدث الجلل، العُفار والغبار الذي نجم عنه، والصراخ والعويل، وتدخل الأهالي قبل رجال الحماية المدنية لإنقاذ المصابين واستخراج الموتى. يتذكر "أكثم"، ويُكرر أنه "مات"، قبل أن يتردد بقوله: "لأ.. لأ حقيقي سمعت إنه اتوفى من قريب بس مش فاكر مين اللي قالي".
بطول شارع الحجاز، هناك حُراس العقارات، وسائسو الجراجات، والذي نادرًا ما تجد شخصًا طاعنًا في السن، أو ربما في منتصف الخمسينات أو الستينات، يمكنه إفادتنا حول قصتنا، لكن بالبحث، عثرنا على "عم غريب"، من أشهر سائسي السيارات بالمنطقة، سألته عن الزلزال؟.
أجاب: أنا في المنطقة منذ أكثر من 40 عامًا وأتذكره بالطبع، أما عن أكثم قال: "مش الشاب اللي طلعوه.. ده كان طفل صغير طلعوه حي من تحت الأنقاض".
يقترب "غريب" من الثمانين عامًا، قطع حديثنا الذي استمر لما يقرب من الساعة إلا ربع الساعة، شخصٌ تائه يبحث عن وجهته.
"سلامو عليكم.. عاوز أروح المكان الفُلاني..."
"هتمشي علطول.. تالت عمارة على إيدك الشمال".
"عم غريب": أنصحك بسؤال شخصين هما الأقدم في المنطقة: "فيه عم محمد من المنيا.. تاني عمارة شمال.. بنقوله (أبو أحمد).. وفيه بردو عم جمعة من المنيا هتلاقيه في عمارة 32".
طوال حديثنا مع عم غريب لم يُفدنا بشيء، سوى حكاياته عن كيفية إقلاعه عن تدخين السجائر؛ لينتقل إلى (المعسل)، وكيف أقلع عن الاثنين بعد صعوبة بالغة.
أخذنا بنصيحة عم غريب؛ ذهبنا إلى "أبو جمعة" رجل في أواخر الثلاثينات، مما لا يدع مجالا للشك بأنه لم يحضر الزلزال أصلًا، لكنه أرشدنا إلى نهاية شارع الحجاز: "فيه ناس بوابين هناك من أيام الزلزال...". لكن قبل ذهابنا إليهم، توجهنا إلى عم محمد، لم نجده لكن وجدنا زوجته -سيدة خمسينية- وكأنها جاءت من الريف بالأمس، تحافظ على لهجتها رغم وجودها الذي يستمر لأكثر من 30 سنة في المنطقة.
أجابت مبتسمةً: "منعرفش حاجة عن الزلزال غير إن الزلزال جه ووقع العمارة اللي هنا وخلاص.. والدنيا قامت واتلمت عند العمارة اللي وقعت".
سألناها: "طب فيه واحد طلعوه من العمارة حي بعد 3 أيام.. فاكراه؟".
ردت وهي شاردة الذهن: "واحد طلعوه.. لأ منعرفش.. أول مرة نِسمع حاجة زي دي.. بس ممكن حد قديم في مستشفى هليوبوليس يفيدك.. عشان كانت بتعالج المصابين".
كنا بالقرب من قسم النزهة، وقررنا دخوله لمقابلة المأمور أو شيخ الحارة، أيهما أقرب وأسهل ربما يُفيدنا بمعلومة حول الزلزال وأكثم، ورغم معرفتنا بأن الضباط يُنتدبون ولا يظل أحد في مكانه لـ27 عامًا، إلا أنها كانت محاولة تستحق.
على باب القسم استوقفتني أمين شرطة، سألني "أؤمر.. رايح فين؟".
أجبته: بأنني ذاهب لمقابلة شيخ الحارة.
أذِن ليَ بالدخول، سألنا عن مكتبه فأرشدونا أنه بالطابق الثاني، صعدنا درجات السُلم، وكان مكتب شيخ الحارة يحتل نهاية ممر طويل، فيما تجد على يسارك مكتبًا يجلس فيه ثلاثة موظفين، بينهم سيدة شارفت على الستين عامًا، أمامهم جميعًا أوراق متناثرة، ينتظرون بشغف دقات الثانية حتى يفزون من مكاتبهم.
سألت السيدة عن ذكرياتها مع الزلزال؟
قالت إنها تتذكره، قبل أن تستطرد بقولها: "هو فيه حد يقدر ينسى اليوم ده.. والراجل اللي طلعوه بعد 4 أيام...".
سألناها عن أي وثائق يمكن أن تُشير إلى مكانه؟
قالت "صعب جدًا.. الحاجات دي بتتأرشف ومع مرور الوقت بتتعدم".
خرجت من المكتب نحو شيخ الحارة، الذي كان في هيئة أمين شرطة بملابس مدنية وجواره يمينًا ويسارًا مكتبتان تعُجان بالأوراق والملفات. كررنا عليه السؤال المعتاد.
نظر إليّ بريبة، ثم قال "أنا هنا بقالي 7 سنين.. ومفيش حد هيقدر يفيدك في القسم كله.. عليك وعلى البوابين أو الناس القديمة اللي ساكنة في المنطقة".
كان يومًا طويلاً وشاقًا تحت وطأة شمس حامية، قررنا استئناف العمل في يومٍ آخر، والتوجه صوب مستشفى هليوبوليس، والذي كان ملاذًا للمصابين وضحايا الزلزال.. ومن بينهم أكثم الذي استقر جسده داخله بعد ساعات مريرة تحت الأنقاض.
في الحلقة الثانية سنذهب صوب مستشفى هليوبوليس.. علنا نجُد هناك ما يدُلنا على أكثم...