أوصلنا المهندس نابغ عبدالقادر بـ "مسعد هوجان"، بعد فترة طويلة من الاتصالات، تواصلنا مع "هوجان" فورًا، عله يكون هو رحلة أخرى أو أخيرة توصلنا في النهاية إلى "أكثم سليمان". كان نظام الألوميتال جديدًا في مصر بداية التسعينيات؛ كان هو الموضة الجديدة والتي حلت محل الشبابيك وأبواب الشُرفات الخشبية.
داخل إحدى ورش مدينة نصر؛ صبّ "مُسعد هوجان"، كل تركيزه على تجارته الجديدة، يمتلك ورشة لتصنيع الألوميتال وتركيب الشبابيك، وكان الإقبال عليه ملحوظًا. وضع "هوجان" ما ادخره من أموال في سفريات الخليج (ليبيا – العراق...) ليتملك تجارته الخاصة، دون أن يمتلكه أحد: "مفيش أحسن من إن الواحد يبقى حُر نفسه.. ولا كفيل ولا بتاع!".
صاحب إحدى الورش المجاورة له أخبره أن لديه زبونًا يتعامل معه ويريد تشطيب شقته، فسأله مُسعد: "مين ده؟"، ليُجيب زميله: "أكثم"، ثم كررها مرة أخرى عليه: "أكثم يا أسطى.. أكثم سليمان بتاع الزلزال!"، كان ذلك عام 1993، ولم يكن يعلم "هوجان" أن حياته ستنقلب رأسًا على عقب بسبب "أكثم".
فوجئ "هوجان" بعدها بأيام، بشخص يقف على عتبة محله، عريض المنكبين، وجهه مُنير، يرتدي بنطالًا وقميصًا كلاسيكيًا، ألقى التحية عليه:
- السلام عليكم يا أسطى "هوجان"
- وعليكم السلام.. اتفضل..
- أنا جايلك من طرف الأسطى "فلان".. كان قالي أجيلك عشان عندي شوية شغل ألوميتال.. أنا "أكثم"
ذُهل "هوجان" لوهلة، ظل يتفحصه وهو مشدوه، نظر إلى ملامح وجهه البشوشة، كانت خالية من أي خدوش أو تشوهات، هو يعلم جيدًا قصة "أكثم"، فكيف للشخص الواقف أمامه أن يكون هو ذاته الذي أخرجوه من تحت الأنقاض بعد 82 ساعة، وهو سليم تمامًا، يقف بشكل ثابت، يتبسم، ويتحدث بثقة، وعقله موزون "كإن اللي وقع عليه حِمل برسيم.. مش عمارة". كانت الأسئلة تطرق رأس هوجان بشدة، لدرجة أن أكثم لاحظ ذلك، فقطع سيل دهشته بسؤال:
- "إنت ساكن فين يا أسطى مسعد"؟
- أنا ساكن هنا في النزهة...
- عظيم جدًا.. ده إحنا على كده جيران.. على العموم أنا محتاج تيجي تشوف بعينك وترفع المقاسات عشان مستعجل على تركيب الألوميتال...
أومأ "هوجان" برأسه، مُبديًا موافقته على الفور.. لملم عدته.. وذهبا سويًّا نحو شقة "أكثم"، وما هون عليهما الطريق القصة التي بادر أكثم بروايتها عن نجاته، وقصة ساعات الرعب تحت الأنقاض.
"كنا في الشقة.. ومرة واحدة حصل الزلزال.. وفجأة العمارة جابت عليها واطيها.. كانت أمي ومراتي وبنتي معايا"، كان الضوء يخفت رويدًا رويدًا حتى ساد الظلام، وساد معه الصمت، وعلم "أكثم" وقتها أن أسرته قد رحلت ولم يتبقْ إلا هو، وكان ما زال حيًّا بفضل الله الذي منع سقف الشقة من الانهيار عليه، من خلال عامود خرسانة كان يحول بينه وبين السقف"، حكي "هوجان" تفاصيل قصة "أكثم" كما رواها: "كان بيحكي القصة والكلام متكسر.. مش ممكن يكون الشخص ده هو اللي قاعد معايا دلوقتي وبيحكي".
داخل الغرفة 306 بمستشفى هليوبوليس؛ استقر جسد أكثم، كان الزوار يتوافدون عليه، أقرباؤه، وأصدقاؤه؛ انهار أكثم في البكاء، وقال عندما عرف باستخراج جثة ابنته سميرة: "إنتو متأكدين إنها جثة سميرة... "، ليرد أحدهم: "أيوه يا حبيبي.. هي خلاص.. ربنا يرحمها.. كانت حبيبتنا كلنا هي وكل اللي راحوا"، ثم طلب "أكثم" من الجميع مغادرة الغرفة.
"مسعد" لم يكتسب لقب "هوجان" صُدفةً، كان شبيهًا بـ"هوجان" بطل المصارعة، يواظب على تدريبات كمال الأجسام، وهو الأمر الذي زرعه في ابنه الوحيد، عمل في كل المجالات تقريبًا، ويُعرف نفسه دومًا أنه صاحب خبرة في كل شيء.
هناك رحلة لا ينساها "هوجان"، ذهب هو -والذي أصبح صديقه "أكثم"- إلى الأرض التي يمتلكها الأخير، على طريق مصر الإسماعيلية الصحراوي. معروف عن أكثم إنه شخص هادئ الطباع، مؤدب، ملتزم، ولا ينفعل حتى في أقصى المواقف.. لكن هذه الرحلة كانت مختلفة.
أثناء سفرهما، وقع حادث، انقلبت إثره إحدى السيارات على جانب الطريق.. رأى "أكثم" المشهد، انتفض وأصابته التشنجات، بكى بحُرقة، ثم أخذ يُردد: "لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله..."، ثم ركن السيارة، وفتح الباب وأخذ جركن مياه من "شنطة" سيارته، وما لبث أن هرع صوب السيارة المقلوبة.. لم يلتفت حتى لوجود "مُسعد" في السيارة.. الذي هرع هو الآخر خلفه، وجدا داخل السيارة أسرة، وطفلة صغيرة: "يمكن عندها 12 سنة"، تصرخ وتبكي، ووالدتها مُغمى عليها، وزوجها قائد السيارة لا يعي ما حدث، لم يتركهما أكثم ولا مُسعد، حتى جاءت سيارة الإسعاف، حينها فقط اتجه أكثم نحو سيارته، بعد أن اطمئن على المصابين.
يتعجب مُسعد من موقف "أكثم"، يتذكره دومًا ولا يستطيع نسيانه: "هو العادي طبعًا إن إحنا نساعد.. بس أنا حسيت إن أكثم وكإن البنت الصغيرة دي.. فكرته ببنته (سميرة) اللي ماتت فى الزلزال".
لا يجد "هوجان" وصفًا لما حل بصديقه وقتها سوى جملة واحدة: "أكثم لسه الزلزال جواه!!".
استمر "أكثم" بعد الزلزال في عمله مهندسًا زراعيًا، كان يمتلك قطعتي أرض، إحداهما بطريق مصر الإسماعيلية الصحراوي، والثانية بطريق بلبيس، وكان "هوجان" يعمل معه، في مباشرة أعماله، وتوفير عُمال ومُزارعين له، حتى قرر "هوجان" نقل معيشته إلى 6 أكتوبر، حيث مدينة جديدة، وبها توسعات، ليُقرر "أكثم" أن يُرسله إلى قريب له، وهو المهندس "نابغ عبدالقادر"، والذي كان يمتلك مصنعين ويُشرف على أعمال المقاولات هناك: "المرتب مع المهندس نابغ كان أفضل...".
يؤمن "هوجان" أنه لولا أكثم لما كانت حياته استمرت على هذا النحو: "مكنش في خيالي إني أجي أكتوبر.. وأتجوز وأخلف هنا وأشتغل شغلانة كويسة وإن أكثم يكون وسيط إني أشتغل".
لم ينسْ هوجان "أكثم" أبدًا: "كل ما تيجي سيرته.. كإني شايفه قُدامي". يعرف أنه بدأ حياة جديدة، تزوج وأنجب وزهد في الدنيا: "بس مش بمعنى الزهد.. حاسس إنه ربنا عوضه بزوجة عن زوجته وولاد عن بنته.. لكن عمره ما نسي ولا هينسى اللي حصل".
لا يعلم "هوجان" عنوان "أكثم" على وجه التحديد، لكنه يعرف الوصول إليه، أعطانا رقم تليفون منزله بمنطقة مصر الجديدة، لكنه رقم قديم وعند التقصي عنه وجدنا عدم وجوده ضمن العملاء، وصف ليَّ العنوان، ووعدني بالذهاب سويًّا من أجل مقابلة "أكثم".
سألنا مُسعد هوجان عن آخر مرة تواصل فيها مع أكثم؟.. فأجاب: يااااااه.. يا خبر أبيض.. أنا تقريبًا من سنة 1996، وأنا مسمعتش صوته.. يعني قول من ساعة ما نقلت هنا في 6 أكتوبر.. المشاغل للأسف وتلاهي الحياة.. لكن يمكن ربنا جاعلك سبب عشان أشوفه تاني.. ده هيفرح قوي لما يشوفني.
وهل تعتقد أنه ما زال على قيد الحياة؟، شرد ذهن "مُسعد" قليلاً، قبل أن يُجيب: "بإذن الله حي"، قبل أن يُتمتم مُستكملاً شروده: "لا إله إلا الله.. يعني لو توفاه الله.. والله الواحد هيزعل جدًا.. أنا إزاي الفترة دي كلها مكلمتوش ولا سألت عنه..."، ضرب "هوجان" كفًا على كف، قبل أن يُذكرنا بضرورة الذهاب والبحث عنه في آخر مكان التقى فيه مُسعد بـ"أكثم" عام 1996.