خرج رجب من مكتب وكيل النيابة يتصبب عرقًا، تضاعفت العلامات التي تركها الزمن على وجهه، وهو يتوسل إليه كي يساعده على استخراج شهادة وفاة ابنه، جاء رد وكيل النيابة كقذيفة مدوية "مفيش جثة يبقى مفيش شهادة وفاة".. لم يتحمل الرجل الستينى الصدمة، ومات بعد دقائق.
مأساة رجب وابنه متشابكة وأحداثها لم تنته بعد، بدأت صباح شم النسيم في العام ذاته، حينما حضر غريب يدعى "محمد نبيل"، واصطحب نجله محمد، من منزله المتواضع فى كفر العلو بحلوان إلى محافظة الشرقية، كي يقضون عطلتهم في منزل أهل الزوجة.
مر أسبوع قبل أن يدق الهاتف بمنزل والده، وأخبرته زوجة محمد بصوتٍ باكٍ، أنه تشاجر مع أحدهم ومات. انطلق رجب مع أسرته على الفور نحو الشرقية، وقبل أن يصل، طلبت منه زوجة الابن أن يتوجه نحو نيابة منيا القمح، وهناك اكتشف حقيقة مغايرة، أخبره رئيس المباحث أنه كان ينقب عن الآثار تحت أحد المنازل، فانهالت عليه حفرة، ولم يتم استخراج جثته بعد.
محمد، واحد من بين عدد كبير من عمال اليومية الذين يحفرون خلسة بحثًا عن الآثار، أملا في الثراء السريع غير المشروع، دون إدراك أنهم قد يحفرون قبورهم بأيديهم.
لا يوجد حصر رسمي لجرائم الآثار في مصر، لكن مركز دفتر أحوال وهو منظمة مجتمع مدني متخصصة في البحث والأرشفة أعدت دراسة كاملة حول جرائم الآثار في مصر عام 2016.
172
القطع الأثرية المضبوطة
764
المقبوض عليهم
19
الإصابات
48
الوفيات
192
الوقائع
إعلان
افترش أفراد عائلة "محمد" أرض القرية، ينتظرون صدور قرار النيابة بإعادة الحفر لاستخراج جثته. التفوا حول منزل متهالك من طابق واحد يقع في مواجهة دار الضيافة بالقرية، بداخله حفرة لا يتعدى عرضها متر واحد، على عمق 6 أمتار، ينحدر منها نفق عرضي تحت الأرض بطول مترين في جهة اليمين،انهال على جسد محمد، وفقا لبيان وزارة الداخلية.
في صباح اليوم التالي، صدر قرار الحفر، أُزيل المنزل محل التنقيب، وجاء رجال الحماية المدنية لمعاينة الموقع، وجاءت النتيجة.. "سيكون الحفر يدويًا، حرصًا على المباني المجاورة". فالوضع لم يكن مطمئنا للمختصين، فالمنزل المهدم على يمينه منزل من الطوب الأحمر يتكون من ثلاثة طوابق، وعلى يساره وخلفه منزلين صغيرين من الطوب اللبن.
بدأ الحفر بعد 4 أيام على نفقة العائلة، تنفعل الأم قائلة: "كان عندنا استعداد نبيع شعر راسنا عشان نلقى ابننا حي أو ميت"، لكن هذا لم يكن كافيًا.
على عمق 5 أمتار ظهرت المياه الجوفية، فاضطرت النيابة لوقف الحفر، حرصًا على حياة العمال، والمباني المجاورة، ودُفنت آمال العائلة باستخراج جثمان محمد أو حتى شهادة وفاته، تحت حطام المنزل، ودُفن سره معه.. وتوفي والده من بعده حسرة عليه.
"ساعات بيكون فيه دكتور وساعات لأ.. بس لازم صاحب البيت يجيب الشيخ والعمال"
عم ربيع.. (منقب)
كنا على موعد مع ربيع، على أحد مقاهي محافظة الشرقية، في ليلة شتوية قاسية، كان عامل المحارة الخمسيني، انخرط في عالم الحفر خلسة بهدف التنقيب عن الآثار في الـ 5 سنوات الأخيرة، وقرر بعد تردد أن يبوح لنا بأسراره.
يُسخر خدمة من الجن لمعرفة أماكن الآثار، وفتحها
يتكفل بكافة مصاريف الحفر
من 2 لـ3 رجال، يحفرون وينقبون، ويزيلون الرمال، ويبنون الجدران الخرسانية داخل وأعلى موقع الحفر والتي يسمونها(الخنزيرة)
يحدد ما إذا كانت التربة أثرية، وكيفية التعامل معها
"الناس في بلادنا مهووسة بالآثار.. فبييجي شيخ يقول إنه يعرف أماكنها تحت الأرض، والناس طبعا بتصدقه وتبدأ تتعامل"، هكذا تبدأ الحكاية، وفقًا لعم ربيع، فهناك من يبدأ بالحفر فورًا في أرضه أو تحت داره، وهناك من يستعين بـ أكاديميين، أثريين وجولوجيين، للتأكد مما إذا كانت الأرض بها شواهد أثرية أم لا.
وقبل بدء الحفر، يتم الاتفاق.. لكل من الشيخ والأكاديمي، أجره في جميع الأحوال، ونسبة تقارب النصف ما إذا وصلوا إلى آثار بالفعل، وفقًا لرواية ربيع.
أما الحفارون أمثاله، يعملون بأجرة، 150 جنيها في اليوم، أو 200 جنيه مقابل كل متر، "ولو حاجة طلعت بيبقى لينا نصيب بسيط ميزيدش عن 1000 جنيه".. يقول ربيع.
قبل عام ونصف، كاد ربيع أن يكون أحد ضحايا التنقيب. لف جسده الذي نخرته الرياح الباردة على كرسي المقهى المصنوع من الخوص قبل أن يحكي: "كنا في مكان على عمق 6 أمتار، وعملنا نفق أفقي تحت الأرض، فقابلنا 3 طبقات رمل عرضها 30 سم، بين الطبقة والطبقة.. طبقة طين حوالي 5 سم".
كانت الأجواء شتوية باردة، تفوق برودة المقهى، والرمال بيضاء خشنة، مثل حبات السكر، بالكاد كان ربيع ومرافقه يرون كف أيديهم من كثافة بخار الماء الخارج من أفواههم ما صعب من عملية التنفس.
حاول الأكاديمي حل الأزمة، جلب مروحة كهربائية، مغطاة بكيس بلاستيكي، بداخله خرطوم، انسدل داخل الحفرة، لينقل الهواء إليهم، لكنه تسبب في مشكلة أخرى.
تشققت طبقات الطين، وانهالت رمال النفق العرضي فوق رأسي ربيع وزميله. وقتها، كان ربيع يستريح جالسًا في بداية النفق، فصعد مسرعًا وهرب، وتمكن صاحب البيت، من إنقاذ زميله فيما بعد، وبعد يومين سقط البيت.
كانت هذه هي المرة الأخيرة من 5 مرات، عمل فيها ربيع في التنقيب عن الآثار، قرر حينها التوقف عن هذا العمل، أما الآن فقراره تغير، "قلة الشغل وكتر المصاريف تخلينا نقبل رغم الأجر القليل والخطورة".
41
قبض عليهم عقب انهيار مكان الحفر
69
قبض عليهم بعد فشل الحفر
573
منهم قبض عليهم أثناء الحفر
764
قبض عليهم بتهمة التنقيب عن الآثار
كانت "أم أدهم" بمفردها مع صغيرها، الذي كاد يغفو للتو، قبل أن يخترق الضجيج سكون ليل المدينة الهادئة، رفعت ستائر النافذة وأطلت لتجد شخصا لا تعرفه يصيح ويقفز بشكل هستيري تحت العقار.... ، لم يكن واضحًا إذا ما كان يتشاجر أو يستغيث.
أحكمت إغلاق النوافذ والأبواب في ذعر، وأمضت ليلتها ساهرة، ازدادت الأصوات، فوجئت برجال الشرطة يطرقون الباب، طلبوا منها مغادرة الشقة، "وقتها بس فهمت إيه إللي بيحصل.. واحد مدفون في الدور الأرضي كان بينقب عن الآثار.. وأخوه عايز جثته".. رفضت طلبهم بصوت مرتعش، لم يجبروها على المغادرة، وقرروا أن ينتظروا إلى الصباح.
أمضت ليلتها تستجمع خيوط ما يحدث، كان صاحب الشقة المنكوبة في الطابق الأرضي شخصا غريب الطباع، لم يخالط أحدا مثل أغلب السكان، فقط كانت تبدو عليه علامات التكبر.
رجل أعمال يدعى إسلام، أخبرهم ذات مرة أن جاره العلوي ترك صنبور المياه مفتوحًا، وأن عليه ترميم السقف. بدأ العمال يترددون على شقته، كان يحضرهم بسيارته الخاصة، لكن "أم أدهم" لم تعير الأمر اهتماما.
بدأ يمهد لخروج كمية كبيرة من الرمال، أخبرهم أنه قرر استبدال أرضيات شقته بالكامل، لم تتوقع أن الأمر له علاقة بالتنقيب عن الآثار "هو فيه في زايد آثار؟!".. تتساءل متعجبة.
أصبح رد فعل "أم أدهم" عنيفًا أمام أي مطالب بمغادرة العقار، أو الحفر أسفله لاستخراج الجثة، "ده إللي مات ده ربنا حيانا بيه". كانت تراه مجرمًا، عرض حياة عائلتها للخطر بحثًا عن الثراء، فقط كل ما كانت تتمناه هو حقن الحفرة بالرمال لكتم منفذ الروائح العفنة المنبعثة من جثمانه.. من دون الإضرار بأساسات البناية التي أصبحت بالنسبة إليها مصدر دائم للقلق.. والقبض على إسلام - صاحب الشقة الذي هرب ولم يتم العثور عليه حتى الآن.
لكن الحكاية لها وجه آخر لدى محمود - الشقيق الأكبر لمعتز - نجار المسلح المدفون أسفل العقار، في هذا الفيديو..
يقول اللواء جمال حلاوة مساعد وزير الداخلية الأسبق للحماية المدنية، إن فشل استخراج جثث المنقبين عن الآثار يعود إلى عدة عوامل أبرزها جغرافية المكان، فاحتمالية نجاح عملية الانقاذ تكون أكبر حينما يكون التنقيب في مكان مفتوح، أما إذا كان في منطقة مغطاة أو منزل فيكون أمر الإنقاذ أصعب كثيرًا، بسبب ضعف بنية المنازل.
ثم يردف بلهجة حاسمة: "محاولة إنزال أي فرد من الحماية المدنية يكون معناها الموت المحقق".
سمع أهالي القرية صوتا أشبه بدوي انفجار في الظهيرة، من ناحية منزل "سيد ع." المهجور، أخبرهم الرجل أن ثلاثة رجال كانوا ينقبون على الآثار بالداخل، انهالت عليهم الرمال، وهرب.
جاءت الشرطة على الفور، منعت الأهالي من التدخل لانتشال الجثث، كانوا في حفرة طولية بعمق 22 مترا، عرضها متر واحد، "المكان خطر ومليان مياه واللي هينزل هيموت كفاية 3 ماتوا".. يقول شقيق "جميل" - أحد المحشورين داخل الحفرة.
كان جميل رب أسرة ثلاثيني ينتظر مولوده الثالث، من قرية عرب العليقات، وكان يعمل مثل أغلب رجال القرية في الفاعل، بيومية زهيدة.
اعتاد الخروج مع إخوته الثلاثة عقب صلاة الفجر، للتوجه نحو مقاول الأنفار، لتوزيع العمل، لكنه لم يخرج معهم في اليوم المشؤوم.
أخبرتهم زوجته أنه غادر في وقت متأخر، ظنوا أنه في مهمة خاصة لدى أحدهم، لم يعيروا الأمر اهتمام، حتى هاتفهم أحد أصدقاء جميل، ليخبرهم بصوت مختنق: "أخوكم مات وهو بينقب عن الآثار في عرب الصوالحة".
كان من السهل رفع الرمال عن الحفرة، لكنه كان من الصعب انتشال الجثث من كل هذا العمق، لهذا، قرر رجال الحماية المدنية ألا يغامرون بحياتهم، افترشوا مع الأهالي القرية في ترقب لمدة 4 أيام، حتى ارتفع منسوب المياه الجوفية، وطفت الجثامين واحدًا تلو الآخر.
وقف الشيخ "محمود ع." - موظف في الأوقاف في الخامسة والخمسين من عمره - على حافة حفرة على عمق 8 أمتار، داخل باحة منزل في أحد أزقة مدينة الصف، يرشد مساعده الأربعيني – "محمد ص."، وشاب آخر داخل الحفرة، للاتجاه الصحيح كي يجدوا الآثار المدفونة أسفل المنزل، حسب زعمه.
أخبروه أنهم لم يجدوا شيئًا، فاضطر إلى النزول إليهم بنفسه، فانهالت الحفرة على ثلاثتهم، هرب الشاب، وسقطوا هم في هوة الموت.
تلك الرواية سردها لنا مصدر أمني، على حافة الحفرة يوم 24 ديسمبر 2018، أثناء انتشال الجثامين، مشيرا إلى أنها تستند لاعترافات 6 آخرين، تورطوا في عملية التنقيب.
ينتهي المشهد الجنائزي، بأشلاء مجمعة داخل أغطية محكمة الغلق، تنبعث منها روائح الموت الخانقة، محمولة على أكتاف أهالٍ، لا يبكونهم، ولا يلقون عليهم كلمات اللوم، فقط يضعونهم في سيارات تنقلهم إلى مرقدهم الأخير، بعد أن حفروا قبورهم بأيديهم، دون مقابل.
- معايشات ميدانية.
- مقابلات مع أهالي ضحايا التنقيب.
- مقابلات مع شهود عيان ومتضررين من التنقيب.
- مقابلات مع شخصيات عملت في التنقيب بالفعل.
- محاضر وبيانات وزارة الداخلية.
- قوانين حماية الآثار والأحوال المدنية.
- دراسة أعدها مركز دفتر أحوال البحثي للأرشفة والتوثيق.