حكاية كروان
قبل 5 أعوام، جاء "مفيد"، فنان تعبيري -32 عامًا- إلى مستشفى 57357، متطوعًا، اختار لنفسه اسم "كروان"، بعد أن قرر أن يكرس حياته للعلاج بالفن، حصل على درجة الماجستير في تخصص يعينه على ذلك "الإرشاد التربوي وتعديل السلوك" في الجامعة الأمريكية، اختار المستشفى لكونه يتعامل مع أطفال يواجهون مرضًا خطيرًا، 75% من نسبة شفائه تعتمد على الحالة النفسية، لذا فهم يحتاجون معالجين روحانيين حقًا، يمدون إليهم يد العون في كل وقت.
قبل شهور، قالت له خديجة -طفلة بالكاد تجاوزت العامين- قبل إجراء عملية جراحية لاستئصال ورم، بلسان متلعثم وعبارات متقطعة "عمو كروان أنا خايفة أخش العمليات عشان أنا عارفة إنهم بيعملوا حاجات مش كويسة فينا جوه"، أجابها كروان بنفي قاطع "لأ دول بيعملوا حاجات حلوة خالص"، ورافقها إلى هناك.
ارتدت الصغيرة زي العمليات المعقم، ثم فوجئت بكروان، البهلوان الملون، يرقص برفقتها على أنغام الموسيقى داخل الغرفة، حتى تملك المخدر "البنج" من أعصابها تمامًا، وبدأت العملية الجراحية.
اعتاد كروان هذه المواقف الموجعة، أصبح يدرب نفسه على استقبالها، يحاول أن يتعامل معها بحكمة، يضمد جراح من حوله، ويحمل جراحه معه إلى غرفة نومه آخر كل ليلة، يفرغها تماما وهو بمفرده "أنا إنسان مهما وصلت لقوة احتمال لازم أحزن، لازم أغضب، لازم أثور.. لكن من غير ما أبين للي حواليا؛ لأنه محدش ليه ذنب يستحمل زعلي وغضبي". يستيقظ في اليوم التالي، يلون وجهه البشوش من جديد، ويضحك.. "من حق الولاد عليا إنهم يشوفوا الفرحة"، يقول كروان.
إعلان
إعلان
داليا
على عكس كروان، تحاول "داليا" -مصممة الأزياء- ألا تتعمق في تفاصيل مرض الأطفال، بدأت داليا تتردد على المستشفى منذ ثلاث سنوات، بعد أن وجدت حقيبة يد مع إحدى صديقاتها من صنع ورشة العلاج بالفن، فقررت أن تنضم إلى فريق المتطوعين، لتعلم الأولاد رسم "البورتريه والمانيكان"، وتصميم مقتنيات صغيرة، عبر الجلد الطبيعي.
في البداية، كانت داليا تخشى أن تقع في فخ الإحساس بالشفقة، أو أن تتعامل مع هؤلاء الأطفال كمرضى، أو أن يبدو لهم ذلك، لكنها ومنذ الجلسة الأولى، وجدت نفسها تتعامل مع أطفال لا يختلفون عن غيرهم في أي شيء، حتى أنها أحيانًا أصبحت تنسى أمر مرضهم. ساعدها في ذلك قواعد وممنوعات الورشة، جاء على رأسها عدم التحدث عن المرض مع الطفل أو مع أهله، فقط يأتي الأطفال إلى هذه الورشة لـ"اللعب"، والتعلم، الأمر الذي ينسيهم مرضهم، ويجعلهم ينهمكون في صنع أشياء لأنفسهم بيديهم، أو لغيرهم.
لكن كل هذا لا يحمي داليا من شعور التعلق، "فيه منهم مجموعة بحسهم بناتي.. وفيه اتعلقت بيهم وراحوا"، شردت داليا قليلًا، قبل أن تكمل بلهجة قاطعة: "الموضوع بيبقى صعب، مش عايزة أفكر فيه ولا أحكيه".
لكنها دائما ما تذكر نفسها بما هو جيد.. مثلا، كم فرحت حينما كتبت إليها طفلة على ورقة كم هي تحبها، وتلك التي ترسم وجهها الباسم دائما حينما تأتي للورشة، وتتذكر مكالمة والدة أحدهم، كي تخبرها أن صغيرها لم يتلقَ أي مسكنات طيلة يوم الرحلة التي كانت هي مشرفة عليها.
"عاد إلى الحياة مرة أخرى"
"توقفت عن ذكر الموت والوجع"
"يكفيني عودة ضحكتها التي لم أعد أراها"
"كانت تكره كل شيء، المستشفى، المعامل.. حتى عرفت طريق الورشة"
"أصبح يحب المستشفى؛ لأنه يعرف أنه سيأتي إلى الورشة.. حتى أنني أصبحت أقايضه كي يأكل ويأخذ العلاج بالمجيء إلى الورشة"
نادين
توفيت فتاتها المفضلة.. أخفوا عنها الخبر لأنها أصغرهم، خافوا ألا تتحمل الصدمة، طلبوا منها كثيرًا ألا تتعلق بالأطفال، ولم تستطع، لكنها علمت في النهاية.
كانت نادين، أصغر المعالجين بالفن في فريق 57357، قررت منذ الرابعة عشر من عمرها التخصص في هذا المجال، تعشق الرسم، وتطوق لخدمة الآخرين، استطاعت إقناع عائلتها العملية - والدها المهندس ووالدتها المهندسة - بهذا التخصص الحالم، فأتمت دراسته في بوسطن، بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي في طريقها الآن للحصول على درجة الماجستير.
كان من الغريب على الجميع أن تتحمل فتاة مثلها كل ما يحدث "من أول يوم جيت فيه بيقولولي إحنا كنا فاكرينك هتيجي أول يوم ومش هتيجي تاني يوم، هتيجي تاني يوم ومش هتيجي تالت يوم". لكن الفتاة ابنة الثلاثة وعشرين عامًا، خالفت ظنونهم، "أصل كفاية عندي إني عارفة إني كنت جزءا من ضحكتها، سبب للنور اللي بقى في عينيها من بعد ما جت الورشة ولو لشوية وقت" تصمت قليلا، وتردف: "الورشة هي المكان الوحيد في المستشفى إللي كان عندها اختيار إنها تدخله أو متدخلوش، هنا مكنش في وجع زي باقي المستشفى، هنا علاج روحاني، بتطلع فيه كل اللي جواها على ورقة وبس".
لم تقاوم نادين الهزة التي عصفت بحياتها في مقتبل العمر عندما توفيت مريضتها المفضلة، تركت لروحها البراح لتحزن، وعادت من جديد من أجل بقية الأطفال. تعلم نادين أن مثل هذه المواقف قد تتكرر، لكنها تعلمت في الجامعة كيف تحمي نفسها من تلك الكبوات "بحاول أحترم تعبي وحزني ومستهلكش نفسي علشان لو الأرض اتهزت مقعش أنا وأتكسر".
خالد
لم يكن "عبدالرحمن" -6 أعوام- قد أتم تلوين رسمة الكاريكاتير بعد، طلب من معالجه، "خالد مرصفي"، أن يحتفظ بها إلى جانبه، قال له: "هروح آخد الجرعة وأرجع أكمل"، خرج ليتلقى جرعة العلاج الكيميائي، وترك خالد بقلب يعتصر عليه ألمًا.
منذ أكثر من عام، اقترحت زميلة على "خالد"، رسام الكاريكاتير في التليفزيون المصري، مرافقتها نحو ورشة العلاج بالفن في 57357، "قلت لها ماشي آجي معاكِ مرة"، ومن وقتها لم ينقطع خالد عن الورشة، الأربعاء الأخير من كل شهر، "بقيت حاسس إنه إللي ييجي هنا مرة لازم يرجع تاني".
يشعر خالد أنه تغير على يد هؤلاء الأطفال، أصبح أكثر صبرًا وقوة تحمل، يقف أمامهم ويتعجب، كيف يحاربون مرضهم بالسخرية منه، كيف يتحملون ما لا يتحمله الكبار بنفس راضية، كيف شبوا على ذلك دون أن يدروا!
ليس لخالد سلطان على قلبه، لكنه لا يسمح لنفسه أن يبحث عنهم، "لما بتعلق بحد ومبشوفهوش تاني، بعتبره خف ومشي.. مبحاولش أسأل، مببقاش عايز أعرف هو فين".. يحاول ألا يتذكر سوى أحلامهم المرسومة على الورق.
إعلان
إعلان
"أنا باجي مرة كل شهر، وكل مرة بقول لماما طلعيني الورشة، بزعل لما بتقفل قبل ما أخلص كشف، وبحبها علشان كل مرة بقابل صحاب جداد".
"أحلى رسمة عملتها كانت ساعة.. بحب الناس هنا عشان بيغنوا ويرقصوا معايا".
"الورشة مختلفة عن باقي المستشفى، مكان حلو ومسلي، وبتعلم فيه حاجات مكنتش بعرف أعملها".
"أحيانا بيبقى فيه حاجات مضايقاني، باجي هنا الورشة علشان أنساها.. الورشة هي المكان الوحيد اللي بيفرحني".
"أنا بحب الورشة والألعاب، بقول لماما تجيبني هنا، وبزعل لما بييجي وقت الكشف علشان بمشي".
مها
جلست "مها" إلى جوار أحد الأطفال، وقالت له "العب معي وابني لي بالمكعبات بيتًا"، وبعد ساعة من اللعب معه، اكتشفت أنه فتاة.
قبل عام واحد، كانت حياة مها -مضيفة الطيران- تسير على وتيرة واحدة، لا تهتم سوى بمتطلباتها، ومستقبلها، وعملها، وفجأة، مرت بوعكة صحية، قررت بعد التعافي منها نسبيًا أن تكرس جزءا من وقتها لتقديم الدعم النفسي للمرضى، خاصة الأطفال منهم. وقبل شهر واحد، نفذت قرارها، تطوعت في ورشة العلاج بالفن في مستشفى 57357، ليست فنانة، لكنها تتعلم الرسم والحكي لأجلهم.
وإلى الآن تعاتب مضيفة الطيران الشابة نفسها، على التحدث مع الفتاة بصيغة المذكر، وأصبحت تحرص على السؤال على الأسماء قبل التعامل مع طفل، حتى لا تجرحه.
يحاول المعالجون القدامى تهوين الأمر عليها، يشيرون لها على استحياء بأن هناك أصعب، وعلى الرغم من أنها تخشى القادم، لكن التزامها بيومين أسبوعيًا في الورشة، أصبح أساسيًا، "الأطفال بيخلوني أواجه أي حاجة صعبة في حياتي"، حتى وإن أُضطرت أن تأتي إليهم، بعد عودتها من المطار مباشرة، أو قبل سفرها.
سارة
اصطحبت ابنتها مرتين إلى الورشة، وأتت بمفردها في الثالثة.
توفيت الصغيرة، لكن "سارة" ظلت تتذكر كم كانت ابنتها سعيدة في تلك الساعات القليلة التي قضتها في الورشة، فقررت الأم أن تتشبث ببقايا خيوط تلك السعادة، وتعيد نسجها من جديد، لإسعاد أطفال آخرين، يواجهون نفس المرض.
تبادل الأدوار، بين الأم والمتطوعة، جعل سارة ترى الأمور بطريقة مختلفة، فدائمًا ما يصاحب الضجر الساعات الطويلة التي تقضيها الأمهات مع أبنائهم في المستشفى، ومع تكرارها، قد ينسى الصغير وذووه أنه ما زال طفلا، من حقه أن يلعب أو يتعلم، فجاءت الورشة كطوق نجاة لكليهما، "بيبقى نفسهم يحسوا إنهم زي أي طفل طبيعي، مش بس بيتعالج ويتألم ويمشي".
لم تمر سارة بأقسى مما مرت به مع فقيدتها، على الرغم من مرور 3 سنوات على تطوعها داخل الورشة، تساقط فيها أطفال آخرون، لا تحاول التعمق في تفاصيل مرضهم، "إحنا بنيجي هنا علشان نفصلهم عن العالم في بقية المستشفى".. تقول سارة. وكلما غادرهم طفل آخر، وتبعثرت روحها من بعده، تلملمها سريعًا، من أجل آخرين تريد الاستمرار في إسعادهم.
مدربًا منتظمًا
متطوعًا غير منتظم
مواعيد استقبال الأطفال
أيام العمل أسبوعيًا
طفلًا يوميًا داخل الورشة
أماني
قبل ثلاث سنوات، اجتمع كل هؤلاء تباعًا حول "أماني إبراهيم"، مسؤولة قسم العلاج بالفن بمستشفى 57357، بدأوا يعلمون الرسم للأطفال داخل الغرف، تدربوا ودرسوا العلاج بالفن بشكل أكاديمي، ثم طالبوا بأن يتحول نشاطهم لقسم رسمي داخل المستشفى، وافقت الإدارة دون تردد، وانطلقت أماني مع الفريق، أصبحت كرمانة الميزان، تتحسس طاقتهم، وتعيد توازن من يهتز منهم، تراهم وترى الأطفال من منظور آخر، تفسره في هذه القصة الصوتية..