2285 مترًا
ارتفاع جبل موسي
الظلام يطغى على كل شيء، إلا من قمر غير مكتمل، ونجوم تزين صفحة السماء السوداء. وصرير الرياح وسرعتها يبعثان الرهبة في النفوس. وبرودة ما تبقى من ليالي ديسمبر ترجف الأجساد. يحدث ذلك كله فوق ارتفاع يزيد عن ألفي كيلو متر فوق سطح البحر، على قمة جبل موسى. في مغامرة تجمع بين العناء والمتعة في آن معا، انتظارا للحظات سريعة تشرق فيها الشمس على مدينة سانت كاترين بجنوب سيناء.
بين مئات المصطفين في طوابير حول نقطة أمنية تقع على بعد أمتار من دير سانت كاترين، كانت بواعث الزائرين للمكان مختلفة. ما بين باحث عن الروحانيات في مكان تؤمن الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، أن الله تجلى فيه لنبيه موسى، فكلمه تكليما، أو منحه الوصايا. وبين باحث عن متعة صعود الجبال في أجواء باردة تصل درجاتها إلى ما تحت الصفر ببضع درجات. وبين محتفل بذكرى معينة رفقة من يحب. فيما تفرض المشقة نفسها على الجميع.
7 كيلومترات
سيرا على الأقدام
كان سامر محمود مع رفاقه بين الذين وقفوا في طوابير، أمام المدخل الوحيد لجبل موسى، ينتظر عملية التفتيش قبل الصعود، وتسجيل اسمه في قائمة يحتفظ بها رجال الأمن، والذين يمنعون صعود الزائرين للجبل إلا برفقة دليل أو مرشد، يصطحبهم في تلك الجولة التي تمتد لنحو 5 ساعات أحيانا. وحالما تكتمل الإجراءات ويصل الدليل إليهم، تبدأ الرحلة مع الدقائق الأولى من منتصف الليل.
1600 متر
ارتفاع سانت كاترين فوق سطح البحر
كانت زيارة سامر لمدينة سانت كاترين الأولى في حياته، لكنها لم تكن كذلك لآخرين، ولانتشار صور كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر فيها الثلج مغطيا أماكن عدة في المدينة، قرر زيارتها في تلك اللحظات، كما أشار له مقربون منه: «أحب تجربة أشياء مختلفة، في هذا العام كان قراري زيارة سانت كاترين في ظل الأجواء الباردة، ولا أعرف إن كنت سأستمتع بالأمر أم لا».
460 كيلومترا
المسافة من القاهرة إلى سانت كاترين
يعيش سامر ذو الـ35 عاما في حي بولاق بالقاهرة. المدينة التي تمتلأ بالضجيج والزحام وعوادم السيارات والمصانع والغبار، كما صنفتها إيكو إكسبرتس كأكثر مدن العالم تلوثا وفقا لما نشرته وكالة فوربس في 2018، فكان أول ما افتتن به في رحلته، الهواء النقي الذي يصل لرئتيه، ومشهد النجوم وهي تضيء السماء، واختفاء الصخب قليلا بكل أشكاله. قرر أن يغلق هاتفه خلال الرحلة كلها، مكتفيا بكاميرا صغيرة يحملها في حقيبته، ليوثق لنفسه كافة المشاهد التي تسحر عينيه.
كان الشاب يرتدي ملابس ثقيلة، وطبقات متعددة منها، ويضع وشاحا حول عنقه، وقفازا في يديه، ورغم ذلك كان البرد يسري إلى جسده، فقرر أن يستأجر بطانية وهو في طريقه إلى الجبل كلفته 50 جنيها. وقبل الصعود مباشرة كان باعة يحملون الكشافات المضيئة، ويبيعونها لم يشاء، ويحمل آخرون بضائع أخرى مختلفة تعين الزائرين على تلك الرحلة: «لم أشتر شيئا، كنت قد جهزت كل شيء وأنا ما أزال في القاهرة، لكنني سأشتري بعض الحلويات أثناء صعودي لتعطيني بعض الطاقة على استكمال السير».
قبل الخطوة الأولى على الجبل، الذي ناجى عليه النبي موسى ربه، يقف الأدلة رفقة المجموعات التي معهم، للحديث حول تفاصيل الرحلة، ويعطون الزائرين بضعة معلومات عن الجبل، الذي يزيد ارتفاعه عن 2200 كيلو مترا، وتبلغ المساحة المنقطعة سيرا على الأقدام نحو 7 كيلو مترا، وبقطع المدقات وانتهائها، تظهر مرحلة أخرى أكثر صعوبة، متمثلة في 750 درجة سلم، ليست ممهدة بشكل كامل.
ولكل دليل أن يصطحب مجموعة يصل عددها إلى 25 فردا، ويحصل في مقابل الأمر على 250 جنيها، وقد يعطيه البعض مبالغ أكثر وفقا لاتفاق بينه وبينهم. ويختلف السعر إذا كان الزائر أجنبيا. ويحرص كل دليل على أن يطلق اسما على المجموعة التي معه، حتى يسهل التواصل معهم بين مدقات الجبل ودرجاته وقمته.
من بين الأدلة كان مجمد جميع، يتحرك بخفة ونشاط بالغين، على عكس المرافقين له في الرحلة. يطلب منه البعض أن يهدأ قليلا ويتحرك ببطء أكبر، فيحمسهم بأن أول استراحة قد اقتربت، فيكملون السير على أمل الجلوس لدقائق يلتقطون فيها الأنفاس قبل التحرك من جديد. ورغم انتشار استراحات عدة على امتداد الجبل، إلا أن كثيرا منها قد أغلق أبوابه نتيجة قلة الأعداد، لكن الأمر لا يقارن بما كان عليه الوضع في بداية ظهور كورونا، أو بعد مرحلة التعايش مع الفيروس، الذي ضرب السياحة العالمية، وفي القلب منها المصرية: «كانت أيام كورونا صعبة، كنت أعمل في أكثر من مجال لكسب العيش، ومع عودة السياحة جئت إلى هنا من جديد» يحكي محمد. وكان اللواء طلعت العناني رئيس مدينة سانت كاترين قد قال في تصريحات صحفية إن الفترة الماضية شهدت أرقاما قياسية في عدد صاعدي جبل موسى، وصلت لألفي شخص في إحدى ليالي نوفمبر الماضي، وهو رقم لم يتحقق منذ عام 2015.
لدى محمد 22 عاما، وورث ذلك العمل من عائلته، وكان والده يعمل دليلا قبل أن يتجه إلى قيادة المركبات، تاركا ذلك العمل لابنه. ويحفظ الأدلة الطرق عن ظهر قلب، ويصعد الشاب جبل موسى نحو 3 مرات أسبوعيا، وقد يقل الأمر عن ذلك أو يزيد بحسب أعداد السائحين. ورغم أن الأعداد تكاد تنكون متقاربة في جميع الأيام، إلا أن ليلة السبت تعد الأكثر ازدحاما في عدد الزائرين والراغبين في صعود الجبل، بحسب جميع: «وإلى جانب العمل أكمل دراستي، وأحاول التنسيق بين الاثنين، رغم صعوبة الأمر».
في أول استراحة على الجبل، يجلس كثير من الزائرين، وحين تصل مجموعة جديدة تغادر الأخرى، وهكذا في رحلة مستمرة على طول الجبل. ويبيع القائمون على الاستراحات أمورا شتى، تبدأ من المشروبات الدافئة كالشاي والقهوة والنسكافيه، وصولا للشيكولاتة والحلويات، والقفازات والكشافات. وكان الباعة قد عانوا لفترة طويلة نتيجة اختفاء السياح في أزمة كورونا، لكن الأمر الآن اختلف قليلا، بحسب صالح نجدي الذي كان يسأل الزائرين عن طلباتهم، ويرشدهم أحيانا إلى كثير من الأمور التي يستفهمون عنها: «ورغم عودة السائحين إلا أن الاستراحات لا تعمل كلها، فهم قليلون أيضا نتيجة كورونا، ونأمل أن تتحسن الأوضع قريبا».
في الاستراحات تكون الفرصة مواتية لالتقاط صور خلفيتها نجوم السماء والقمر، ومن أسفل الجبل تظهر الكشافات ف يد حامليها، كنقاط صغيرة مضيئة، تدل على وجود مجموعة تسير في المكان. ولا يقطع الصمت إلا أصحاب الجمال، وهم يحملون الزوار على ظهورها، لمن شاء أن يسلك المدقات فوقها، لكن الجميع سيتوقف أمام درجات السلالم الكثيرة، وفي تلك الرحلة تظهر بين الحين والآخر إشارة تدل على عدد السلالم المتبقية والارتفاع عن الأرض.
5130 كيلومترا
مساحة مدينة سانت كاترين
«جمل يا أستاذ» ينطق بها كثيرون في رحلة الصعود، في موقف خاص بالجمال بالجبل، وغالبا ما يركب الجمال كبار السن، أو بعض السيدات، رغبة في توفير طاقتهم للاستمتاع بمشهد شروق الشمس أعلى الجبل. وكان بين المتحركين بالجمال وائل علي، الذي طلب جملا من الدليل الذي معه، فاستأجر له واحدا. يقول صاحب الجمل إنه اشتراه خصيصا لذلك العمل، ويملك ثلاثة جمال يعمل بها في محيط الجبل، وتبلغ تكلفة الرحلة الواحدة نحو 250 جنيه للصعود بالجبل أو الهبوط.
وباجتياز درجات السلالم الكثيرة، يتخير كل شخص لنفسه مكان على قمة الجبل، وينتظرون لحظات شروق الشمس. ولهذه اللحظة سحرها الخاص، فعلى غير العادة تبدو الشمس قادمة من أسفل المتفرجين أعلى الجبل، لا من فوقهم. ومع بزوغها تنتشر الصيحات والهتاف، ويلتقط الكثيرون عشرات الصور لتلك اللحظات الفريدة والمميزة. فيما تذوب تجمعات الثلج شيئا فشيئا والتي تكونت خلال الليل.
2641مترا
ارتفاع جبل كاترين الأعلى في مصر
وبعد نصف ساعة من الشروق، يبدأ البعض تخفيف ملابسهم والنزول في رحلة ليست بالسهلة أيضا يتم اتباع الدليل فيها، خشية وقوع ضرر على أحد، ويحرص كثيرون بعد تلك الرحلة على زيارة دير سانت كاترين، الذي يقع في طريق خروج الزائرين من محيط الجبل، وهناك يشاهدون عدة أمور في المكان، مثل كنيسة التجلي، والكنيسة التي تكلم الله فيها مع نبيه موسى، وقاعة طعام، ومكبس زيتون، وكتب نادرة، ومسجد فاطمي، ومحل إقامة الرهبان.
وبعد النزول والخروج من الدير يجلس أطفال وكبار معهم بعض المشغولات اليدوية وغيرها من الأحجار الكريمة والتذكارات للبيع، سواء للمصريين أو الأجانب، مقابل أسعار يتم التفاوض بشأنها، ويعد الأمر باب خير لهؤلاء الباعة وأسرهم. فيما يتبقى أمام زائري الجبل زيارة بعض الأماكن في المدينة السياحية، ورؤية بعض معالمهما، والتقاط مئات الصور، في بيئة ساحرة للعين والروح والقلب.