"الحرارة خربت ميزانيتنا"
"الحرارة خربت ميزانيتنا"
كان الصيف المنقضي حارًا وخانقًا على نحو مزعج. جَلس "ماجد" مع أبنائه وزوجته يقررون معًا إن كانوا سيذهبون للمصيف أم سيشترون بأمواله "تكييفًا"؟.. التنازل عن أحدهما ليس هينًا بالنسبة لهم، فأبناؤه ينتظرون انتهاء الدراسة بفارغ الصبر للسفر، وفي الوقت نفسه بات الجو في شقتهم غير محتمل. لقد أصبحوا في اختبار صعب.
ماجد موريس (48 سنة)، هو أب لثلاثة أبناء، يعمل موظفًا في هيئة السكك الحديدية، وسائقًأ في شركة "أوبر". ما يجبره أن يجوب العاصمة كل يوم ولأوقات طويلة، ويواجه المناخ بأشكاله المختلفة في كل شيء حوله.
يوم عَاصف في القاهرة، اجتمعت فيه الحرارة العالية والأتربة معًا. خَرج "ماجد" بسيارته في تلك الأجواء، قاصدًا عمله بمحطة القطار في منطقة رمسيس المزدحمة.
وصل إلى عَمله متعرقًا ومختنقًا. وسرعان ما جرى إلى داخل أحد القطارات ليمكنه "التقاط أنفاسه" – كما يقول – لأنها مُكيفة على عكس مكاتبهم.
بطريقة ما، يحاول "ماجد" البقاء بأماكن مُكيفة قدر إمكانه، فلا يتحمل الحرارة التي تجاوزت الأربعين وقتها ومعها الأتربة. كما يشعر أن كل ذلك يستنفذ طاقته تمامًا؛ إذ وضع في الاعتبار جانبها الازدحام والضوضاء الدائرة حوله في محطة القطار.
ذلك اليوم كان ذروة موجة حارة تشهدها مصر في الصيف الماضي، وقال عنها سمير طنطاوي (مدير مشروع الإبلاغ الوطني الرابع لمصر عن تغير المناخ)، إنها "تعود إلى ما يعرف بالأحداث المناخية الجامحة نتيجة تغير المناخ".
مَضت ساعات العمل على "ماجد" طويلة ومرهقة، ليبدأ ساعات عمل أخرى كسائق لشركة "أوبر". أخذته رحلاته إلى شوارع مصر الجديدة، التي تتركز بها أغلب تحركاته دومًا لقربها من بيته بمنطقة حدائق القبة.. لقد أصبحت شوارع المنطقة أوسع كثيرًا، ما سهل عليه تنقلاته وقصر من وقتها، لكن في المقابل لاحظ أن الأشجار التي طالما ميّزتها قَلت عن الماضي.
ملاحظة "ماجد" في محلها، فبحسب منصة "”Global Forest Watch المعنية برصد المساحات الخضراء، "فقدت مصر 17.8 هكتار من الأشجار عام 2021، وهي تمتص ما يعادل 3.90 ألف طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون"، هذه الانبعاثات المسببة بالأساس لارتفاع درجة حرارة الأرض وتغير المناخ.
يجري ذلك على الرغم من توصية الاستراتيجية الوطنية لمصر لمواجهة تغير المناخ بزراعة الأشجار خاصة في المناطـق كثيفـة السكان لامتصـاص ثانـي أكسـيد الكربـون وتقليـل الوطـأة الحرارية.
(الشكل التفاعلي السابق يوضح الخسائر السنوية للأشجار في مصر منذ عام 2001 وحتى 2021 – وفقدت خلال هذه الفترة 1.77 ألف هكتار)
يصل "ماجد" منهكًا إلى شقته، التي لا شرفة بها ولا تدخلها نسمات الهواء تقريبًا.
يفتح المروحتين بالبيت، لكنه بات يشعر أنهما غير قادرتين على تخفيف قسوة مناخ الصيف عليه، ولا على أسرته المكونة من خمسة أفراد، بخلاف والده المُسن.
يقول: "صِرت أعد الأيام لانتهاء هذا الفصل الذي لا يُطاق"، ذلك بعدما كان يتوق إليه من قبل للسفر والراحة من أعباء مصاريف الدراسة.
على الناحية الأخرى، تتابع زوجته "منال" الأرصاد وتحذيراتها يوميًا، وبناء عليها؛ نصحت أبناءها بارتداء قبعات عند خروجهم من البيت في اليوم التالي، وشرب الكثير من الماء، خوفًا من تعرضهم لضربة شمس.
هؤلاء الصغار الذين لم تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة بين نحو 5.3 مليون طفل يتعرضون لموجات الحر مع ارتفاع متوسط درجات الحرارة بـ0.53 درجة في كل عقد من العقود الثلاثة الماضية، الأمر الذي وضع مصر في فئة "المخاطر الشديدة للغاية" فيما يتعلق بـالتعرض للصدمات المناخية، بحسب تقرير اليونيسف حول مخاطر المناخ على الأطفال.
في أحيان كثيرة، يبحثون عن حافلات النقل الحديثة كـ"جرين باص" (ـGreen bus) لأنها مُكيفة، لكنهم يقولون إنها تحتاج منهم الانتظار طويلًا، فقلما يجدونها، في مقابل توفر "أتوبيس النقل العام"، هذا النموذج القديم المتهالك الذي يُخرج عادمه الأسود في وجه الجميع.
تلك الحافلات الحديثة غير المستهلكة، تأتي بالتزامن مع تنفيذ مصر لمشروع القطار الكهربائي بتكلفة نحو 360 مليار جنيه، في وقت تهدف فيه إلى التوسع في استخدام الطاقة المتجددة والنظيفة.
وبالتوازي مع ازدياد أيام الصيف حرارة، تزداد حاجة هذه الأسرة إلى توفير بدائل للهروب منها. وقد أصبح شراء "التكييف" على قائمة أولوياتهم.
ولم يسمح دخل الأب البالغ 4 آلاف جنيه وما ادخره إلا بفعل شيء واحد خلال أشهر الصيف: المصيف أو "التكييف". يميل هو ناحية الاختيار الثاني، ليس لأجل الجو فقط إنما خوفاً من ارتفاع الأسعار المستمر، لكنه ترك القرار لزوجته وأبنائه.
وربما صار المناخ أقوى تأثيرًا من أي شيء آخر. فاضطروا إلى الاستغناء عن المصيف هذا العام لصالح "التكييف"، الذي اشتراه "ماجد" بالتقسيط على عامين.
ولم ينته أمر نفقاته عند هذا الحد. إنما حاول الرجل ترشيد استخدامه تجنبًا لارتفاع فاتورة الكهرباء، التي تصل معه إلى 500 جنيه.
لذا أصبح ينتظر "ماجد" الشتاء؛ حيث فاتورة كهرباء أقل نسبيًا عليه، ولأنه يرى أن البرودة يمكن حلها بعكس الحرارة. ذلك على الرغم أن أمطار الشتاء التي تهطل بغزارة في السنوات الأخيرة، تُراكم المياه بالشوارع، خاصة غير المهيأة، وتعوق طريقه كثيرًا.
هذه الأيام، وبمجرد أن يفتح "ماجد" التلفزيون أو الراديو في سيارته، تتدفق عليه أحاديث عدة حول مؤتمر شرم الشيخ الهام عن المناخ، لكن معلوماته عن الأمر لا تتعدى حدود ذلك. ببساطة، لم يهتم وأسرته بمعرفة كيف بات المناخ شيئا مقلقًا ليعقد حوله مؤتمر كهذا؟، أو كيف تسبب تغيره آلام في العالم بعد الجفاف، وموجات الحرارة، وحرائق للغابات؟، بينما تشغله أمور أخرى على رأسها زيادة الأسعار.
فيقول: "لا أعرف سوى أن الجو في السنوات الأخيرة شتاءً وصيفًا ليس هو نفسه الذي اعتدناه من قبل".