الغياب يقتل أيضًا

وكأنه دخل في حُمّة خوف؛ بينما يقود عمرو بيومي، طبيب الصدر في مستشفى عزل العجمي، سيطرت حالة أحد الشباب المصابين بفيروس "كورونا" بالمستشفى، طّنت كلمات الشاب في أذنه، صارت أعلى من أصوات الزحام وموتور السيارة: "متسبنيش يا دكتور"، كان أصعب موقف يمر به الطبيب الثلاثيني منذ بدأ العمل بمستشفى العزل في مارس المنقضي: "من كتر التفكير فى حالته وأنا في العربية عملت حادثة، والحمد لله ربنا نجاني، كنت متأثر بيه ومش عاوزه يروح مني؛ لأن عنده ولاد صغيرين"، لم تزل تلك الحالة إلا مع تعافيه: "وقتها كل المخاوف راحت".

منذ التحق الطبيب صاحب الـ38 ربيعًا بمستشفى العزل ولازمه الخوف: "من المجهول خصوصًا لما يكون مرض غير معروف وسريع الانتشار، وبيكون عنيف في بعض الحالات وخفيف في بعض الحالات، بس مع الشغل الواحد بيتعود ويبدأ يهدأ"، لكن تعاوده تلك المشاعر: "ببقى خايف في أي لحظة ممكن الإمكانيات متساعدنيش أنقذ مريض يمكن إنقاذه ولكن الحمد لله محصلش ده لحد دلوقتي".

كان على الطبيب التعامل مع الخوف في مقر عمله ومسكنه: "لما بنزل البيت ببقى خايف على مراتي وبنتي أنقلهم العدوى، طلبت منهم يسيبوا البيت"، لكن زوجته دينا محمد اتخذت موقفًا شجاعًا: "رفضت وفضلت مستنياني كل مرة عشان تراعيني وتفضل جنبي وخصوصًا تاخد بالها من الأكل عشان مناعتي"، لكن وقف الثنائي أمام قرار صعب، فاضطرا إلى إبعاد ابنتهما صاحبة الـ13 عامًا "راحت عند جدتها ومامتها بتشوفها كل أسبوعين" بعد التأكد من زوال فترة احتضان المرض.


ضغط عصبي كبير مر به الطبيب الشاب حين بدأ وظيفته في مستشفى العزل: "مهدت لبنتي الموضوع وشرحت لها إيه هي الـ"كورونا" وإزاي تهتم بعزل نفسها، وأنها متكنش سبب في نشر العدوى أو تنتقل لها"، كان ذلك تمهيدًا للحديث الأصعب وهو اضطرار الأب للرحيل وعدم وجودها حين يعود: "عيطت وخافت إني أبعد عنها، لكن فهمتها إني بقوم بدوري، وهي اعتبرتنى بطل، وكانت وما زالت فخورة بيا".

مناخ صعب تمر به الطفلة بعيدًا عن والدها ووالدتها، لا تراهم إلا قليلًا فيما يأكل القلق قلبها على والدها: "عشان كده بحاول أحكي لها أخبار كويسة عشان متخافش"، رغم ذلك لا يستطيع الطبيب الشاب دفع الخوف عن نفسه: "هيفضل موجود طول ما إحنا بعيد عن حياتنا الطبيعية وفي احتمال نخسر حد من حبايبنا".


لا تزال تطرح الصغيرة نفس الأسئلة على والدتها؛ "هو أنا هشوف بابا إمتى بقى"، فيما لا يحمل الوالدان الإجابة، لمدة عام لم يستطع بيومي أن ينال إجازة إلا حينما يهدِه الإرهاق فيعود للمنزل لبضعه أيام يسترد طاقته ويعود مُجددًا إلى المستشفى، وبينما تشتد الموجة الثانية في مصر، لا يجد الطبيب بُدًا من كل ما يدور، يتمنى لحظة التقاط الأنفاس بانتهاء الوباء أو "أصحى ويطلع كل ده كان حلم".

منذ البداية، وقف الأطباء في الصفوف الأولى لمواجهة فيروس غامض، وخلال عام ونصف لازال أبطال "البالطو الأبيض" يعافرون فيما يحصد كورونا أرواحًا منهم

549

طبيبًا متوفيًا

القصة التالية