ربع كيلو
كيف قاومت أسرة مصرية ارتفاع الأسعار في رمضان؟

اختزلت مائدة الإفطار فيضًا من الأرقام والمعلومات الاقتصادية المُعقدة، وأخبرتنا بالكثير عن واقع هذه الأسرة.

عائلة مصرية من الطبقة المتوسطة تتكون من أب، وأم، وثلاثة أبناء، ويصل دخلها الشهري إلى 5000 جنيه.. تسكن منطقة عين شمس في بيت والدة الأب، التي تعيش معهم، ولها معاش يقترب من الرقم السابق.

استقبل هؤلاء شهر رمضان بارتفاعات غير مسبوقة في أسعار أغلب السلع الغذائية. لقد جاءهم هذه المرة في ظل حرب روسية أوكرانية؛ انعكست على الأسعار في بلد يسكنه 103 ملايين، ليرتفع معدل التضخم ثم تفقد العملة المحلية 17% من قيمتها أمام العملات الأجنبية.

وسرعان ما أثر كل ذلك بشكل مخيف على مشترياتهم ومائدتهم؛ حيث اختفت أصناف كثيرة وقلت أخرى، وبات عليهم تغيير كل الخطط المعتادة.


في اليوم التاسع من شهر رمضان؛ كان لدى هذه الأسرة عزومة واجبة كلفتهم أكثر من 480 جنيه، تلك العزومة شملت بطة تزن 3 كيلو، وفرختين، و"صينية رقاق باللحم المفروم". لذا لم يعدوا إفطارًا جديدًا في اليوم التالي توفيرًا للنفقات، واعتمدوا على ما تبقى، يسنده أطباق فول وجبنة وبطاطس، رغم أنها أصناف مُلازمة لوجبة السحور.



الأب (أحمد فتحي)، في أوائل الأربعينات ويعمل موظفًا في المطار، والأم (نسمة عصام)، وهي ربة منزل في منتصف الثلاثينات. لديهما ثلاثة أطفال: (أدهم وسلمى)، في المرحلة الابتدائية، و(فتحي)، طفل ذو ثمانية أشهر. أما الجِدة (لطيفة خواص) فقد تجاوزت السبعين من عمرها.

كانت نسمة عصام تنتظر حلول هذا الشهر بفارغ الصبر؛ ليس لطقوسه التي تُحبها فحسب؛ إنما لتستغل أجواءه مع أسرتها بعد أن فقدتها العامين الماضيين بسبب وباء كورونا. لكنها اصطدمت بواقع في نظرها "أشد من كورونا".


قبل رمضان بعدة أيام؛ ذهبت "نسمة" لشراء احتياجات الشهر كالمعتاد؛ فتفاجأت بارتفاع أسعار جميع المنتجات، وهو ما قَلب ميزانيتها وخططها رأساً على عقب. فتقول إنها "اضطرت للاستغناء عن أشياء كثيرة وتقليل الكميات من سلع أخرى".

فشطبت من قائمة مشترياتها الرمضانية كلاً من القراصيا والمشمشية، وتبدلت أنصاص الفستق وعين الجمل بربع كيلو فستق فقط. واكتفت "نسمة" بلفة وحدة من قمر الدين، وكيلو بلح بدلا من ثلاث.

وبنفس الطريقة؛ حاول الكثيرون تدبر أمرهم هذا الشهر بعد الزيادة الصادمة؛ وفقًا لمحمود عفيفي، صاحب السوبر الماركت المجاور لـ"نسمة". إذ يقول: "كل منتجات رمضان زادت الضعف تقريبًا، ما جعل الطلب عليها أقل كثيرًا، ومن كان يأخد نص يأخذ ربع الآن".

رغم ذلك؛ لم تفلت السلع الأساسية بقائمة "نسمة" من سياسة الترشيد؛ خاصة أنهم غير مدرجين في منظومة البطاقات التموينية. فقد اعتادت على شراء 7 أو 8 فرخات شهريا، ليصبحوا هذا الشهر 5 فقط مع 2 كيلو فراخ بانيه بدلا من ثلاثة. كما قلت اللحمة لاثنين كيلو فقط بدلا من 5 أو 6 أحيانًا.

أما الخضار؛ فقررت أن تشتريه حسب استهلاكها اليومي تحديدًا الطماطم إلى جانب ورق العنب، الذي تعجبت من ارتفاع سعر الكيلو منه إلى 90 جنيها؛ فاضطرت في إفطار اليوم الأول إلى شراء ربع كيلو فقط.

وبالنسبة للأسماك؛ فلم تعد "نسمة" تفكر في أنواع أخرى غير "البُلطي" لأنه الأرخص. ورغم ذلك؛ اشترت منه 3 سمكات فقط تزن كيلو، وقد وصل سعره إلى 37 جنيها بزيادة عشرة جنيهات.

وبهذه الأصناف التي اعتمدت عليها "نسمة"؛ تشكل إفطار اليوم الأول من فرخة وربع كيلو ورق عنب وطبق كِشك، وكان سحورهم بما تبقى. وتنوعت الأكلات باقي الأيام ما بين: مكرونة وكِبدة- سمك وأرز- لحمة وخضار وأرز. ولم يستغنوا عن العصائر الرمضانية رغم زيادة سعرها أيضًا – بحسب "نسمة" – فلا يقل سعر زجاجات السوبيا والتمر عن عشرين جنيها.



ولم تكن تتوقع أن يمتد ذلك التأثير إلى مائدة السحور البسيطة. فتقول إن الزبادي كان أساسيًا عليها، لكنها الآن صارت تنتظر وجود عرض عليه لشراء 6 علب بسعر أرخص، وفي حال عدم وجوده؛ فتشتري لأطفالها فقط.

كذلك منتجات الأجبان، التي أصبحت غائبة عن هذه المائدة باستثناء "الجبنة البراميلي"، الذين اكتفوا بربع منها يكلفهم 15 جنيها. وتحاول "نسمة" أن تقتصد في استهلاك الخبز، الذي يحتاجون منه حوالي سبعة أرغفة يوميًا، والبيض؛ فالكرتونة الواحدة التي كانت تخصص لها 36 جنيها وصلت إلى 60.

لذا؛ باتت "نسمة" تعتمد بنسبة كبيرة على اثنين من تطبيقات الشراء لتوفيرها عروضاً، تحديدًا عند حاجتها لشراء الحفاضات لطفلها والمنظفات وزيت الطعام.

وبعدما أمنت احتياجتهم الأساسية؛ اشترت زينة رمضان بـ40 جنيها وفانوسين لأطفالها؛ يبلغ ثمن الواحد 60 جنيها. فترى "نسمة" أن هذه "فرحة رمضان بالنسبة لهما".



تلك التغيرات المفاجئة والكبيرة التي حدثت لهذه الأسرة، لم تفسح لهم مجالا لشراء حلويات رمضان كالكنافة والقطايف حتى يومه العاشر، ذلك بعد أن كانوا يصنعون "صينية كنافة" كل يومين في شهور رمضان السابقة.


يقول الأب (أحمد) إن عادته كل رمضان شراء طبق حلويات شرقية يزن كيلو من أحد المحال المتوسطة بسعر 80 جنيها، لكن وجده بـ120 جنيها منذ بداية الشهر؛ فلم يشتره. كما أنه عزف قليلا عن شراء الفاكهة التي تكلفه 80 جنيها على الأقل.

لم يواكب راتب "أحمد"، تلك الزيادة؛ فلن يزيد سوى العلاوة السنوية المقدرة بـ80 جنيها بداية من الشهر المقبل. في حين زاد معاش والدته "لطيفة" مبلغ 600 جنيه ضمن الإجراءات المالية للحكومة لزيادة الأجور والمعاشات بنسبة 13%.

تشعر "لطيفة" بأن "الأموال لم يعد لها قيمة" ولم تحدث هذه الزيادة فارقا معها؛ فتقول إنها في اليوم الواحد تنفق من معاشها ما لا يقل عن 150 جنيها في طعام السحور أو احتياجات بسيطة، رغم شرائهم طلبات الشهر الأساسية مسبقًا.

فهي تحاول مساعدة ابنها على مصاريف طفليه قدر الإمكان. فقد نقلهما من مدارس خاصة إلى حكومية هذا العام؛ بعدما ارتفع تكاليفها من 8 آلاف إلى 12 ألف جنيه للاثنين. كما تستقطع "لطيفة" جزءًا كبيرًا من معاشها لأجل العلاج.

في وقت يغلب فيه حديث الأسعار على جلساتهم.. تتذكر "لطيفة" رمضان الذي عاشته في زمن آخر.

عندما كان زوجها يعمل "صول" في الجيش براتب 45 جنيها. فتحكي كيف أنها كانت تٌدبر به كل احتياجاتها ومصاريف ابنيها؛ حيث تدفع أولا إيجار الشقة (4 جنيهات)، ثم تذهب إلى منطقة العتبة لشراء أكياس مكسرات من كل الأنواع. وكانت تخصص جزءًا ليوم الإفطار خارج البيت عند "مشويات الدهان"، ولدستة جاتوه يبلغ ثمنها حوالي ثلاثة جنيهات.

وحتى بعد استقالة زوجها وحصوله على معاش صغير؛ كان دفتر مصروفاتها مستقراً رغم أن الأسعار ظلت ترتفع ولم يتماشىمعها المعاش.

فمنذ 2016؛ شهدت مصر موجات متتالية من ارتفاع الأسعار، ذلك بعد تعويم الجنيه كجزء من برنامج إصلاح اقتصادي بدأته الحكومة وحصلت بموجبه على قرض من صندوق النقد الدولي. لكن ميزانية السيدة العجوز كانت تتأقلم وتقاوم: "لم أشعر طوال حياتي بالضيق بسبب الغلاء مثلما أشعر هذه الأيام".


يتمنى "أحمد" أن يفعل مثل والده ويتناول الإفطار مع أسرته خارج البيت لو يومًا واحدًا في الشهر. لكنه يعلم أن ذلك سيكلفه ما لا يقل عن 700 جنيه في مطعم متوسط. كما لا يعتقد أن بإمكانه هذا العام شراء طعام جاهز في البيت؛ مثلما جرت العادة خلال أشهر رمضان الماضية.



وبوصول شهر رمضان إلى نصفه؛ تدفع الأسعار وطلبات البيت راتب "أحمد" إلى النفاذ.. تراجعت خططه خطوات إلى الوراء؛ فبدلا من تفكيره في بدائل تساعده على الادخار لأبنائه، أصبح يبحث عنها لأجل العيش فقط. لكن فكرة العمل في مهنة أخرى غير واردة بالنسبة له؛ إذ يذهب إلى عمله من 8 صباحًا حتى 7 مساء: "أين سأجد طاقة ووقتاً لمهنة ثانية!".

ذلك بينما تَحمل "لطيفة" همّ عزومة ثانية تنتظرها لحفيداتها من ابنتها الكبرى وأزواجهن. وتحمل "نسمة" همًا آخر وهو قدوم العيد ومستلزماته وغلاء الملابس كل يوم: "لا أعرف ماذا سأفعل!..ربما سأتجه إلى تقسيط بعض الأشياء أو صنع الحلوى في المنزل.. فبالتأكيد ستتغير قائمتنا للعيد أيضًا".


قصة: مارينا ميلاد

جرافيك: مايكل عادل

تنفيذ: محمد عزت

إشراف عام: علاء الغطريفي