نهار السابع من أكتوبر 2023 – يقطع صوت قصف قوى ضجيج المشهد في وسط غزة.. يهتز معه الناس والبنايات كأنه زلزال، ويحول اتجاه الكاميرات التي تصور المراسلين على الأسطح نحوه.. دقائق قليلة ثم يتبين للجميع الهدف الذي ضربته الغارات الإسرائيلية هذه المرة.. إنه برج فلسطين
وبمجرد أن تلاشى الدخان الأسود من فوقه، كان البرج بطوابقه الـ14 ساوى الأرض. لقد انهار وحيدًا وخاليًا من سكانه. فكان من أوائل الضحايا الذين سقطوا بعد هجوم حركة حماس المفاجئ على إسرائيل في صباح اليوم نفسه. ليخرج أبو عبيدة (المتحدث باسم كتائب القسام التابعة لحماس) ويقول: "الآن بعد أن قصف الاحتلال برج فلسطين، على تل أبيب أن تقف على ساق واحدة وتنتظر ردنا المزلزل".
ربما لم يكن برج فلسطين البالغ من العمر 30 عامًا، برجًا سكنيًا عاديًا، إنما رمز لأشياء كثيرة. فهو البرج الأقدم، حيث بدأت معه فكرة الأبراج في غزة المكتظة بالسكان.. صَعد مع طوابقه حكم السلطة الفلسطينية للقطاع بعد انسحاب إسرائيل، شهد الحصار الذي خنق سكانه، وقُصف مرة واثنتين وثلاثًا.. صمد، وقاوم، حتى انهار مع أشرس حرب شهدها القطاع. فصار بوسع هذا البرج، الذي يسكنه أكثر من 30 أسرة ويتردد عليه العشرات كل يوم، أن يعكس لنا حياة غزة كلها.
وسط ظلام ممتد لساعات لا يشقه سوى ضوء نيران الانفجارات بالخارج، يختبئ غسان أبو رمضان وأسرته في أحد ملاجئ القطاع المتبقية حتى الآن. وقد أمضى أكثر من ثلاثة أسابيع على هذا الحال.. أسابيع تهاجمه فيها المشاهد وتتلاحق: تدمير برجه، موت أحياء كاملة، قصف المستشفى المعمداني، ومجزرة مخيم جباليا.
هذا النوع من الحروب اللانهائية تولد السأم من كل شيء، وبالنسبة لرجل فلسطيني بلغ الـ 66 عامًا في غزة، فقد عاش الكثير منها. لذا لم يعد يكترث بالطائرات الإسرائيلية المارة فوقه. إنما يحمل هاتفه لينظر إلى صور برجه، الذي كان يعني له أكثر من مجرد بناية جامدة. تنحدر دموعه على الهاتف، وتشوش ما يراه، ثم تأخذه إلى الماضي، إلى عمر انقضى، كان أكثره بهذا البرج.
غزة - 1994، في أرض خلاء واسعة تتوسط حي الرمال الساحلي الراقي، وقف "غسان" مرتديّا خوذته، يراقب عن كثب أعمال الإنشاءات التي تجرى للصعود بأول برج سكني في غزة.. فغير أنه مهندس مدني، فهو مالك هذه الأرض وأول الساكنين في البرج المنتظر.
ذلك الحلم كان يلمع في عين "غسان" قبل وقت طويل. فاشترى الأرض الواقف عليها منذ عام 1990 بالشراكة مع صديقه. وتحمل لأجلها مشكلات كثيرة مع الجهات المسؤولة، كما يحكي. فالأرض البالغة مساحتها 1360 متراً، كانت تستولي عليها إسرائيل تحت غطاء قانون "أملاك الغائبين"، القانون الذي يسمح لها بأخذ أملاك كل من هجر ونزح بعد حرب 1948.. تلك الحرب التي أطلق عليها الفلسطينيون والعرب "النكبة"، في حين أسمتها إسرائيل "حرب الاستقلال لإقامة دولتهم".
فكان "غسان" يرى أن "مسألة بناء المساكن العالية هامة جدًا لغزة لضيق أرضها، فهي تحتاج للتوسع ونمط حياة جديد".. هكذا فكر وأقنع صديقين آخرين بالاشتراك في تمويل المشروع المهم لمنطقة تُصنف على أنها "واحدة من أعلى الكثافات السكانية في العالم".
لكن ولادة البرج كانت عسيرة، وانتظر "غسان" طويلاً حتى يعطي إشارة البدء. فغزة كانت تشتعل بالانتفاضة الفلسطينية الأولى التي خرجت منها بعد مقتل عمال مخيم جباليا، وحركة حماس التي ظهرت قبل 7 سنوات بدأت عملياتها المسلحة ضد إسرائيل.. إلى أن حان الوقت بعد اتفاقية أوسلو (1993) التي سمحت بحكم ذاتي فلسطيني بالقطاع والضفة الغربية تحت زعامة ياسر عرفات.
وبينما تنسحب القوات الإسرائيلية من غزة تدريجيًا، يأتى إليها مزيد من العمال ويواصلون بناء البرج لعام كامل.
وقد ولد أخيرًا، واسماه "غسان" برج فلسطين.
استقر "غسان" وزوجته وطفلاه بطابقه الخامس. وسرعان ما نفدت بقية وحداته الـ87. سكنه موظفون، أصحاب أعمال، أطباء، وغيرهم. ودائمًا ما كان يزدحم مدخله بأناس أخرى غير ساكنيه، يدخلون ويخرجون في تناغم واضح، متجهين إلى شركاته ومؤسساته المختلفة.
ولما ذاع صيته، امتدت فكرته للأراضي المجاورة، حتى بدت غزة من أعلى مدينة تشكلها المباني العالية، وتحديدًا حي الرمال، الذي أصبح لاحقًا مركزًا تجاريًا وملاذًا للمؤسسات الهامة كمبنى الأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين)، المجلس التشريعي الفلسطيني، الجامعة الإسلامية، وجامعة الأزهر.
قبل أن يبدل برج فلسطين صورة ذلك الحي هكذا. تغيرت ملامحه أكثر من مرة. فيقال إن حين بُني في عهد الانتداب البريطاني كان عبارة عن كثبان رملية لا حياة فيها. وعندما استلمت الإدارة المصرية غزة في خمسينيات القرن الماضي، فُتحت شوارع امتدادًا له، وزاد ساكنوه بعدما أخذ نصيبه من اللاجئين الذين هجروا أراضيهم عقب عام 1948 - وهم أكثر من 700 ألف فلسطيني - الهجرة التي ظنوها "مؤقتة"، ثم باتت "دائمة" بعد توسع إسرائيل وانتزاعها غزة أيضًا عام 1967.
ومنذ ذلك الوقت، صارت غزة بأحيائها وبناياتها مدينة متوترة، لا تتوقع شيئًا أبدًا، وأصبح "حق العودة إلى الديار" من الثوابت لدى أغلب ساكنيها.
بدا ذلك جليًا خلال سنوات "انتفاضة الأقصى الثانية " التي كانت أكثر دموية وعنفًا من الانتفاضة الأولى. فاستفاق "غسان" وسكان البرج يوم 27 سبتمبر 2000 على خبر اقتحام أرييل شارون (زعيم حزب الليكود الإسرائيلي آنذاك)، باحات المسجد الأقصى رفقة نحو ألفي جندي إسرائيلي، ما دفع المصلين إلى المواجهات، التي بدأت بالحجارة والغاز المسيل للدموع ثم تحولت إلى صراع مسلح كبير، أخذ طريقه إلى غزة ومدن فلسطينية أخرى.
الجميع في البرج كانوا واجمين، يتملكهم الخوف، بعضهم لا يحرك ساكنًا، وآخرون تحركوا باتجاه التظاهرات الغاضبة بعد مقتل الطفل محمد الدرة، والتي كانت نوافذ البرج تطل عليها، مثلما تطل على ركض الناس وهم ينقلون المصابين إلى مجمع الشفاء الطبي القريب.
وسط الزخم الكبير، صار موقع البرج مثاليًا لمقرات مؤسسات إعلامية لنقل الصورة من قلب غزة. فاستقرت صحيفة الأيام بطابقه الثاني، وإذاعة القرآن الكريم بطابقه العاشر، وإذاعة إف إم فلسطين بالطابق الذي يعلوه، ولحقت بهم إذاعة صوت الأقصى، ووكالة شهاب للأنباء المواليتان لحركة حماس.
ثم خفتت جذوة انتفاضة الأقصى الثانية بعد خمس سنوات وتزين البرج والشوارع المحيطة بالأعلام احتفالاً بانسحاب إسرائيل الكامل من القطاع.. لكن الأمور لم تعد بعد عام 2005 كما كانت قبله، لا بالبرج ولا بغزة.
حرك يمينا ويسار
أحاطت صور قادة "حماس" وشعاراتهم بأزقة غزة ومنطقة البرج أكثر من دعاية منافستها حركة فتح.. كان سكانه يرونها في وجوههم أينما ذهبوا. وذات يوم باغتتهم الأصوات الصاخبة الآتية من الشارع.. فنهض "غسان" من مكانه وأطل من شرفته ليرى ما يحدث: العشرات يعصبون جباههم باللون الأخضر، يلوحون بالرايات والأعلام، ويرفع بعضهم صور لقادة الحركة الذين اغتالتهم إسرائيل وفي مقدمتهم مؤسسها الشيخ أحمد ياسين. وكان ذلك إعلانًا لاكتساح "حماس" للانتخابات التشريعية التي شهدها القطاع.
وبعد نحو عام، حَلت أجواء مغايرة تمامًا على البرج، أجواء مرتبكة ومرعبة بعد استيلاء "حماس" على السلطة بغزة. حينها، لم يجد سكانه مخرجًا ولا سبيلًا في الطرق المتوترة التي يتم تفتيش الناس بها. فلازموا بيوتهم لخمسة أيام حتى انتهت المعارك بين شهداء الأقصى (التابعة لحركة فتح) وكتائب القسام (حركة حماس).
وكانت صورة أحد مقاتلي حماس الملثمين وهو يجلس على مكتب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كافية لإخبار الجميع بواقع غزة الجديد، الواقع الذي خشي منه كل ساكني البرج تقريبًا. فقال علي حمدون، ويعمل مدرسًا، وقتها: "لا أرى أي حل.. نحن خائفون من المستقبل".
وبينما تفعل "حماس" ذلك فوق الأرض، كانت تواصل أسفلها حفرها لشبكة أنفاق عميقة ومتشعبة كجزء من خططتها لمواجهة إسرائيل.. يصعدون منها فجأة، يوجهون ضرباتهم المباغتة، ثم يتبخرون. إنها متاهتها التي قد تمتد لمئات الكيلو مترات،
و"يعرفونها عن ظهر قلب"، كما يتحدث كولين كلارك (مدير الأبحاث في مركز صوفان للأبحاث في نيويورك)، فيقول إن "بعضها فخاخ. والقتال فيها سيتطلب معلومات استخباراتية واسعة النطاق قد لا يمتلكها الإسرائيليون".
ردت إسرائيل على كل ذلك بحصار قاسٍ على القطاع، حصار دامٍ حتى الآن وشمل الأرض والبحر والجو. فأحكم قبضته على حياة ساكني البرج مثل سائر أهل غزة. فيقول "غسان": "من بعد عام 2007 أصبحت كل أمور حياتنا في تراجع واضح".
فاستولى التأثير الذي طال عمله كمهندس على تفكيره ونفقاته وحياته برمتها، حيث تراجعت أعمال البناء والاستثمار لصعوبة التجارة وارتفاع الضرائب على المواد. كما توقفت آلاف المصانع عن العمل.
يحكي "غسان" ذلك ويتساءل باستنكار: "وكيف لها أن تعمل في ظل كهرباء تنقطع من 8 لـ10 ساعات يوميًا، ووقود وصل سعره إلى نحو 2 دولار للتر!".
بينما نهاد فرحات الذي يتردد على البرج، كان الوضع لديه أصعب؛ إذ يجلس جوار ابنه "علي" عاجزًا عن فعل شيء له، لأنه لايزال ينتظر تصريحًا للخروج من غزة. فالطفل ذو الـ6 سنوات يعاني من عيب خَلقي في المريء يمنعه من الأكل بشكل طبيعي، وهو الأمر الذي يَصُعب علاجه في بلده.
يجري "نهاد" اتصالات كثيرة لعلها تكون مجدية في مسألة التصاريح، في حين تحاول الأم "هيام" أن تدبر المال لجلب الحليب والأدوية الخاصة به وهي مرتفعة الثمن. فتقول بقلق: "نحتاج إلى معجزة إذا أردت مغادرة غزة إلى الضفة الغربية من خلال معبر إيريز أو السفر للخارج من خلال معبر رفح.. كل ما أريده أن يحصل ابني على العلاج وأن يعيش حياته بسعادة".
ويصطف مع حالة "علي" آلاف المرضى الذين يحصلون على تحويل إلى مستشفيات القدس الشرقية أو مصر أو الأردن، عندما تعجز مرافق وزارة الصحة في غزة عن توفير الرعاية اللازمة نتيجة للحصار.
وبحلول عام 2017، تكاتفت ثلاثية الضرائب التي فرضتها "حماس"، والحرب، والحصار على ساكني البرج والعاملين به والمترددين عليه. فقد خاضت غزة ثلاث حروب مع إسرائيل، جلبت فوضى أكبر لاقتصادها، وأضرت ببنيتها التحتية، خاصة صراع عام 2014، الذي جعل مئات الأسر لا تصل لها إمدادات لمياه البلدية (وفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية).
كما انخرط البرج في الحرب، وطرق القصف الإسرائيلي أبوابه دون سبب واضح. فيقول "غسان": "تعرض لتهديدات كثيرة في تلك السنوات، ثم ضربات لحوالي أربع أو خمس مرات بشكل جزئي، وتضررت إذاعة الأقصى وإذاعة القرآن الكريم.. لكن في كل المرات كان يتم الترميم مباشرة ولم يؤثر على البناء".
لايزال البرج ينجو ويمضي في طريقه.. يحل عليه كل نهار ويبقى صاخبًا ومزدحمًا. فهنا رجال ذاهبة إلى أعمالها بشركات المقاولات، وشباب صاعدين إلى بنك الاسكان، ونساء يقصدن مركز جنى للإخصاب وأطفال الأنابيب بالطابق الأول. فقد يتوقف كل شيء في غزة عدا الإنجاب.
ذلك رغم أنها صارت مسرحًا للأحداث والاحتجاجات. فبين فترة وأخرى، اعتاد "غسان" وجيرانه متابعة صور وأخبار المواجهات المألوفة عند السياج الفاصل بينهم وبين إسرائيل، الذي يبلغ طوله 60 كيلو مترًا. فدائمًا ما يثير هذا السياج غضبهم، "لأنه ببساطة جعل من غزة سجن كبير"، كما يصف.
فأمام المتراس الإسرائيلي، تتكرر المشاهد نفسها مرة بعد مرة، مع اختلاف أرقام القتلى والمصابين.. مئات الشباب يشعلون إطارات السيارات ويتقدمون نحو السياج، ليرد الجنود الإسرائيليون بالغاز المسيل للدموع وأحيانًا يطلقون النيران، ثم يعود المحتجون أدراجهم.
ومع اشتداد الهجوم الإسرائيلي على أي من المناطق القريبة من الحدود، كان بعض سكانها يلجأون إلى محيط برج فلسطين ووسط المدينة باعتباره أكثر النقاط الآمنة إلى حد ما. لكن في مايو عام 2021، لم يعد كذلك. فحين وقعت اشتباكات وردت حماس بالصواريخ، شنت إسرائيل غارتها على القطاع، ووقع الكثير منها على حي الرمال وأبراجه.
هذه المرة، كان مرمى القصف أبراجًا شاهقة تجاور برج فلسطين وتتشارك معه الشهرة وضمها لمقرات وسائل الإعلام، وهم: "الجوهرة"، "الشروق"، "الجلاء"، وغيرها.
برر الجيش الإسرائيلي، قصفه لبرج الجلاء على سبيل المثال "بأنه يضم مكاتب تتستر حماس بها". لكن سالي بوزبي (مدير التحرير التنفيذي لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية)، قالت وقتها "إن مكاتبهم في المبنى منذ 15 عامًا ولم يكن لديها أي مؤشر على احتمال وجود حماس هناك". ثم أتى الدور على برج فلسطين بعد عام واحد .
يوم الخامس من أغسطس 2022، انقلب هدوء الجمعة المعتاد بالبرج إلى فزع وألم. فقد جاء قصف مفاجئ من الشرق باتجاه طابقه السادس.. واستيقظ "غسان" وأسرته من نومهم مفزوعين، ليجدوا أن سقف البيت الذي يحتمون به سقط فوقهم.
تعرض البرج هذه المرة إلى ضربة شديدة تخطت سابقيها. فاندفع سكانه باتجاه سلم الهروب، وأخذت جدرانه ونوافذه (من الطابق الرابع لما فوق) تتهاوى.
تدفق الناس منه نحو الشارع الرئيسي "الشهداء". ومازال "غسان" يذكر كيف كان يتجه محمولًا ناحية مستشفى الشفاء القريبة، وسط بكاء وذهول. لم يكن قادرًا على استيعاب شيء أو معرفة السبب.
ومضى وقت قبل أن يتبين أن القصف استهدف شقة في الدور الذي يعلوه: "لم نكن نعلم أن شخصًا مطلوبًا من إسرائيل يقيم فوق رأسنا".
اغتيل تيسير الجعبري (القائد في حركة الجهاد الإسلامي)، بينما نجا "غسان" وأسرته بأعجوبة بعد أن ظل في المستشفى 8 أيام كاملة. أُجريت له عمليتان، فيما ظلت زوجته شهرًا كاملًا لتجري 3 عمليات. أما ابنته الكبرى، الموظفة بأحد البنوك، فانقطعت شرايين يديها، ولحقت إصابات بأبنائه الباقين.
يقول "غسان": "كُتب لنا عمر جديد، لم يكن أحد يصدق أن نبقى أحياء".
لكنه فقد أثاث بيته الذي كلفه 15 ألف دولار، وتركت أسرته ومعها أكثر من 30 أسرة البرج بعد دمار أربعة طوابق وانهيار شبكات الصرف والكهرباء.. وللمرة الأولى، تضيع هيبة برج فلسطين وتتوقف كل أشكال الحياة والحركة به.
واجه البرج قنابل من نوع "GBU39"، وهي أمريكية الصنع، ومخصصة لاختراق الحصون الإسمنتية والكتل الخرسانية ثم الانفجار، لتؤدي إلى مقتل من يتواجدون خلف الجدران. لذا يطلق عليها "مدمرة الملاجئ والحصون"، وفقاً لما كشفته فرق هندسة المتفجرات بالشرطة في غزة، ونشرته جريدة الأيام، التي تضرر مقرها أيضًا.
ولأيام، ظل محيطه مزدحمًا، فزاره وفدان من وزارتي التنمية الاجتماعية والأشغال العامة والإسكان للعمل على إصلاحه.. ونظم ساكنوه خيمة اعتصام للتنديد بما حدث لهم.
داخل الخيمة، دارت الأحاديث حول ما جرى لكل ساكن. إذ كان الأمر عند بعضهم أكثر بكثير من مجرد سقوط حجارة. فخليل كانون (36 سنة)، الذي يعمل منسق مشاريع في منظمات المجتمع المدني، مرّ بضغوطات نفسية ومادية، فانفصل لفترة عن زوجته، كما يحكي. ثم استأجر شقة صغيرة في عقار مجاور للبرج، ولم يكف الصغار عن إخباره "بأنهم خائفون ويريدون منزلهم". فيقول بصوت مكتوم: "شعرت بعجز شديد في ذلك الوقت". كما استأجر "غسان" وأسرته أيضًا شقة بـ600 دولار شهريًا.
شقة غسان بالبرج قبل وبعد القصف
ثم مرت أشهر طويلة، حل فيها العمال محل ساكني البرج، حيث أعمال الترميم من معونات ومساعدات وفرتها منظمات لإعادته كما كان، بحسب "خليل". وعاد الدكتور جادالله عكاشة (صاحب مركز الإخصاب وأطفال الأنابيب) إلى عمله بالبرج. فمركزه لم تقع به أضرار تُذكر.
كما عاد منير رضوان (الأستاذ الجامعي بجامعة الأقصى)، الذي كان يسكن الطابق الرابع، بعد أن توقفت وزارة الأشغال والمنظمات عن صرف المساعدات لهم. فأرهقه دفع الإيجار، خاصة وأنه يصلح شقته من ماله الخاص وينفق على أبنائه الثلاثة، الذين يدرسون الطب. ولم يمر سوى أسبوعين على عودته، إلا وحدث ما هو أفظع لهم وللبرج.
في يوم 7 أكتوبر الماضي - لم يكن البرج بكامل قواه. إنه لايزال يتعافى، وداخله، كان هناك أربع أو خمس عائلات فقط من سكانه، بينهم أسرة منير رضوان.
تسمّر هؤلاء أمام الشاشات، لا يصدقون ما يرونه: مقاتلو حركة حماس يشنون هجومًا على جنوب إسرائيل، لم يعرفه تاريخ المواجهات بينهما من قبل، فهم يفككون السياج بجرافات، يقتحمون المستوطنات، ويحتجزون رهائن.
هنا اختلطت نشوة الانتصار مع الرعب مما سيحدث.. فيقول خليل كانون: "كنا في حالة صدمة.. لم ندرك مشاعرنا، فبعدما كنا نشعر بالإحباط والذل جراء ما يحدث في المسجد الأقصى وإهانة المصلين؛ فرحنا.. لكننا أدركنا أن هناك ردًا إسرائيليًا كبيرًا".
وجاء الرد بطابع مخيف استعصى على توقعات "خليل" وكل الأطراف.
وفي ساعات الرد الأولى، وصل إلى البرج إنذار يكتب نهايته. فسمعت أسرة منير رضوان، صراخ أحدهم: "أخلوا البرج سيقصفونه".
وخلال أقل من عشر دقائق، رَكض "منير" وبقية ساكنيه خارجه. لكنهم ظلوا يحدقون فيه كأنه شخص يحتضر، يريدون أن يبقوا جواره في لحظاته الأخيرة.
ويبدو أن كل شيء تشابك في رأس الرجل حينها، وترجم صدمته إلى تساؤلات أخذ يرددها: "لماذا يُقصف البرج وهو شبه خالٍ؟، أي تهديد يأتي من برج تسكنه أسر دون أي مظاهر مسلحة؟".
لكن خالد الغرابلي (الصحفي والمحلل المتخصص في الشئون الدولية) يرى أن استهداف إسرائيل للأبراج السكنية في غزة "ما هو إلا لتذكير الفلسطينيين بأن الجميع سيدفع ثمناً لهذه الحرب، ولإثبات إنجازاتها في المعركة".
وبعد الانهيار، عاد "منير" إلى أرض البرج الممتلئة بحطامه.. أخذ يتطلع في سنوات عمره، ذكرياته، أمواله، التي تحولت في لحظة إلى ركام. وظل يبحث بين هذا الركام المتناثر لعله يجد إثبات شخصية أو شهادة علمية تخصه. فيقول: "لم نلحق أن نخرج بأي شيء.. فقط الملابس التى نرتديها".
وعلى مقربة من "منير"، كان جيرانه ينبشون أيضًا بين الركام، لكن على جثث عائلاتهم. فلا تزال هناك 1000 جثة عالقة تحت الأنقاض لم يتم التعرف عليها، ولم يتم تسجيلها، حسب تقديرات ريتشارد بيبركورن (ممثل منظمة الصحة العالمية بفلسطين) حتى يوم 27 أكتوبر.
فيما وقف دكتور "جادالله" يتحسر على مركزه الذي دُمر بأجهزته وحضّاناته، والأكثر ألمًا بالنسبة له هو أن الحضانات كانت بها أجنة (خلايا مخصبة قبل إرجاعها إلى رحم الأم). فقصف الطيران الإسرائيلي مع البرج أحلام عشرات النساء.
ثم تفرق الجميع مثل الأحجار المتطايرة من البنايات. مضوا في طريقهم نحو بيوت أقاربهم أو مدارس الأونروا. فانضموا لأكثر من مليون نازح، اتجه أغلبهم ناحية الجنوب استجابة للتعليمات الإسرائيلية، لكن ظلت الغارات تلاحقهم في بعض المناطق، بحسب شهاداتهم.
مشى "منير" متثاقلًا وحوله اختفت معالم حي الرمال الذي كان ينبض بالحياة، ثم قال: "أجدادنا هجروا عام 1948 وها نحن نعيد الكرّة من جديد.. نحن بعمر الخمسين وكم بقي من العمر لكي نتشرد؟!".
رحل برج فلسطين مع 45% من الوحدات السكنية في غزة، التي أصبحت مدمرة أو غير صالحة للسكن (وفقًا لمسؤولين).
ووصلت صوره الأخيرة لغسان أبو رمضان، الذي انهار وبكى. فيقول: "كانت اللحظة الأسوأ في حياتي". تلك الصور التي يجلس في المكان الذي يحتمي فيه هذه الأيام ينظر إليها بعين الحسرة، وتستدعي دموعه في كل مرة. إلى جانب ما يصله من أخبار عن جولة الحرب الدائرة حوله، الجولة الأخطر والأكبر من احتمال غزة.. يعترف بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) بذلك، فيقول إنها "حرب صعبة وطويلة.. علينا أن نهزم حماس لأنه اختبار وجودي لنا".
لذا فالقصف الإسرائيلي لا يتوقف، ومؤشرات القتل لا تهدأ. ومن نجا منه لوقت مثل "غسان"، فيفتك به الحصار تدريجياً، فلا كهرباء ولا ماء نظيفة ولا وقود.
حتى إن شاحنات المساعدات التي تدخل عبر معبر رفح، هي "قطرة في محيط"، حسب وصف فيليب لازاريني (المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - أونروا)، الذي يرى أن "غزة التي كانت تعتبر سجناً كبيراً مفتوحاً أصبحت مقبرة للسكان".
يترك "غسان" الهاتف والصور والأخبار.. يذهب ليصلي - وهو جالس على كرسي - فلا يمكنه الحركة بشكل طبيعي بعد ما أصابه في القصف الأول. وفي صلاته، يدعو أن ينقشع هذا الكابوس الثقيل، وإن ظل حيًا، فلا يضطر لمغادرة أرضه. ربما يؤمن هذا الرجل بما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش من قبل:
"غزة.. ليست أجمل المدن.. ليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية.. وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض. وليست أغنى المدن.. وليست أكبر المدن...
ولكنها تعادل تاريخ أمة لأنها أشد قبحًا في عيون الأعداء، وفقرًا وبؤسًا وشراسة. لأنها أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته، لأنها كابوسه،
لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات.. لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب".
ينهي "غسان" صلاته. يجد في جيبه مفتاح شقته بالبرج، فيقرر أن يحتفظ به مثلما فعلت العائلات الفلسطينية التي هُجرت من أرضها قبل 75 عامًا، والكثير منهم كان يعيش جواره في غزة..
فهؤلاء احتفظوا بمفاتيح ديارهم، كبيرة الحجم، داكنة اللون، ليورثوها لأولادهم وأحفادهم، ومعها أمل العودة ذات يوم.
قصة: مارينا ميلاد
جرافيك: مايكل عادل
تصميم وتنفيذ: محمد عزت
- شخصية نهاد فرحات من شهادات سجلتها
وكالة الأونروا حول الحصار - عام 2016
- الصور: غسان أبو رمضان – وكالة الأونروا