في غزة.. لم تعد النجاة من القصف حياة كاملة، فالموت أسفل الأنقاض بات الأكثر إنسانية، ومن لم تدركه صواريخ الاحتلال، أدركه الجوع والعطش في ظل حصار كامل فُرض على مدينة تجاوز سكانها المليونين، حولتهم نزعة إسرائيل الانتقامية الجامحة في 7 أيام فقط، إلى مشروع شهداء وجرحى يمشون على أرض باتت خراب بعد عمار.
الناجون من بطش المعتدي، بعضهم فرّ نحو وجهة آمنة، وآخر آثر البقاء على أطلال منزله، وثالث لم يصبح بعد هدفًا للقصف، لكنّهم في النهاية ينتظرون المصير نفسه "الموت جوعًا وعطشًا" حال استمرار فرض الحصار.
في هذا الملف نسرد حكايات من عائلات فلسطينية تواصل معهم مصراوي، كُتبت لهم النجاة من القصف، البعض منهم لجأ إلى المستشفيات كونها الملاذ الآمن الوحيد أمامهم، وآخرين لم يغادروا بعد منازلهم، وغيرهم استقروا لدى أقاربهم آملين ألا يكونوا هدفًا قادمًا لصواريخ العدو.
في حي المخابرات غرب مدينة غزة حيث عاش خالد أبو سلطان وزوجته داخل منزلهم، المنزل الذي احتضن أحلام الشاب وعائلته الصغيرة لنحو 8 سنوات، لكن الاحتلال قررّ القضاء على تلك الأحلام، وبات المنزل الذي شهد على ذكريات سنوات مهجورًا.
"لسا اليوم كنت بدي ارجع المخابرات موت في بيتي بس لسا إلي عمر جديد"، بعد أيام قليلة من العدوان على غزة وفي ظل القصف الشديد على المدينة، قررّ خالد مغادرة منزله، رفقة زوجته، حسرة خالد على منزله كانت كبيرة، خاصة وأنّه عاش به لنحو 8 سنوات 5 منهم كان مستأجرًا وظل يعمل ليل نهار ويجمع المال من أجل أن يمتلك المنزل، والذي امتلكه بالفعل قبل نحو 3 سنوات.
قبل أيام قليلة من القصف، شعر الشاب بالخطر فخرج رفقة زوجته ولم يحملوا معهم سوى هوياتهم فقط، متجهين نحو مكان آخر، وقبل ساعات من قصف الأبراج، فكر الشاب في العودة لمنزله والمكوث به حتى لو طالته صواريخ المحتل، لكنّ الاحتلال لم يمهله وقت للعودة فقصف المنزل وغيره من عشرات المنازل الأخرى بحي المخابرات دون تحذير مُسبق.
"ياريتنا متنا هناك وارتحنا .. في ناس بتموت من الجوع والعطش" أصبح حي المخابرات كغيره من أحياء غزة المنكوبة، سكانه ما بين نازح و شهيد ومصاب، الناجون من الحي لجؤوا نحو فندق "المشتل" القريب منهم، ما يقرب من 700 مواطن من أبناء الحي أغلبهم من النساء والأطفال أقاموا بالفندق، لكن دون طعام أو شراب.
قرر خالد ورفاقه إطلاق إغاثات لإنقاذ من بالفندق، فالأطفال معرضون للموت بين لحظة وأخرى جوعًا وعطشًا"، حتى أنّ خالد نفسه وجبته الوحيدة في اليوم، ربع كسرة خبز صغيرة، لا تكفي طفل وقطعة جبن في طريقها للنفاذ.
خالد يقطن اليوم لدى أقاربه، لكنّ القصف ليس ببعيد عنه، فالقصف يشتد بين ليلة وأخرى، لكن الشاب قرر الانتظار بمكانه حتى لو طالته صواريخ المحتل "مفيش شبر في غزة أمن، كل شيء مستهدف".
مساء أمس الجمعة، اشتدت الغارات في المدينة، كانت آية تحتضن صغارها ذو الخمسة أعوام ، محاولة تهدئتهم من أصوات القصف، لم تمر سوى دقائق قليلة، وانضمت آية وعائلتها لقائمة المهددين بالقصف، بعدما وصلهم إنذار من الاحتلال بمغادرة منزلهم خلال دقائق حتى يتم استهدافه بسبب وجود بعض من رجال المقاومة في المحيط، كانت آية وعائلتها أوفر حظًا من الكثير من أبناء مدينتها الذين تم استهدافهم دون إنذار.
"نزحنا من بيتنا لأقرب مشى بعد تهديدنا بالقصف" داخل المستشفى العربي الأهلي في وسط مدينة غزة نزحت آية وطفليها ونحو 17 فردًا من عائلتها، خرجوا مسرعين فلم تحمل معها سوى قطعتين من ثيابها وثياب طفليها.
المستشفى كانت هي المكان الأمثل ، لآية وعائلتها باعتباره الأكثر أمانًا حاليّا أو كما قالت السيدة " كل المناطق خطر بس احنا بنروح ع المناطق الأقل خطر" ، كما أنّه المكان الوحيد الذي كان متاحًا أمامهم للنزوح إليه، خاصة بعدما امتلأت المدارس التابعة لوكالة غوث للاجئين "الأونروا" بنازحيها ولم تعد تتسع لآخرين.
حاولت السيدة أن تُدبر طعامًا لصغارها، لم تجد أمامها سوى بعض النازحين المتواجدين حولها، داخل أروقة المستشفى التي استقبلت العشرات منهم، خاصة وأنّها مستشفى خاص لم تستقبل جرحى العدوان، فخٌصصت لاستقبال النازحين من مناطق وسط غزة، فحصلت منهم على كميات قليلة من الماء، وقطعًا من كسرات الخبز التي يتناولها أطفالها، على مدار ساعات طويلة.
"ما بعرف راح نضل هيك كام يوم لحين يخلص الأكل والشرب"، الفتاة تنتظر أن يساعدهم أحد، ينتظرون الموت كل يوم، خوفهم الكبير لم يكن من صواريخ العدو التي يمكن أن تطال المستشفى التي يلجؤون بها، لكن هناك خطرُ أكبر يداهمهم كل ساعة، وهو نفاذ ما يملكونه من الطعام والشراب، وحينها سيكون الموت هو الزائر الأقرب إليهم وصغارهم.
الحال لم يختلف كثيرًا مع آلاء يونس، السيدة التي فقدت عائلتها قبل أيام قليلة في قصف لمنزلهم، فاستشهدت والدتها وخالتها وشقيقها وشقيقتها وأبناء شقيقها، جميعهم استهدفهم الاحتلال بصاروخ وهم نيام فجرًا.
"آلاء" التي تقطن في منطقة أخرى عن التي كانت تعيش فيها عائلتها في خانيونس، ودت لو أنّها كانت بالمنزل معهم أثناء القصف، فالموت مع عائلتها كان هينًا عليها أفضل من الحياة بدونهم وانتظار الموت جوعًا وعطشاً.
"الأوضاع في المدينة صعبة والجميع ينتظر الموت"، آلاء رفضت أن تغادر منزلها، تدعوا الله أن يكون خارج أهداف المحتل، تفكر ليل نهار في حال صغارها، الذين على وشك مواجهة الموت جوعًا، بعدما انقطعت الكهرباء والمياه، وتوقفت المخابز، بسبب شدة القصف على أحياء المدينة، لذا لم يعد أمام السيدة سوى العيش على مخزون بسيط كانت تمتلكه في منزلها، محاولة الحفاظ عليه بكافة الطرق.
البعض كانت خياراته محدودة لمحاولة النجاة، فلم يكن أمامه سوى الشارع بالقرب من المستشفيات يفترش أرضه بثيابه ويحتضن أبنائه، على أمل ألا تطاله صواريخ المحتل، هكذا كان المشهد في العديد من مناطق غزة حسبما وصفه الصحفي عبد الرحمن العبادلة، المقيم بمدينة خانيونس، والذي يتواجد رفقة عدد كبير من الصحفيين داخل خيمة بمستشفى ناصر في مدينة خانيونس .
"الناس هون بالمدينة أغلبهم ما ضل عندهم في الأساس من الشظايا والحجارة المتطايرة بيت فقرروا اللجوء للشوارع" أمام باب مستشفى ناصر في مدينة خانيونس افترشت عشرات العائلات الذين نجوا من بطش الاحتلال الشارع، هؤلاء لم يجدوا أمامهم ملاذ آخر، لا أقارب يلجؤون إليهم، ولا مدارس تابعة للوكالة يقطنون بها بعدما امتلأت عن بكرة أبيها، لذا فالشارع أمام المستشفى كان الخيار الأصوب.
منذ الساعات الأولى من بداية الحرب والعائلات في القطاع بأكمله تستعد، البعض منهم عمل على تجهيز شنطة صغيرة يحمله معه وقت الإخلاء بها ثيابًا أساسية لأفراد العائلة، خاصة وأنّهم اعتادوا من الحروب السابقة أنّ وقت الإخلاء لا يتجاوز الـ10 دقائق فقط، لكن في الحقيقة أنّ الجميع مع بداية سماع أصوات طائرات المحتل، يسرع هربًا من منزله حاملًا أطفاله تاركين خلفهم كل شيء.
"الناس حاليّا على البلاط في البرد لا أكل ولا شرب كل شوارع قطاع غزة هيك صار" المشهد الذي وصفه الصحفي عبد الرحمن العبادلة، تكررّ في الكثير من شوارع غزة تحديدًا في الشمال والوسط، الشاب تحدّث عن أنّ العشرات من سكان منطقة شرق شارع صلاح الدين يتواجدون بالشارع أمام مستشفى ناصر حيث يتواجد، بلا طعام أو شراب مهددين بالموت جوعًا وعطشًا.
قبل نحو 3 أيام استهدف الاحتلال مبنى وسط مدينة خانيونس، الاستهداف لم يطال المبنى فقط بل طال تجمعًا لعدد من النازحين كانوا يقطنون بالشارع بالقرب من المبنى، ونتج عنه استشهاد نحو 6 منهم بسبب الشظايا المتطايرة.
المئات بل الآلاف حاليا نيام بالطرقات والمنتزهات وعلى أبواب المستشفيات، جميعهم يبحثون عن كسرة خبز لأطفالهم، وبعض من قطرات المياه التي بات من الصعب الحصول عليها، حتى الأموال لم يعد هناك الكثير ممن يمتلكونها خاصة وأنّه لا عمل الآن في غزة، فلم يعد يُسمع حاليًا بالمدينة سوى إمّا بكاء أهالي شهداء القصف وأنين مصابيه، أو صرخات الأطفال جوعًا وعطشًا.
المتحدث باسم الحكومة الفلسطينية في غزة، سلامة معروف، تحدّث بدوره عن الأوضاع الإنسانية في غزة، في ظل وجود عدد كبير من المواطنين بالشوارع، وعلى شاطئ بحر غزة، فذكر أنّ هؤلاء ممن آثروا البقاء بالقرب من منازلهم التي تعرضت للقصف، يرفضون كل محاولات الاحتلال الإسرائيلي من تهجيرهم وإبعادهم عن أرضهم، وبالرغم من نجاة هؤلاء من قصف منازلهم لكنّهم حتى اللحظة لم يخرجوا بعد من دائرة القتل والاستهداف.
المواطنين الذين استهدفت منازلهم وباتوا حاليًا يالشوارع لا يمكن أن نقول عنهم ناجين حتى اللحظة، طالما استمر قصف الاحتلال العشوائي في كل مكان حولهم، فغارات الاحتلال تستهدف كل مناحي الحياة من بشر وشجر وحجر، لذا فهؤلاء لم ينجو بعد من دائرة القتل الإسرائيلية، وتواجدهم بالقرب من منازلهم المهدمة ماهو إلّا تمسك بالأرض، ورفض الخروج والمغادرة بأي حال من الأحوال، حسب "معروف".
مسؤولية المواطنين الذين آثروا البقاء في مدنهم، رافضين الخروج بشكل أساسي، مرتبطة بالمنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة، والتي يفترض بها أن تتحرك من أجل دعم وإنقاذهم، تلك المنظمات التي وضعت قواعد القانون الدولي الإنساني، والتي حددت واجباتها تجاه هؤلاء المدنيين في مثل هذه الأوقات، سواء بتوفير الحماية أو المواد الحياتية والمعيشية التي تكفل الحياة لهم، وفقًا للمسؤول الحكومي.
وبالنسبة لمحاولة إيجاد حلول بسيطة لتلك الأزمة، فأوضح "معروف"، أنّ تماسك المجتمع الفلسطيني وحده من سيساهم في الخروج من تلك الأزمة، وبطبيعة الحال فإنّ هذا المجتمع تحكمه العادة والعرف بشكل كبير، والعائلات في فلسطين كما يطلق عليها عائلات ممتدة، لذا فتلك العائلات يظهر دورها الواضح والكبير في مثل تلك الأزمات.
المواطنون الذين هجروا من منازلهم فُتحت لهم منازل أخرى، بعض المؤسسات الحكومية أيضًا عملت على توفير بعض الأماكن لتجمعات النازحين الذين خرجوا من منازلهم بسبب القصف، ولم يعد لهم أي مأوى، الحكومة أيضًا عملت على فتح عشرات المدارس الحكومية ويتم العمل على استيعاب العشرات من النازحين، مؤكدًا على أنّ غزة كانت تمتلك مخزون قبل العدوان وهذا المخزون هو الذي تعمل عليه حاليا، وبغض النظر عن الفترة الزمنية التي يمكن أن ينتهي فيها هذا المخزون لكنّه موزع على الجميع دون فرق.