لم تَفشل العائمات المتراصّة على جانبي النيل أبدًا في إثارة إعجاب أو فضول كل من مَر أمامها. الأغلب يراها عالمًا غامضًا؛ ينسج كل شخص صورته عنه حسب تخيله: عالم يسكنه الأثرياء المُرفهون أو تملؤه السهرات الليلية الصاخبة، أو ربما هو عالم يخص الفنانين والمثقفين. والحقيقة أن عوامات القاهرة تمتلئ سجلاتها ولياليها بكل ذلك وأكثر.. فهي شاهدة على مجريات أحداث وتاريخ بلد وضع بصماته عليها وكتبت مرحلته الحالية نهايتها بعدما قررت الحكومة إزالتها تحت مسمى "إعادة هيكلة المظهر الحضارى للنهر"، فلا عوامات سكنية في نيل القاهرة بعد الآن.
لساعات؛ تجلس "منار" لتصطاد في نادي نقابتها "المهندسين" بالزمالك. تَشخص ببصرها بعيدًا نحو الضفة الأخرى بمنطقة "الكيت كات" وتُحدق في إحدى العوامات السكنية الراسية بها بشدة.. أسئلة كثيرة تقفز إلى رأسها في تلك اللحظة: من يسكنها؟ كيف تمضي الحياة فيها؟ ما شكلها من الداخل؟.
تمر الأيام وتلعب الصدفة دورها لتجد "منار" إعلانًا يفيد ببيع هذه العوامة التي طالما جذبتها، ولم تكن تعرف وقتها أنها العوامة نفسها التي شهدت تصوير فيلم "أيام وليالي" لعبد الحليم حافظ عام 1955.
تُسرع بعرض الأمر على أبيها (مجدي الهجرسي)، وهو عميد سابق بالجيش، ليفاجئها بإعجابه بفكرة انتقالهم من سكنهم التقليدي إلى ضفاف النيل، مرددًا الآية القرآنية: "جَنات تجري من تحتها الأنهار".
لم يكن مبلغ الثلاثة ملايين جنيه المطلوب بإمكان "مجدي"؛ فقررت الأسرة بيع كل شئ تملكه: شقتهم بمنطقة مدينة نصر، شقة ابنتهم "منار"، السيارة، إضافة إلى مكافأة نهاية الخدمة للأم ومجوهراتها.
فَعلت الأسرة- المكونة من عشر أفراد- كل ما في وسعها وحصلوا في النهاية على العوامة "39".
تقول "منار": "شعرت أننا نعيش في الجنة وأن حلمي تحقق".. وفيما فَرحت "منار" (35 سنة) لإكمال مستقبلها وأبنائها بها، كانت الأم (ناهد محمد) تنظر للأمر بعين أخرى: "قلت إننا سنقضي أنا وزوجي الأيام المتبقية لنا في الحياة بهدوء وسلام".
جهزت الأسرة عوامتهم شيئاً فشيئاً أثناء إقامتهم بها.. جددوا 23 فنطاساً (خزان) تقف عليها العوامة، وأقاموا نجيلة في الشرفة بدلا من الخشب لتتحمل المياه والرطوبة.
وبعد أربع سنوات من تلك اللحظة السعيدة وبعدما انتهت رحلة التجديد الشاقة والمُكلفة؛ تقف "منار" ووالداها داخل العوامة بوجوه حزينة وحائرة. انقلبت حياتهم في غمضة عين.. انقطعت عنهم الكهرباء والمياه؛ فاستعانت الأم بمياه النيل للتنظيف، والمياه "المَعدنية" للشُرب، واعتمدوا على أنوار "الفواليك" و"الكلوبات" ليلا.
قبل أسبوع من هذا الحال وبينما كانوا يضعون بعض الخوص على السور ليحمي الخشب من أشعة الشمس؛ وصل إليهم إنذارًا بإزالة عوامتهم ضمن 32 عوامة سكنية تصطف بين كوبري 15 مايو بالعجوزة وكوبري إمبابة لأن "وجودها غير قانوني".
60 عامًا إلى الوراء؛ لم يكن هذا مكان العوامات السكنية ولا عددها ولا صورتها.
استقرت العوامات على جانب النهر عند منطقة العجوزة وحي الزمالك الراقي، وأكثرها في شارع الجبلاية.. سكنها الصفوة من فنانين، سياسيين، باشوات، وأجانب.. ظلّل مدخل بعضها أشجار المانجو وغيرها، واعتادت مراكب الصيد الصغيرة أن تمر بجانبها لتبيع لساكنيها السمك، الطيور، والجرائد.
كان أهلها يطلون من شرفاتهم لمتابعة مسابقات التجديف الدائرة حولهم وما أكثرها، لكن لم يتوقعوا حينها أن هذا المشهد الذي يستمتعون به سيكون سببًا في تركهم لمكانهم المميز الهادئ.
فأصدر رئيس الوزراء آنذاك، زكريا محيي الدين، قرارًا بنقل جميع العوامات من الزمالك والعجوزة إلى منطقة الكيت كات عام 1966، حيث كان من عشاق التجديف ووجد أن العوامات تشغل مساحة كبيرة ربما تعوق ممارسة هذه الرياضة.
البعض ترك عواماته لتواجه مصيرها وآخرون قرروا بيعها بدلا من الانتقال إلى حي "شَعبي"، ومنذ ذلك التاريخ قَل عددها، الذي اقترب في الماضي – بحسب عدة دراسات - من الـ500 عائمة.
كانت ضربة قاصمة لعالم العوامات، أفقدته الكثير لكنها لم تنل من وجوده وحيويته بعكس الآن.
المشهد عند العوامات الذي طالما كان ساكنًا، بات مُقبضًا ومُقلقًا.. البعض يبدو مهجورًا ويأكله الصدأ والإهمال، والبعض يَعج بالعمال الذين يفككون ما استطاعوا من أشياء وأجهزة ليلحق مُلاكها نقلهم أو بيعهم، والبعض يتركز عنده معدات الإزالة.
وأخرون يتمسك ساكنوها بها وسط تشتت وفوضى، بينهم السيدة إخلاص حلمي، التي بلغ عمرها الـ88 عاماً.
فبعد أن كانت العوامة 77، التي تملكها "إخلاص" من أفخم العوامات وأبهاها، صارت مُفرغة من تماثيلها الثمينة ولوحاتها الفنية، التي سارعت بنقلها إلى بيوت أشقائها خوفًا من فقدانها إن أزالوا عوامتها.
وسط الأشياء المبعثرة التي تمثل حياتها؛ تسير "إخلاص" ويرافقها قططها وكلبتها دائمًا. ربما أصابهم جميعًا الحزن والذهول.. ترى "إخلاص" ذلك؛ فتقول "إنهم يشعرون مثلها بأن هذا ليست عوامتهم التي يعرفونها".
تَجلس السيدة المسنة في الشرفة وتتجنب النظر إلى الداخل؛ فلا تصدق أن كل ذلك حقيقة.. تعود بذاكرتها إلى الوراء عندما بَنت هذه العوامة بنفسها منذ أكثر من 25 عاماً.
تتذكر ذهابها إلى مصنع الأخشاب بالمعادي، وشراءها الحديد من "السبتية"، واتصالها بمهندس ليصنع لها الفناطيس، ورسمها لتصميم السور وقد استلهمته من عوامة ظهرت بأحد الأفلام الأجنبية.
لم يأت حب "إخلاص" وشغفها تجاه عوامتها من فراغ؛ فقد ولدت داخل عوامة أيضًا، حيث كانت تسكن أسرتها.. ظلت بها حتى تزوجت ثم انتقلت إلى شقة بحي الزمالك.
توفى زوجها؛ فلم تتحمل العيش بمفردها؛ خاصة أنها لم تنجب.. باعتها وعادت إلى "الونس" – كما تصفه.
ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.. فتحت "إخلاص" عيونها في عوامة أبيها، الذي يعمل طبيبًا، على دنيا العوامات اليقظة التي تشع من داخلها الأضواء؛ فجيرانها من أشهر الشخصيات والفنانين.
وفي جلسات عوامات هذا الزمن؛ اختلط الفن والسياسة وكل شيء مثل عوامة الفنانة منيرة المهدية، التي كانت مقصدًا لكبار المسئولين ورؤساء الحكومات، وعوامة الراقصة بديعة مصابني أمام فندق شيراتون القاهرة، والتي يٌقال إن قرارات حكومية اتُخذت بها.
وهناك عوامة الفنان فريد الأطرش المؤلفة من طابقين على الطراز العربي. فيما كانت عوامة الراقصة حكمت فهمي هي الأشهر بقصصها المثيرة، حيث تحولت إلى مقر للتجسس على القوات الإنجليزية في مصر لصالح الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية.
كما وقع الأديب نجيب محفوظ في غرام العوامات؛ فظل مقيمًا في عوامة حسين باشا دياب لسنوات طويلة، ألف خلالها واحدة من أشهر رواياته: "ثرثرة فوق النيل"، التي تحولت بعد عشر سنوات من كتابته لها إلى عمل سينمائي يصور جانبًا من حياة العوامات يُسيطر عليه اللهو والملذات.
في الواقع، لم يعش عارف غريب هذه المشاهد التي صورها الفيلم طوال حياته المجاورة للعوامات، والتي بلغت 51 عاماً.
لذلك رفض تصريحات أيمن أنور، رئيس إدارة حماية نهر النيل بالقاهرة، بأن بعض العوامات بها أعمال خارجة، ضمن مبررات إزالتها.
"عارف الذي يعرف كل شيء"، كما تراه السيدة "إخلاص"، ولد في النيل مثلها. لكنه لم يولد في عوامة عالية إنما في مركب صيد صغير مع أسرته. كَبر مُلازمًا للنيل وعواماته؛ فعمل صيادًا بجانبها مع والده. وبمرور الوقت، لم يأت الصيد بثماره له– حسبما يحكي – فتفرغ لصيانة فناطيس العوامات ومساعدة سكانها.
الآن يقف الرجل- ولديه 7 أبناء - عاجزًا أمام قرار إزالتها وقطع رزقه ومعه بقية حُراس العوامات.
المسألة عند "عارف" ليست أموالا فقط، إنما "عِشرة طويلة مع العوامات وأهلها"- كما وصفها.. فيقول: "فتحت عيني على مدام إخلاص.. وعلى عوامات مثل القصور".
"عارف" وأغلب الأجيال الحالية لا تعرف عن وجود عوامات نيلية إلا أنها منذ العقود الأولى من القرن الفائت، لكن الأمر يبدو أنه أقدم كثيرًا.
ففكرة العوامات تعود إلى العصر المملوكي، ثم شهدت رواجًا في عهد الخديو إسماعيل تحت اسم "الدهبية" لطلائها بلون الذهب، بحسب مقال للكاتب سمير رأفت بصحيفة "ذا اجيبشيان جازيت" عام 1997.
وللدهبية مُحرك ينتقل بها من مكان لآخر.. لذا هي تختلف عن العوامة السكنية الثابتة، التي ظهرت الحاجة لها مع الحرب العالمية الثانية لنقص مواد البناء، ولأن هناك أكثر من مليون جندي من قوات الحلفاء يمرون عبر القاهرة، وكبار الضباط البريطانيين يحتاجون لأماكن إقامة.
وبمرور السنوات؛ أصبح من السهل توفر المياه والغاز والكهرباء والهواتف بها؛ فصارت منازل دائمة للأسر المصرية.
العوامة 65.. جميع المرافق السابقة موجودة، الصرف الصحي لها ولغيرها مثل كل البيوت المحيطة، فلا تلوث يَحدث للنهر.. هذا ما يشير إليه صاحبها جيروم جير، المصري الفرنسي، الذي ترك عمله كمستشار إداري في سويسرا لأجل هذه العوامة.
فلما قال رئيس إدارة حماية نهر النيل بالقاهرة، إن العوامات تلوث النيل مُعللا أسباب إزالتها؛ تعَجب "جيروم" من ذلك: "كيف نلوث النيل ونحن نعيش فيه ونحبه ونسوق له!؟".
منذ نحو 30 عامًا، اشترى والدا "جيروم" هذه العوامة من سيدة إسبانية، لكنه لم يعش بها ولا بمصر كلها بعد عامه السادس، ولم يفكر في المجيء إلا قبل عامين فقط لقضاء إجازته ثم يرحل مجددًا. لكن ربما مَارس النيل سحره على "جيروم".
يقول الشاب البالغ 26 عامًا: "النيل رمز كبير وكنز.. وفكرة عواماته لم أجدها بهذا الشكل في أي مكان آخر.. فتخيل أن تعيش في قلب القاهرة، لكن أمامك مياه من كل جانب".
بقى مكانه، قرر ترميمها على نفس طرازها العشريني، وتجهيز طابقها الثاني لاستضافة أجانب أو لعمل جلسات تصوير.. فحسبما يقول "أراد جعلها تراثا مصريًا مميزًا يجذب السائحين".
نَشر صورها ومعلومات عنها بل وعن تاريخ عوامات القاهرة على موقع إلكتروني ليُسهل مسألة حَجزها. وأتى ذلك بنتيجة أسرع مما تصور. فتردد على عوامة "جيروم" ضيوف كثيرون عاشوا مع أسرته في الأربع غرف المكونة منهم العوامة.
وطوال العامين؛ أعطى "جيروم" كل وقته وطاقته لهذه العوامة.. كان يصنع تصميماتها، يجلب صورًا نادرة لجدرانها، يشتري أثاثها وديكوراتها القديمة من "سوق الجمعة"، حتى إنه تعلم النجارة ليُصلح بنفسه أخشابها إلى جانب العمال.
يراها مُكلفة أكثر من نفقات بيت عادي؛ فمكوناتها تتلف بسرعة، وخزاناتها (الفناطيس) الحديدية تتطلب صيانة كل فترة. كما أن تكلفة تراخيصها تزداد على والديه باستمرار، حتى وصل آخر مبلغ دفعاه لعدة جهات مُختصة إلى 25 ألف جنيه تقريبًا.
ذلك قبل أن تتوقف وزارة الري عن الترخيص لهم ولباقي العوامات بعد عام 2020.. يدرك "جيروم" هذا الأمر وكان ينتظر حلا له، لكنه لم يتخيل ابدًا أن يكون الحل هو إزالتهم.
وحين عَرف القرار لأول مرة قبل 10 أيام؛ لم يُصدق أنه صحيح: "نحن لسنا ضد التطوير.. سعدنا بمشروع ممشى أهل مصر للاهتمام بالنيل ومظهره.. لكن لماذا نزيل العوامات القديمة ضمن هذا التطوير؟".
إلا أن رئيس إدارة حماية نهر النيل بالقاهرة، كان له رأي أخر؛ فهو لا يراها مظهرا حضاريا أو تراثا أو تاريخية، بل إنه قارنها- خلال تصريحاته- بفكرة تطوير العشوائيات.
يقف والد "جيروم" بجواره ممسكاً بأوراق الطعن المُقدم لإيقاف تنفيذ القرار. ويقول الابن: "سنفعل كل شيء أمامنا حتى لا نغادر".
إنذار الإزالة الذي استلمه "جيروم" وأسرة مجدي الهجرسي وباقي ساكني العوامات يوم 20 يونيو الجاري، جاء بعد يومين من إزالة ثلاث عوامات لأنها "مملوكة لقيادات في جماعة الإخوان المسلمين"- وفقا لما ذكره رئيس إدارة حماية نهر النيل.
وقتها كانت ناهد محمد، زوجة "مجدي"، تجلس في شرفة عوامتها ثم تفاجأت بأخشاب تجري أمامها في النهر، ثم تبينت الأمر فيما بعد.
في البداية؛ ظنت أن الأمر لن يطولهم، لكن خاب ظنها ووصل لهم الإنذار ومعه غرامة قدرها 420 ألف جنيه لما يسمى "مقابل الانتفاع عن المدة السابقة (غير المرخص لها)"، وهي الغرامة التي تفاوتت من عوامة لأخرى.
تقلب ابنتها "منار" في أوارق كثيرة متناثرة كالصلاحية والترخيص، والتي تستند على أحكام قانون رقم ١٠ لسنة ١٩٥٦ بشأن الملاحة الداخلية ومعاينة مهندسين استشاريين لحالة العوامة.. تثبت بتلك الأوراق أحقيتهم في البقاء ودفعهم لكل ما هو مطلوب في الجهات المعنية والمتعددة: (وزارتي الري والزراعة، الملاحة، المسطحات المائية، الدفاع المدني، الحي، أملاك الجيزة).
يكلفهم الترخيص في كل مرة ما بين 15لـ20 ألف سنويًا قبل أن يتوقف من جانب وزارة الري بشكل مفاجئ. ينفي أيمن أنور، رئيس إدارة حماية نهر النيل بالقاهرة، في تصريحاته ما أجمع عليه سكان العوامات.
ويقول "إنهم غير مرخصين منذ سنوات طويلة، وأرسلت الوزارة لهم إنذارات مسجلة بالدفع ولم يستجب أحد حتى قررت في عام 2020 أن وضعهم غير قانوني بالمرة، ولم يأت أحد بعدها ليوفق أوضاعه".
رغم ذلك وصل إخطار بتاريخ ٢١ إبريل ٢٠٢١ لـ"منار"؛ يطالبهم بدفع رسوم قطعة الأرض الراسية بها عوامتهم والتقدم بالأوراق اللازمة خلال ١٥ يوماً فقط.. بالفعل؛ دفعت الأسرة المبالغ المطلوبة، حسبما تحكي "منار".
تجمدت الأمور بعدها، ولا جديد وصل إليهم من الوزارة بخصوص ترخيص العوامة؛ حتى أبلغتهم بهذا الإنذار الذي يعطيهم مهلة 10 أيام فقط قبل الإزالة.
بنبرة غاضبة، تقاطع الأم حديث ابنتها قائلة: "ما الذي يمكننا فعله في 10 أيام؟.. حُرمنا من حقنا القانوني لأن الطعن يأخذ على الأقل 14 يوماً.. فحتى إن جاء لصالحنا؛ فلن يفيد".
وعندما تُفكر في اقتراح رئيس إدارة حماية نهر النيل بالقاهرة بالتحرك بالعوامات نحو ورش والجهات المختصة في الملاحة لتغييرها لنشاط تجاري أو سياحي؛ فتجد أن الأمر غير منطقي بالمرة: "إن لم تتفكك الفناطيس وتغرق العوامة.. ستكون محصورة بين كوبري الجلاء وإمبابة وارتفاعها خمسة أمتار ونصف؛.. فكيف تمر من الكوبري؟.. هذا يعني هدم طابقها الثاني!".
أما "إخلاص" فلم تجد لأزمتها سبيلا. تتمسك بعوامتها حتى النهاية كما تمسكت طوال حياتها. فعلى الرغم أن المنطقة تزعجها؛ إلا أنها رفضت عروض بيعها التي وصل آخرها إلى 7 ملايين جنيه.
ملأت الهاشتجات ومنشورات التضامن مع هؤلاء منصات التواصل الاجتماعي.. وتقدمت النائبة البرلمانية، أميرة صابر، بطلب بيان عاجل موجه إلى وزيري الري والبيئة، حول هذه التحركات، وذكرت فيه أن "القرار يجرد القاهرة من أحد معالمها المهمة، ويشمل العوامات السكنية وليست السياحية المملوكة لرجال أعمال".
لكن لم يُحدث ذلك في الأمر شيئاً، وأعلنت وزارة الري، يومي 27 و28 يونيو الجاري، إزالة 15 عائمة.
استقرت العوامات الأولى المتهدمة والأخيرة التي تم سحبها بجوار كوبري إمبابة. يرى وزير الري أن تلك الصورة هي "رسالة واضحة لكل من تسوّل له نفسه القيام بأي شكل من أشكال التعدي على نهر النيل".
توالى مشرق الشمس ومغيبها على ضفة نيل الكيت كات، وغابت معها عوامة تلو الأخرى. بضع عوامات تبقت- حتى كتابة هذه السطور- تنتظر مصيرها على بُعد أيام قادمة، منها عوامات (مجدي الهجرسي وزوجته ناهد، جيروم جير، إخلاص حلمي).
وفقًا لرئيس إدارة حماية نهر النيل بالقاهرة؛ فكل ذلك يتم بدراسة كافية ومتابعة لجنة يرأسها وزير العدل بنفسه حتى تحقق العدالة مع السكان، الذين لن يحصلوا على تعويض، إنما عليهم مخالفات.
لا أحد من هؤلاء يملك خطة أو تصوراً عما سيفعله إن استيقظ على إزالة عوامته؟ وكيف ستصبح حياته بعدها؟
فناهد محمد، التي عاشت حياة روتينية كأي موظفة؛ اعتادت على الاستيقاظ على صورة النيل واستكشاف أنواع السمك، الطيور، والأشجار القديمة المتدلية بجانبها.. وربما الأمر أشد على ابنتهم "منار" التي حلمت قبل أربع سنوات بها على الضفة الأخرى. فتصف العوامة بـ"طفل ولد على يدها" لن تتخيل فقدانه.
فيما لم يعد أمام جيروم جير خيار آخر إن حدث ذلك سوى السفر: "لقد بذلت جهدًا وأردت رسم صورة جميلة لمصر وسياحتها.. لا أعتقد إن أزالوه سوف أستمر هنا".
أما إخلاص حلمي الذي حَل خوفها محل الونس التي اعتادته من النيل؛ فتنظر إلى النباتات الخضراء التي زرعتها جوافة، ليمون، لارنج.. تفكر في أنها ستموت إن رحلت، وهكذا قططها وكلبتها والوز الذي تربيه.
قد سقطت "إخلاص" وهي صغيرة في النيل وأنقذها والدها، لكنها اليوم تتمنى أن تنتهي حياتها فيه قبل أن يخرجوها منه.
4 يوليو 2022 – انقطع الأمل الذي تعلق به هؤلاء ولو بنسبة قليلة. تم سحب جميع العوامات المتبقية لمساحة قريبة من كوبري إمبابة لحين البت في مصيرها، عدا عوامة إخلاص حلمي.
انتقلت أسرة مجدي الهجرسي للسكن عند أقاربهم، ووضعوا أثاثهم في مخزن.. حاولوا أن يحولوا عوامتهم من سكني إلى تجاري كما أشار رئيس إدارة حماية نهر النيل مسبقًا، لكن بذهابهم إلى الجهة المعنية؛ وجدوا باب التقديم مغلقًا الآن.
انقطع التواصل مع جيروم جير وأسرته.
وزعت إخلاص حلمي زرعها على أشخاص ليرعوه، ومعه وزعت وصاياها على الصيادين لإلقاء الطعام للوز، ولمن جاءوا لتبني قططها وكلبتها للاهتمام بها. وفي يوم 6 يوليو، التقت "إخلاص" بوزير العدل وتلقت وعدًا بتوفير شقة بمنطقة الزمالك مُطلة على النيل بدلا من عوامتها.
قصة وتصوير: مارينا ميلاد
تصميم وتنفيذ: محمد عزت
إشراف: علاء الغطريفي