لا شيء سوى السكون في بيت "أمل" الواقع بمنطقة نائية وهادئة، والذي اختارته لتكون جوار المدرسة التي تعمل بها. ورغم أنها تحب ذلك الهدوء، لكنه يفسح الطريق أمام الكثير من التفكير والملل. أمسكت هاتفها لتقلب في موقع "فيسبوك" دون هدف، فظهر لها ما لا تتوقعه، و"كأن الله أرسل لها إشارة"، كما تصف.
وجدت "أمل" صفحة تأسست حديثا باسم "كفالة طفل مسيحي"، وهي المبادرة الأولى في هذا الاتجاه. اعتدلت في جلستها وحدقت في الهاتف أكثر، لتقضي ساعات تبحث في فكرة الكفالة وشروطها. ومع كل معلومة تصل إليها، تترسخ الفكرة أكثر في ذهنها.
أدركت أنه لا سبيل أمامها سوى الكفالة. فعلى الرغم من أنها مسيحية ويحق لها التبني وفقا لشريعتها، لكن قوانين الدولة لا تسمح لها. فقررت أن تستغل المتاح بين أيديها، شعرت أنه "الأمل الأخير" لسيدة مثلها بلغت التاسعة والثلاثين ولم تنجح كل محاولاتها للإنجاب خلال 15 عامًا من الزواج.
رفعت "أمل" عينيها بعيدًا عن الهاتف قليلا، لتسرح في رحلة شاقة نفسيا وجسمانيا خاضتها لأكثر من عشر سنوات. بدأتها بكشوفات الأطباء، ثم عمليات متتالية، آخرها الحقن المجهري. إجراءات أرهقتها وأوقعتها في إحباط لا ينتهي كونها لم تأت بنتيجة. تتذكرها فتقول: "قبل زواجي كنت مع فكرة تأجيل الإنجاب. لكن الآن أتمنى طفلا أعيش لأجله".
ثم جاء يوم وقررت أنها لن تسير في هذا الطريق الطبي مجددًا. لذا نظرت لهذه المبادرة على أنها "فرصتها الكبيرة والأخيرة".
تلك المبادرة أطلقتها مارلين ناجح، التي عملت في إحدى المؤسسات المجتمعية، وكان جزء من نشاطها هو مجال الكفالة. تقول "مارلين" التي تركت وظيفتها وتفرغت لمبادرتها: "شعرت بتغيير حياة الأطفال بعد كفالتهم فحتى لو كانت الدار تقدم لهم كل شيء، لكن ينقصهم أن يكونوا طبيعيين ولديهم أسرة".
وبما أنها كانت المسيحية الوحيدة في هذا المجال، فتوالت عليها الأسئلة عن نظام الكفالة بالنسبة للمسيحيين. استولى الموضوع على تفكيرها واهتمامها وسعت للبحث عن إجابة، حتى أنها سألت بالكنيسة. لكنها، كما تذكر، لم تجد سوى أشخاص لا يعلمون عن الكفالة شيء ويعتقدون أنها للمسلمين فقط، وآخرون يخلطون بين الكفالة والتبني.
لاحقًا، عرفت "مارلين" أن قانون الكفالة يطبق على المسيحيين والمسلمين على حد سواء، بشرط أن يكون الطفل على نفس ديانة الأسرة.
معرفتها للإجابة لم تجعل فضولها يهدأ إنما فتحت باب تساؤلات أخرى، ربما هي الأعقد: "طالما هناك قانون واحد وهناك أسر بحاجة إلى أطفال، وأطفال بحاجة إلى أسر، فلماذا لا ينفذ ذلك؟".
اهتمام "مارلين" بتلك المسألة، جعل إحدى السيدات، وهي مسلمة كافلة لطفل، تُشجعها علي تأسيس صفحة للنساء المسيحيات الراغبات في الكفالة لمساعدتهن أمثال "أمل"، التي سارت الرحلة مع "مارلين". ومن ثم، عرفتها بالشروط المفترض توافرها في الأسرة الراغبة في الكفالة، وفقًا لوزارة التضامن الاجتماعي، التي بدأت نظام الكفالة عام 1959.
اقتربت "أمل" مما تريده أكثر، حيث انطبقت الشروط عليها وزوجها (44 سنة)، وقتها، فاتحته في الأمر، ليصدمها بعدم ترحيبه. رغم أن عائلتها لم تبدِ اعتراضًا.
مر وقت، وفي يوم ما، انقطع خيط الممانعة الأخير وأخبرها بموافقته. فسرت "أمل" تلك اللحظة التي تغير فيها موقفه، بأنه ربما شعر بالفراغ بعد أن جاء أبناء إخواتها ليقيموا معهم لأيام ثم غادروا. فتقول: "عندما مشوا صار البيت كئيبًا".
شقت بعدها طريق الإجراءات المطلوبة، ولم تستمع لنصيحة "مارلين" بإيجاد طفل أولاـ إذ كانت على يقين بأن الأوراق هي الجزء الأصعب، والوصول لطفل أسهل شيء، خاصة وأنها متطوعة في إحدى الدور المسيحية لرعاية الأطفال، حيث تعلمهم الإنجليزية.
عن تلك الأيام، تقول: "كنت متحمسة جدًا وأخشى فقط تعقيد الاجراءات. لكن سأخوض المعركة".
لأشهر طويلة، غرقت "أمل" في تحضير المطلوب منها، كالأوراق الأساسية لها وزوجها، الزيارة المنزلية للتأكد من أن مسكنها مناسب، الاستعلام الأمني، واجتياز الدورة التدريبية التي تقول أنها ركزت على إخبارها بـ"عدم تغيير اسم الطفل". وربما كان الإجراء الأثقل عليها هو اختبار الصحة النفسية في مستشفى العباسية.
بات روتين يومها العادي مقسم بين عملها وتلك الإجراءات والدار الذي تطوعت به. كثفت زياراتها له. وفي بعض الأحيان، كان يرافقها زوجها ليعلم الأطفال البيانو. وكلما مر الوقت؛ كلما تعلق الاثنان بفتيات الدار البالغ عددهن 20 تقريبًا. لكن "أمل" ارتبطت بإحداهن أكثر من غيرها، حتى إن ذلك كان جليًا في عينيها.
تلوح الصغيرات لـ"أمل" فور مجيئها. يلتففن حولها لتبدأ درسها. لكنهن يجذبنها بأحاديثهن العشوائية، فيتجاوز الوقت الساعة التي جاءتها لتشرح الدرس. تستمتع "أمل" بتلك "السرسبة الممتعة" التي تعيشها معهن. فمنذ تفكيرها في مسألة الكفالة، لم يعد الأمر بالنسبة لها مجرد درس وخدمة، لقد تطور لما هو أكبر، حيث بدأت تنظر إليهن بعين أخرى.. تسأل عن الظروف التي أتت بهن إلى هنا، وتدور الأفكار برأسها: "من يمكن أن تكفلها منهن؟ وكيف ستتعامل مع طفلة ليست ابنتها؟".
فتقول: "كان لدي تخوف ألا أحب الطفل الذي سأكفله مثل ابني، لكن هؤلاء يجعلوني أتاكد أن ذلك مجرد وهم".
وفي يوم خلال هذه الفترة، استيقظت "أمل" على خبر سعيد: "كفالة أول طفل مسيحي في مصر". إذ نجحت سيدة تدعى "ماري" وزوجها في فعل ذلك، واعتبرته "مارلين" أنه "أول إنجازات مبادرتها".
بشكل أو بآخر، اكتسبت مبادرة "مارلين" وفريقها مزيدا من الثقة بهذا الخبر. فركزوا جهودهم على حضور اجتماعات الكنائس لنشر الموضوع والحديث مع الكهنة. لأن، كما ترى "مارلين"، "الناس تنظر إلى الكهنة على أنهم صوت الله على الأرض. لذا لا بد من توعيتهم بأن الأسرة إن لم تستطع رعاية الطفل، فيمكنه الذهاب لعائلة أخرى، ولا يكون اختيار الدار هو الأول".
لاقت "مارلين" ردود أفعال منقسمة لكن أغلبها كان معارضًا بل ومهاجمًا أيضًا، خاصة مسؤولي دور الرعاية. لكن كان الرد الأكثر غرابة بالنسبة لها من متطوعة بإحدى الكنائس لخدمة هذه الدور، حين قالت باجتماع: "إن رغبت أسرة في مساعدة طفل، تخصص له مبلغ وتعطيه للراهبة المسؤولة عن الدار لتنفقه عليه". لا زالت تتعجب "مارلين" من الحديث حتى وهي تتذكره: "لا أعرف كيف لواحدة مثلها وهي أم أيضًا أن تفكر بهذه الطريقة!".
هنا، أدركت "مارلين" العقبة الأكبر أمامها وأن جبل الجليد لن يذوب بسهولة.
ولم يمر سوى بضعة أشهر على انتقال أول طفل مسيحي من دار أيتام إلى بيت أسرة، حتى حدث العكس على نحو صادم.
في صباح أحد الأيام، توقفت "أمل" عما تفعله، واستدارت ناحية التلفزيون، حيث انتزع اهتمامها صياح السيدة آمال إبراهيم التي أخذوا ابنها إلى دار أيتام. تنبهت لتسمع قصتها التي تسردها: "وجدت طفلا صغيرًا متروكًا وحده بالكنيسة، فأخذته وسميته شنودة وربيته لأربع سنوات، معتبراه هدية من الله". لكن انكشف أمرها بعدما أبلغت إحدى قريباتها عنها وزوجها، لأنهما نسبا لهما طفلا مجهول النسب، ووفقًا للقانون في مصر "يعتبر الطفل في هذه الحالة مسلمًا بالفطرة".
شعرت "أمل" أن هذه السيدة "تعرضت لظلم شديد حتى لو كانت أخطأت وكذبت". تعاطفت معها، ربما لأن ما حدث ذكرها بموقف مشابه، حين رفض زوجها أن يحصلا على طفل بأي طريقة غير سليمة، ذلك قبل أن تمضي في طريق الكفالة. فتقول: "أحيانًا يكون الطريق مسدودًا أمام ناس، ولا تعرف أين الحل؟!".
قطع رنين الهاتف تفكيرها ومشاهدتها، لينقل إليها خبرًا بدل إحساسها تمامًا، خبرًا انتظرته شهورًا: اللجنة المحلية المشكلة بمديرية الشؤون الاجتماعية وافقت على طلبها بالكفالة. طارت "أمل" فرحًا، واستلمت في الشهر التالي للمكالمة "جواب المشاهدة" الذي حدد لها "دور الرعاية المسيحية" كمساحة للبحث عن الطفل الذي تريده.
دون الحاجة لتفكير طويل، فالدار المتطوعة به "أمل" هو المكان المثالي بالنسبة لها، لتطلب منه كفالة طفلة. وقع اختيارها على تلك الطفلة ذات الخمس سنوات التي تلمس شيئا داخلها لا تدركه. ربما السبب هو الشبه بينهما، الذي حدثتها عنه إحدى الراهبات بالدار في اليوم الأول لمجيئها. إذ لازالت تتذكر جملتها جيدًا: "هذه البنت تشبهك كأنها ابنتك"، في حين لم تكن تعلم أن "أمل" لا تنجب.
وقتها، انزوت "أمل" بعيدًا لتنهار في البكاء.
لدى "أمل" رغبة عميقة أن تكون هذه الطفلة ابنتها فعلا، خاصة وأن ظروفها تسمح، فلا أحد من أسرتها يسأل عنها. كما أنها تعاني حالة نفسية سيئة ومشكلات في النطق. أرادت "أمل" أن تنتزعها من كل ذلك.
استعدت بحماس أكبر للمرحلة التالية في رحلتها. التقت بمسؤولة الدار وقدمت لها "جواب المشاهدة"، وكلها أمل أن تساعدها. لكن كل ما حسبته وتوقعته وجدته خاطئًا واصطدمت بواقعِ آخر.