600 عام من الأوبئة
في "كافا" أحد موانئ منطقة "القِرم" بالبحر الأسود، اعتلت الفئران والبراغيث المُصابة بـ"الطاعون" متن بعض السفن التجارية، حركة التجارة الدولية ونقل البضائع تشهد رواجاً في العالم في ذلك الوقت من صيف عام 1347م، ترسو السفن في موانئ عدة في أوروبا، وبعضها توجّه إلى مصبّات نهر النيل في مصر، تسلّلت منها الفئران والبراغيث الموبوءة بـ"الطاعون"، المعروف بـ"الموت الأسود"، ليجتاح الوباء العالم في بضعة أشهر، وتُضرَب مصر بأولى هجمات "الطاعون" في أكتوبر من ذلك العام البعيد، لتبدأ سيرتها الطويلة مع الأوبئة، التي حصدت أرواح الملايين.
كانت القاهرة مدينة موتى، شوارعها مقفرّة خالية إلا من مواكب الجنازات، تملأ جثث الموتى الطريق من باب زويلة إلى باب النصر، حتى قيل -بحسب المقريزي- إنها بلغت 20 ألفاً في اليوم الواحد، صار النعش الواحد يحمل جثتين أو ثلاثة، تُحمل النعوش على الأقفاص وألواح الخشب؛ لتستقرّ في حفرة يُدفن فيها 40 جثةً أو أكثر، "كان يخرج من القاهرة كل يوم ما يزيد على 20 ألف جنازة، وبلغ عدد من ماتوا بين شهري شعبان ورمضان نحو 900 ألف، ولم يُزرع من الأراضي الزراعية في هذه السنة إلا القليل بسبب موت الفلاحين، فوقع الغلاء وكادت مصر تخرب في هذه السنة"، على ما يقول مؤرخ مصر ابن إياس، عن وباء عام 1347م، الذي استمر عامين وقضى على ثلث السكان. وحين تفشّى وباء عام 1459م، كان شديداً، فقضى على أرواح ثلث المماليك والأطفال والجواري والعبيد والغرباء.
اجتاحت مصر موجات متكررة من وباء الطاعون أيام دولة المماليك والعثمانيين حصدت مئات الآلاف من الأرواح
كل ذلك كان يجري، دون وجود نظام صحي يقي الأفراد شرّ الأوبئة، ويقلّل الخسائر في الأرواح، أهمل المماليك اتخاذ إجراءات صحية لمقاومة الأوبئة؛ كان يهرب بعضهم من القاهرة إلى القرى الخالية من "الطاعون" شمال المدينة، واختار آخرون أن يتحصنوا بالبقاء في القلعة للدفاع عن مصالحهم ضد المماليك المنافسين، مثلما جرى في وباء عامي 1347 و1348م، بحسب ما يذكر المؤرخ والأكاديمي الأمريكي "شيلدون واتس" في كتابه "الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة والإمبريالية"، قبل أن يأتي حاكم جديد طموح للبلاد.
كان ذلك الحاكم هو محمد علي باشا (حاكم مصر في الفترة من 1805 إلى 1849م)، ورثَ الرجل 450 عاماً من التعرّض الدوري لـ"الطاعون". دون اتخاذ إجراءات وقائية من قبَل أسلافه من المماليك والعثمانيين، كانوا يكتفون بعزل الشخص المصاب في منزله فقط، على أن يتم تعريض ملابسه للشمس فوق أسطح البيوت، فضلاً عن عدم مخالطة الأصحاء من حاشية الملك للمريض تجنّباً للعدوى، فيما كانت التدابير الصحية، ومن بينها إنشاء المحاجر والمعازل الصحية، إجراءات محدودة، عرفتها مصر وقت الحملة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر، لكنّها لم تأتِ في إطار نظام صحي شامل، داخل المدن وفي الموانئ، مثلما حدث في عصر محمد علي الذي توسّع في إنشاء "الكرنتينات" والمحاجر الصحية بحسب الدكتور خالد فهمي، أستاذ التاريخ الذي تتركز أبحاثه على تاريخ القانون والطب والجيش والشرطة في مصر طوال القرن التاسع عشر.
"الحجر الصحّي" هو إجراء وقائي مؤقت لتقييد حركة الأشخاص المشتبه في إصابتهم بمرضٍ مُعدٍ، مثل كورونا (كوفيد-19)، أو العائدين من مناطق موبوءة، قد يكون الحجر في منزل أو فندق مخصّص، أو مستشفى أو منشأة، يُعزل فيه الأشخاص، وتختلف مدته حسب كل وباء.
رسّخ محمد علي مفهوم الحجر الصحي وقت اجتياح الأوبئة البلاد
أدرك "الباشا" خطورة ما أهمله أسلافه، وهو الحاكم الطموح الذي كان يشرع في تأسيس دولةٍ حديثة، وجيشٍ حديث، لن يتمكّن من تأدية مهامه، لو تسلّل إلى معسكراته الوباء. أَوْلَى اهتماماً كبيراً بتوفير رعاية صحيّة حديثة لأفراد المجتمع، أنشأ نظاماً قروياً للرعاية الصحية، استقدم أطباء أوروبيين على رأسهم الدكتور الفرنسي الشهير كلوت بك، الذي أسس مستشفى قصر العيني. فطِن محمد علي إلى الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية المهمّة، المترتبة على الأوضاع الصحية في مصر، فإلى جانب آلاف الأرواح التي تحصدها الأوبئة، كانت تشلّ حركة القوافل التجارية، وما تحمله من موارد للبلاد. فاتّخذ زمام المبادرة وأعلن المواجهة.
بداية "الكرنتينا" في مصر
حين وصلت إلى مصر أنباء ظهور "الطاعون" في إسطنبول بتركيا عام 1812م، اتخذ محمد علي باشا تدابير وإجراءات صارمة، فرض حجراً صحياً بحرياً على السفن التركية، فلم يدخل "الطاعون" مصر، كذلك أنشأ مستشفى للأمراض المعدية ومخزن دمياط، وأمر بعمل "كرنتينات" بثغر رشيد والبرلس، وميناء دمياط، للتعامل مع مشكلة الأفراد والبضائع القادمة من موانئ الشرق الموبوءة بـ"الطاعون"، لكن ذلك لم يمنع أن يضرب الوباء مصر مرتين في عشرينيات القرن التاسع عشر في عامي 1822 و1824م.
"الكرنتينا": كلمة مأخوذة من الإيطالية، وتعني الحجر الصحي لمدة 40 يوماً، وهي نظام قديم ظهر منذ القرون الوسطى في أوروبا. عرفته مصر مع قدوم الحملة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، لكن بشكل محدود، لم يتم التوسّع فيه إلا في عصر محمد علي باشا.
في بداية عام 1831م، قبل وصول وباء "الكوليرا"، في هجمته الأولى على مصر، اتخذ الباشا خطوة استباقية حين دعا قناصل الدول الأوروبية المقيمين بالإسكندرية، لإنشاء نظام "الكرنتينا" أو الحجر الصحي، النظام المعمول به في أوروبا، كإجراء وقائي لمكافحة الأوبئة.
يأتي شهر أغسطس من ذلك العام، فيظهر وباء "الكوليرا" في البلاد، محمولاً مع الحجّاج العائدين من مكة المكرمة التي تفشّى فيها، فيصدر محمد علي أمراً إلى ديوان الخديوي باتخاذ ما يلزم لمكافحة الوباء، وخاصة بين تلاميذ المدارس العسكرية، كلّف مجموعة من الأطباء بتشكيل إدارة صحية عرفت بـ"الأنتدانس سانيتر"، كانت أشبه بالحجر الصحي، عيّنت الدول الأوروبية المختلفة مندوبين لها، وفي أكتوبر اجتمع قناصل أوروبا وقرروا إنشاء مجلس صحي من أنفسهم يهيمن على الأمور الصحية البحرية، فضلاً عن انتخاب لجنة قنصلية من بينهم تشرف على إنشاء محاجر "كرنتينات" لعزل المرضى والمشتبه فيهم، وأُنشئ محجر الإسكندرية في 26 أبريل 1832م، بجانب الميناء الشرقي الذي كانت ترسو به سفن الجاليات الأوروبية والأجنبية، ومكاتب للصحة في دمياط ورشيد والعريش، ومحاجر صحية في الموانئ التي يمرّ عبرها الحجّاج، ومنها "كرنتينا القُصير" في محافظة البحر الأحمر، التي كانت تشهد وفود الحجاج، الذين تسبّبوا في نصف عدد أوبئة "الكوليرا" التي ضربت مصر في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
أنشأ محمد علي أول مجلس للحجر الصحي في الإسكندرية وكرنتينات ومحاجر ومعازل صحية في موانئ مختلفة لعزل المرضى والمشتبه بهم من الوافدين إلى البلاد
بمرور الوقت كانت تزداد حدّة الوباء، الذي قضى على نصف عدد الحجاج في هذا الموسم، ومات بسببه 150 ألف نسمة منهم 36 ألفاً في القاهرة وحدها، بحسب ما تقول لـ"مصراوي" الباحثة نسمة سعد، مؤلفة كتاب "الأوبئة والأمراض في المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين".
لم تمنع إجراءات المكافحة والحجر الصحي، في أول اختبار لها، خسائر الأرواح حين أتى وباء "الكوليرا"، لأول مرة، في العام الأول من ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وبعد 3 أعوام كانت أمام اختبارٍ جديد.
الطاعون سيّد المدينة
كان ذلك في العام 1834م، عندما اخترق "الطاعون" احتياطات الحجر الصحي التي اتُّخذَت في مدينة الإسكندرية. ضرب محمد علي كردوناً حول المدينة، توسّع في إجراءات العزل عامة، بطول البلاد وعرضها، تحرّك عبر مسارين، الأول تطبيق إجراءات شديدة الصرامة في الموانئ على السفن الوافدة مهما كانت تبعيتها الأجنبية، عزلت السفن ومستودع الأسلحة. والثاني داخل البلاد، عبر تقديم خدمات صحية واتخاذ إجراءات وقائية؛ فأُغلقت الحمامات العمومية، تم إجلاء العديد من الأفواج العسكرية المتمركزة في المدن أو القرى إلى الصحراء، تم تعليق التجنيد في الجيش، وتحوّل المستشفى العسكري في الأزبكية في وسط القاهرة، إلى مستشفى للعزل، لعلاج مرضى "الطاعون" فقط.
مصابون بالكوليرا بميدان بيت القاضي بالجمالية - القاهرة فى القرن19
داخل القرى كانت الإجراءات أكثر صرامة، عزلت الشرطة ومعها الجيش مرضى "الطاعون" في مستشفيات الأمراض المعدية وحرق متعلّقاتهم الشخصية، وحين كان يظهر الوباء في أي قرية مشتبه فيها كان الفصل يتم بين الضحايا الأحياء وأفراد الأسرة عن الفلاحين الأصحاء، فيوضعون في العزل، يُفرَض كردودناً صحياً على القرية، يحرسه جنود أعطوا أوامر بإطلاق النار والقتل، على أرباب الأسر الذين يخفون موت أحد أفرادها بـ"الطاعون"، هرباً من الرقابة الصحية، توسّع في الكشف الدوري على البيوت، وحين كان يُشتبه في وفاة أحد الأفراد بـ"الطاعون" أو "الكوليرا"، كان يُغلق البيت ويُفرض على أفراده حجراً صحيّا، لا دخول ولا خروج، مع استمرار عمليات التبخير والتطهير.
ردود الفعل الشعبية على إجراءات "الباشا" في مكافحة الأوبئة، غلّفها سخط واحتجاج؛ العامة ورجال الدين اعتبروها متجاوزة للحدود، استهجنوا طريقة إرسال الضحايا وأسرهم إلى الحجر الصحي، دفعهم الخوف إلى التكتّم على ضحاياهم حتى لا يُجبَرون على ترك منازلهم، على ما تذكر الباحثة نسمة سعد في كتابها.
ولمّا كان عصيّاً تطبيق كل تلك الإجراءات، استعان الباشا بمشايخ الحارات في تطبيق نظامه الصحي والإبلاغ عن المتوفين، لاتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تفشّي الوباء، وفي مكان بعيد معزول في الإسكندرية، أطلق عليه "لازاريتو Lazarette"، كان يودع المصابون والمشتبه في إصابتهم لمدة 40 يوماً، يعودون بعد شفائهم أو تصعد أرواحهم إلى بارئها. والمكان الذي يحمل اسماً مشتقّاً من الإيطالية، نرى ملامحه الآن في حي "الأزاريطة" العريق وسط الإسكندرية.
قضى محمد علي باشا على وباء الطاعون في مصر بعد تطبيق نظام صحي مشدد بمساعدة الدكتور كلوت بك
مع ذلك لم يكن لدى محمد علي ما يفعله سوى الانتظار حتى يأخذ الوباء دورته، في إحدى أشدّ موجاته. انخفضت حدّة الوباء في أكتوبر 1837 بعدما توفّى ما يقرب من 75 ألف في القاهرة، و125 ألف مصري آخرين، وكان مجموع الوفيات مساوياً لحجم الجيش كله، الذي كان يبلغ حوالي 7% من سكان مصر، على ما يذكر "شيلدون واتس" في كتابه، الذي أرّخ للأوبئة والأمراض التي ضربت العالم خلال القرون الستة الأخيرة.
في الفترة من عام 1831 إلى 1836م، عصفت الأوبئة بمصر عصفاً، بلد تعداد سكانه يقترب من 4 ملايين نسمة، فَقَد ما يقرب من نصف مليون نسمة من سكانه؛ يضربها "الكوليرا" الذي اجتاح كل أوروبا، فتفقد 150 ألفاً من أبنائها، في أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر؛ في اليوم الواحد كان تصعد أرواح 600 شخص، وعلى مدار 6 أشهر فقدت القاهرة سدس تعداد سكانها، فيما خلّفت موجة "الطاعون" العنيفة التي بدأت عام 1834، واستمرت لعامين ونصف، خسائر في الأرواح جاوزت 200 ألف نسمة. خسائر كبيرة، احتاج الأمر لأكثر من 15 عاماً لتعويض المعدلات السابقة من السكان.
يُورد "شيلدون واتس" على لسان "إليكسندر كينجلاك"، السياسي البريطاني الذي عاش في القاهرة أثناء الوباء، ما فعله بها "الطاعون"، والمشاهد التي عاشها المصريون وقتها، والمفارقة التي لاحظها، بين العيش تحت قبضة "الطاعون" وأهواله، وبين مشاهد التمسّك بالحياة واحتفالات الأعياد، التي لم يقوَ الوباء القاتل على منعها، يكتب: "كان الطاعون سيّد المدينة طوال فترة إقامتي، وظهر الخوف في كل شارع وكل حارة، لكنّ الشرقيين يمتلكون حظاً وافراً أكثر من أوروبا تحت بلوى من هذا النوع. ففي مدن الموت نُصِبَت الخيام، وعُلِّقت المراجيح لتسلية الأطفال، عيد كئيب، لكن المسلمين تباهوا باتباعهم عاداتهم القديمة، غير عابئين بظلّ الموت".
رسّخ محمد علي، الذي ضربت مصر في عهده 6 موجات من وبائي "الطاعون" و"الكوليرا"، مفهوم الحجر الصحي وإنشاء "الكرنتينات" وقت اجتياح الأوبئة البلاد، وأحدث تحولاً نوعياً فيما يتعلق بمكافحة الأوبئة، عبر ممارسات طبية حديثة، وإجراءات صارمة ارتكزت على تأسيس نظام صحي شامل، فهو الذي أنشأ المجلس الصحي العام في مصر عام 1831م – الذي تحوّل عام 1880م إلى مؤسستين: "مجلس الصحة العمومية" المختص بشؤون مصر الصحية، و"مجلس الكرنتينا المصري"، المختص بإجراءات الحجر الصحي البحري لمواجهة الأوبئة ومقره الإسكندرية- وهو الذي أنشأ مدرسة الطب والمدارس المُلحقة بها من تمريض وصيدلة، وهو الذي وضعت في عهده نظارة الصحة اللوائح اللازمة؛ لتحسين الصحة العامة، وهو الذي استقدم أطباء أجانب كنواة للخدمات الطبية للجيش المصري؛ ليكون سبّاقاً في ترسيخ مفهوم التعاون الصحي الدولي. فيما بذل الدكتور كلوت بك جهوداً كبيرة في مكافحة الأوبئة، استحق معها منحه لقب "البكوية" من قِبَل محمد علي.
بعد 10 أعوام، بدا أن تدابير الباشا، التي مضى فيها بالرغم من سُخط أفراد الشعب ورجال الدين، قد نجحت، بعدما انقطع الوباء وأصبحت مصر خالية من "الطاعون" لثلاثة أجيال تالية، علماً بأن نوبته المحلية الأخيرة كانت عام 1844م. يقول "شيلدون واتس": "الزوار الذين يقفون أمام قبر محمد علي باشا في مسجده بالقلعة ربما كانت تُحيِّرهم تنهيدة تصدر عن القبر صاعدة تقول: لكنني أخيراً فزت بالنصر على الطاعون".
وصول الباخرة "سيدني"
في أواخر شهر مارس عام 1865م، ظهر وباء "الكوليرا" في الحجاز وخلّف بين 15 ألفاً و30 ألف حالة وفاة. بدأت وفود الحجّاج المصريين بالعودة إلى البلاد، تحرّكت الباخرة "سيدني" في أحد أيام شهر مايو، لتعبر البحر الأحمر في رحلة العودة، ظهر على متنها مصابون بـ"الكوليرا"، نهش الوباء أجسادهم، فألقى ربان السفينة بجثثهم في البحر.
في التاسع عشر من مايو وصلت الباخرة، التي كان على متنها نحو 15 ألف حاجّ، إلى ميناء السويس، أظهر قائدها وثيقة مزوّرة تؤكد خلوّها من الأمراض، لم تُفرض إجراءات الحجر الصحي عليها، فانتشر الوباء في السويس بعد يومين، ومن بين من أصيب كان قبطان الباخرة الموبوءة نفسه وزوجته، في الوقت الذي نزل الحجاج إلى أرض البلاد، واستقلوا القطارات إلى الإسكندرية، اختلطوا بالحمالين في المحطة، فنقل الأخيرون العدوى إلى ذويهم في منطقة "كوم الشقافة"، لينتشر الوباء في سائر البلاد في غضون شهر من وصول "سيدني".
مع انتشار أخبار الوباء، تلبّس الهلع الجميع؛ 35 ألف شخصٍ تركوا منازلهم وهاجروا خلال شهر واحد، فيما بلغ عدد الوفيات 60 ألفاً، في أقل من ثلاثة أشهر، منهم 6 آلاف في القاهرة، اختل توازن السكان في مديريات عدة، منها الإسكندرية ودمياط، قبل أن يختفي الوباء في نهاية شهر سبتمبر.
سكان القاهرة يتكدسون في قوارب النيل هرباً من وباء الكوليرا عام 1883م
بعد تفشّي الوباء، ثمّة إجراءات اتخذتها الإدارة المصرية؛ فأصدر الخديوي إسماعيل أوامره لاتخاذ ما يلزم من إجراءات لمكافحة "الكوليرا"، فأصدر الدكتور كولوتشي رئيس الإدارة الصحية، من جانبه، أوامر لتنظيف المدن ورش الشوارع بغزارة، وتشديد الرقابة الصحية على السفن القادمة إلى الموانئ، وفرض حجر على مراكب البريد، وعدم السماح بمرور أي مراكب شراعية أو بخارية إلا بعد قضاء مدة الحجر المفروضة، مع تطهير البضائع التي تدخل البلاد.
فيما شهد محجر الطور، في سيناء، الذي أنشئ في عهد سعيد باشا عام 1855م، على هيئة خيام وأرصفة لنزول الحجّاج ومباخر لتطهيرهم، فَرض الحجر الصحي على البواخر الناقلة للحجاج بدءاً من عام 1866م، بناءً على قرار صدر من المؤتمر الصحي في الآستانة، بعدما كان قاصراً على حجر القادمين براً فقط، ليصير بعد ذلك، أحد أهم دروع الوقاية للقطر المصري من وباء "الكوليرا" المتفشّي بين الحجاج.
إجراءات متأخّرة، ظهرت آثارها، لاحقاً، بعد خسارة الأرواح، فمنعت دخول وباء "الكوليرا" مصر لمدة 20 عاماً، قبل أن يعود مرات أخرى في عهد الخديوي توفيق، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ومن خلفوه من أبناء الأسرة العلوية.
حرق الكبريت والقطران لتطهير وتعقيم الشوراع بعد وباء الكوليرا 1883 – الصورة من أرشيف مجلة لايف الأمريكية
"الحياة في قرية الموت"
منذ عام 1831م، أصاب وباء "الكوليرا" مصر 9 مرات، سنوات طويلة نهش فيها الوباء أجساد آلاف المواطنين، كان آخرها فصل مُظلم تشكّلت أولى ملامحه في قرية القرين بمحافظة الشرقية، في يوم 22 من شهر سبتمبر من عام 1947، بعد غياب 45 عاماً، فما الذي عاد بالوباء مُجدداً إلى القطر المصري في عصر الملك فاروق؟
صفقة لتبادل المهاجرين بين الهند وباكستان، يعقبها ظهور "الكوليرا" في مقاطعة البنجاب الهندية في جنوب آسيا في أغسطس عام 1947، تَفِد وحدات لجيش الاحتلال البريطاني من الهند إلى مصر، براً وجواً، دون أن تُفرض إجراءات الحجر الصحي والتدابير اللازمة فتطال عدوى الوباء مصر، علماً بأن مصر قد وافقت في 7 يونيو 1934 على المعاهدة الدولية للملاحة الجوية التي تتضمن نصوصاً وإجراءات للحجر الصحي تحول دون انتشار "الكوليرا" بواسطة الطائرات، لو طُبّقَت. لكنّ الحكومة المصرية لم تفرض رقابتها الصحية على القوات البريطانية، التي تكررت مخالفاتها للمعاهدة، وإهمالها، وخفّفت من رقابة الحجر الصحي فساهمت في تفشي وباء "الكوليرا" في أربعينيات القرن الفائت، وقبله وباء الملاريا، الذي حملته بعوضة "الجامبيا"، عام 1942، إلى صعيد مصر، وقت ذروة الحرب العالمية الثانية، على متن طائرة قادمة من جنوب وغرب أفريقيا، دون أن يجرى عليها حجرٌ صحيٌّ، ليقتل الوباء، ما بين 100 و200 ألف مواطن، من بين حوالي 750 ألف مصاب، طوال 3 سنوات، في وقت كان عدد سكان مصر أقل من 17 مليون نسمة.
يتخذ الإنجليز احتياطاتهم للوقاية، فتصدر السفارة البريطانية أوامر إلى المدنيين من الإنجليز بأن يحضروا إلى القاهرة في 6 سبتمبر من عام 1947؛ للتطعيم ضد "الكوليرا"، وبعد أيام، تحديداً في 11 سبتمبر، تصدر السلطات البريطانية، منشورات لمعسكراتها ومطاراتها بزيادة نسبة الكلور في المياه، وهو إجراء لا تتخذه السلطات الصحية إلا عند وجود وباء "الكوليرا".
زحف وباء الكوليرا من معسكرات الجيش البريطاني في التلّ الكبير إلى قرى ومدن مصر حاصداً آلاف الأرواح
يحدث كل هذا دون أن يُبلغ الإنجليز السلطات المصرية، تتناثر روايات حول وفاة أحد ضباط سلاح المهندسين واثنين من عمّال الورش بمعسكر الجيش البريطاني في "التَّلّ الكبير"، بعد إصابتهم بـ"الكوليرا"، يُخالط العمال والفلاحون المصريون الجنود الإنجليز، خلال عملهم بالمعسكر، فيعودون إلى قراهم حاملين قوت يومهم.. و"الكوليرا"!
في البداية، كانت الأجواء مغلّفة بالغموض والحيرة، في قرية القرين -بمحافظة الشرقية- الواقعة على تخوم المعسكر؛ مرضٌ غريب انتشر بين الأهالي، خلّف عدداً كبيراً من الوفيات، الأعراض واحدة: قيء وإسهال. اعتقد الدكتور سامي لبيب مدير مستشفى القرين أن السبب حدوث تسمّم جماعي بين الأهالي، لكنّ عدّاد الإصابات والوفيات كان يواصل منحنى الصعود، أُرسِلت عيّنات للتحاليل في القاهرة، أتى الرد: السبب وباء "الكوليرا"! فأصاب الهلع الجميع.
ضربت الكوليرا مصر نهاية أربعينيات القرن الماضي بعد غياب 45 عاماً
فُرض الحجر الصحي على القرية -التي كانت تعجّ بـ6 آلاف عامل وافد للعمل في معسكرات الجيش البريطاني- لكن دون تشديد أو رقابة، كان التساهل سيد الموقف، وفق ما تقول الباحثة نسمة سعد، لم يُفرَض حصار كامل على القرية وعلى مديريات الشرقية، تجنباً لنقل العدوى وتفشّي الوباء. يقوم صغار تجار التمور في الشرقية بالهروب من الحجر الصحي عن طريق الصحراء إلى محافظة الدقهلية وهم مرضى أو حاملون للمرض، وعندما حاولوا العودة للشرقية بعد بيع المحصول دون جدوى، استقلوا القطارات إلى مديريات أخرى ونشروا الوباء أينما رحلوا، كذلك كان عدد من سكان القاهرة، يتوجهون لتقديم التعازي في الموتى، فيُصابون.
بشيء أقرب إلى المناجاة والعتاب، خرجت الكلمات من فم "صالح" وهو يتحدث إلى "صدّيقة" التي جاءت من المدينة كي تقدم واجب العزاء في وفاة أقاربها في الريف.
(من رواية "اليوم السادس" للكاتبة والشاعرة الفرنسية المولودة في القاهرة "أندريه شديد"، صدرت بالفرنسية عام 1960، ودارت حول كارثة وباء "الكوليرا" في مصر عام 1947)
يأتي ذلك وسط غياب حملات التفتيش الفعالة لاكتشاف مواطن الوباء الجديدة، مع تخبّطٍ إداري في المكافحة نتيجة تكليف الأطباء بأعمال إدارية، فانشغلوا عن متابعة سير الوباء، لدرجة أن الدكتور نظيف بك، وكيل وزارة الصحة للشؤون الوقائية حينئذ، كان مسؤولاً عن الأعمال الإدارية في الوزارة فتقاعس في تطبيق الإجراءات الوقائية اللازمة، عقب ظهور الوباء في الهند في شهر أغسطس، كذا لم يكن الأهالي يبلغون عن كافة الحالات المصابة لخوفهم من سوء معاملة رجال الصحة.
(من رواية "اليوم السادس" للكاتبة والشاعرة الفرنسية المولودة في القاهرة "أندريه شديد"، صدرت بالفرنسية عام 1960، ودارت حول كارثة وباء "الكوليرا" في مصر عام 1947)
في خيام بالصحراء، كان يُعزَل المُصابون، وجوههم شاحبة، زرقاء، هزيلة، ينادي عليهم أحباؤهم وأقاربهم من وراء الأسوار، فرّقت "الكوليرا" بين الرجل وزوجته وأبنائه "كان الفلاحون يخافون التبليغ عن الإصابات خيفة أن يعزلوا هم الآخرون، ويموت الغريب وليس هناك من يسأل عنه، يحمله أهل البيت إلى الجبل فيدفنونه ويعودون"، بحسب ما يذكر الكاتب الصحفي الشاب، وقتها، محمد حسنين هيكل، في تحقيق صحفي نُشر في الثامن من أكتوبر 1947 على صفحات العدد 676 من مجلة "آخر ساعة"، بعدما اخترق "هيكل" الحصار الأمني والصحي المفروض على قرية القرين في محافظة الشرقية، التي وصفها بـ"قرية الموت".
في أيامٍ قليلة. صال الوباء وجال، وصل القاهرة في أواخر سبتمبر، وبحلول أكتوبر كان قد تمدد وطاف بكل مصر، المدن مُغلقة، والقرى تئنّ، يرتع فيها ثالوث الفقر والجهل والمرض. بلدٌ منكوب محتَلّ ضربه وباء "الكوليرا"، وصار يعيش على توقيته، يكتب أحمد حسن الزيات في مجلّة الرسالة في شهر أكتوبر "العدوى السريعة لا تزال تسري، والعلّة الثقيلة لا تزال تستشري، والموت بمنجله الحاصد لا يزال يسبق الآجال في كل بقعة(..)"، انعزلت مصر عن العالم، توقفت حركة السفر والاستيراد والتصدير، لا خروج ولا دخول، امتلأت الصحف بحديث الأطباء ونصائحهم للوقاية. ومع الوقت، خضع الجميع للتطعيم الإجباري ضد "الكوليرا"، وانتشرت فرق التطهير والتبخير ترش البيوت والشوارع، التي زحف الوباء ليلاً إلى أحد عمالها في قرية القرين، واستيقظ على أعراض "الكوليرا"، نقل إلى المستشفى، وعائلته إلى المعزل، وحين أتى أخوه في الصباح وجد علامة مخيفة على البيت، تشي بأنه منزل موبوء، فذهب إلى المستشفى؛ ليشيّع جنازة أخيه، واستلم مكانه في حمل عدة التبخير وتطهير المنازل، حسبما يحكي "هيكل".
خريطة انتشار الكوليرا في مصر عام 1947 ومستويات حدته عبر 4 أشهر- الصورة من بحث لمجلة الجغرافيا التاريخية الدولية
كانت أكثر الفترات التي انتشر فيها الوباء الخمسة عشر يوماً الأولى من 23 سبتمبر إلى 7 أكتوبر، وبلغت جملة الإصابات خلالها 430 حالة و534 حالة وفاة، فتوسّعت الحكومة في إنشاء المعازل ومراقبة المخالطين وعزلهم في أماكن مخصصة.
أهم المعازل والمحاجر الصحية التي أُنشئت لمواجهة الكوليرا 1947
156 معزلاً على مستوى الجمهورية أبرزهم:
إعلان نظافة القُطر المصري من الكوليرا
تسجيل آخر 5 حالات إصابة بالوباء
بدأت الوفيات في الانخفاض مع منتصف شهر أكتوبر، ليختفي الوباء نهائياً في آخر شهر ديسمبر، بعدما أصاب 270 قرية، حاصداً آلاف الأرواح، موزّعاً الخسائر على كثيرين بينهم فلاحون انقطعوا عن حقولهم، وكل ما قدمته لهم الحكومة من معونة هو 10 قروش لكل رب عائلة.
في نهاية ديسمبر 1947، سُجّلت آخر 5 حالات إصابة بالوباء، في القاهرة ومحافظات أخرى، ومع بداية عام جديد، ألغت وزارة الصحة العمومية قرارات باعتبار بعض المناطق موبوءة واعتبار موانئ الإسكندرية وبورسعيد والسويس والإسماعيلية ومناطقها وجميع مديريات الوجه القبلي خالية ونظيفة من وباء "الكوليرا"، فيما كرّم الملك فاروق ملك مصر، العاملين الطبيين وممرضات الهلال الأحمر بميدالية نحاسية، تقديراً لجهودهم. قبل أن يُعلَن نظافة القطر المصري من وباء الكوليرا في 11 فبراير 1948، نظراً لزوال خطر انتقال العدوى، وتطوي مصر صفحتها مع وباء وصفه بحث منشور في أكتوبر 2016 في مجلة الجغرافيا التاريخية الدولية بأنه "أكبر تفشٍّ للمرض في القرن العشرين"، الذي حصد، في أشهر قليلة، أرواح 10 آلاف و277 شخصاً، فيما وصل عدد المصابين إلى 20 ألفاً و804، في القطر المصري الذي جاوز تعداد سكّانه وقتذاك 19 مليوناً بقليل، وفق تقرير لمنظمة الصحة العالمية.
"كورونا".. عودة الحجر الصحي
بين الأوبئة التي ضربت مصر في عصر محمد علي، وحتى آخر ظهور لوباء "الكوليرا" عام 1947، تاريخٌ طويل من حصد الأرواح، وإجراءات للحجر الصحي والعزل، والإجراءات الاستثنائية، التي تعود الآن، تجنّباً للعدوى، والنجاة من شبح القرن الواحد والعشرين القاتل.. "كورونا".
قبل ظهور فيروس "كورونا" في مصر، اتخذت الحكومة عدة إجراءات للحجر الصحي، واختير لذلك أحد فنادق محافظة مرسى مطروح، أقام فيه العائدون من الصين، وعددهم 302 مصرياً، بعدما تم إجلاؤهم في الأول من فبراير الماضي، بعدما تفشّى فيروس "كورونا المستجد" في الصين، منذ ديسمبر الماضي، فيما تم تجهيز مستشفى "النجيلة" بالمحافظة للعزل، حال ظهور إصابات بين العائدين.
لمدة 14 يوماً، خضع العائدون من الصين للحجر الصحي قبل أن يغادروه منتصف فبراير، بعدما ثبتت سلبية تحاليلهم والتأكد من خلوّهم من "كوفيد-19"، في الوقت الذي أعلنت فيه وزارة الصحة عن اكتشاف أول حالة إيجابية حاملة لفيروس "كورونا" المستجدّ، لشخص أجنبي، وتمّ عزل المخالطين للحالة في أماكن سكنهم لمدة 14 يوماً، قبل أن يُعلَن، في الثاني من مارس الماضي، فرض وزارة الصحة حجراً صحيّاً كاملاً على 1500 عامل، بحقول "خالدة" للبترول في الصحراء الغربية، على بعد نحو 600 كيلو مترٍ عن القاهرة، بعدما اكتشفت إصابة مهندس كندي بالفيروس، لتتسع خريطة الأماكن التي فُرض عليها الحجر الصحي، مع ظهور حالات في محافظات عدّة.
انتشار الفرق الطبية بإحدى قرى محافظة الشرقية - مايو2020
بمرور الوقت، كان عدد حالات مصابي "كورونا" يرتفع، خاصة بعد الإعلان في 6 مارس الماضي عن إصابة 12 مواطناً على متن مركب نيلي في محافظة الأقصر بالفيروس، لتبدأ مرحلة جديدة في مواجهة الفيروس. خضعت السفينة وعلى متنها 165 موظفاً للعزل، وتم سحب عينات منهم لتحليلها، وفرض حجر صحي لمدة 14 يوماً عليها، وعلى عدد من البواخر السياحية، اتسعت خريطة المحافظات التي طالها "كورونا"، وبعدما كانت "النّجيلة" وحدها هي المكان المخصص لعزل المصابين بـ"كوفيد-19"، اختارت وزارة الصحة، في البداية، نحو 30 مستشفى، في جميع محافظات مصر، تكون مقرات للحجر الصحي لحالات الاشتباه بالفيروس المستجدّ، فضلاً عن تجهيز 17 مستشفى لعزل المؤكدة إصابتهم، وحين ظهرت أول حالة وفاة بـ"كورونا" لمصرية في قرية السماحية بمركز بلقاس في محافظة الدقهلية، فرضت الوزارة حجراً صحيّاً على 300 أسرة من المخالطين للراحلة، وهو ما تكرر في أماكن وقرى أخرى بعد ظهور إصابات مؤكدة.
خريطة الحجر الصحي ومستشفيات العزل في زمن "كورونا"
376
مستشفى عام ومركزي لفحص الحالات المشتبه بها
36
مستشفى للحمّيات والصدر للفرز والتشخيص والعزل
14
مقر للحجر الصحي
(مدن جامعية- نزل شباب- فنادق)
25
مستشفى للعزل
بالتزامن مع قرارات اتخذها مجلس الوزراء، منتصف شهر مارس الماضي، بتعليق حركة الطيران، بعدما جاوز عدد مصابي كورونا في مصر، وقتها، 160 حالة، قررت 4 محافظات سياحية هي أسوان والأقصر وجنوب سيناء والبحر الأحمر، بناءً على توجيهات من وزارة الصحة، فرض حجر صحي على جميع العاملين في المنشآت السياحية لمدة 14 يوماً، اعتباراً من بدء سريان قرار وقف الرحلات الجوية، وصارت الفنادق المصرية في المحافظات السياحية المختلفة تحت الحجر الصحي، تجنّباً لتفشّي الوباء.
على وقع الإصابات الجديدة التي تسجلها مصر بفيروس "كورونا"، بشكل يومي، منذ الحادي عشر من مارس الماضي، واتساع رقعته في غضون شهر ونصف الشهر من ظهوره في مصر، اتخذت الحكومة إجراءات استثنائية عديدة لمواجهة تفشّي الفيروس، منها تأجيل الدراسة وتعليق الصلاة في المساجد، وفرض حظر تجول مسائي على حركة المواطنين، فضلاً عن إغلاق المقاهي والأندية، وتمديد فترة الحجر والعزل المنزلي للعائدين من العمرة وأسرهم إلى 28 يوماً.
نقل مصابي كورونا بمحافظتي بورسعيد والشرقية لمستشفيات العزل- مايو 2020
وخلال أيام شهر أبريل بدأ عدّاد الإصابات والوفيات في صعود لافت، محقّقاً قفزات متتالية، ومنذ بداية شهر مايو تضاعفت الأرقام، وحقق عدّاد الإصابات اليومي أرقاماً قياسية، جاوزت الألف حالة في يومٍ واحد، هو الثامن والعشرين من مايو وما تلاه، ليكسر حاجز الإصابات 20 ألف حالة، في الأسبوع الخامس عشر من تفشّي "كوفيد-19"، ويصل عدد ضحاياه حتى يوم 7 يونيو الجاري إلى 34 ألفاً و79 مصاباً، بينهم 1237 حالة وفاة، و8 آلاف و961 مُتعافٍ، علماً بأن الفيروس طال جميع محافظات مصر.
سيناريوهات التعامل الحكومي مع الأزمة، دخلت مرحلة جديدة، فيما يخصّ التوسّع في تجهيز أماكن العزل والحجر الصحي، بعدما جاوز عدد ضحايا "كوفيد-19" 5 آلاف حالة، أواخر شهر أبريل الماضي، ففي الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة عن خطتها "للتعايش" مع الوباء، بعدما استأنفت العمل في قطاعات عدة، كانت قد توقّفت جراء "كورونا"، وقلّصت ساعات الحظر –للمرة الثانية منذ تطبيقه- مع أول أيام شهر رمضان، لتبدأ من التاسعة مساءً وحتى السادسة صباحاً؛ دخلت 36 من مستشفيات الصدر والحمّيات، في محافظات عدة، على خريطة مستشفيات العزل، بعدما كانت تقتصر على فرز وتشخيص الحالات، وعلى وقع القفزات في عدّاد الإصابات في شهر مايو، أعلنت وزارة الصحة ضم جميع المستشفيات العامة والمركزية غير التخصصية لخدمة فحص الحالات المشتبه بها، بواقع 376 مستشفى، لتخفيف العبء عن مستشفيات الحمّيات والصدر.
تخفيف العبء عن المستشفيات، دفع الوزارة إلى تعديل استراتيجيتها للتعامل مع الحالات الإيجابية، وبدأ تجهيز عدة مدن جامعية ومراكز شبابية، وفنادق وأندية، كأماكن للحجر الصحي وعزل المرضى. وسبق ذلك تخصيص فنادق لفرض الحجر الصحي على العائدين من الخارج، على نفقتهم الخاصة، بينما كانت الإقامة مجانية في المدن الجامعية المخصصة للحجر الصحي، الذي عدّلت وزارة الصحة مدته في 19 مايو، من 14 إلى 7 أيام لمن يثبت سلبية تحاليلهم، كذلك بدأت الوزارة في تطبيق تجربة العزل المنزلي للحالات البسيطة المُصابة بـ"كوفيد-19"، على أن تقتصر المستشفيات على حجز المرضى أصحاب الحالات الحرجة.
أعاد وباء كورونا فرض إجراءات الحجر الصحي تجنّباً للعدوى
بين الأمس واليوم، يبدو العيش صعباً في زمن الأوبئة، التي تقطّع الأوصال وتشتدّ قبضتها على نواحي الحياة، وتحاصر العالم براً وبحراً وجواً، وسط إجراءات استثنائية لا فكاك منها، مشاهد مأساوية وخسائر في الأوراح تغلّف الحياة، نقل بعضاً منها "هيكل" حين زار قرية القرين وقت وباء "الكوليرا" عام 1947، لكن رغم ذلك "الحياة لا تستسلم أبداً ولا تزال تُثبت في القرين أنها الأقوى.. الإيمان العجيب بالقدر لا يٌفارق أهلها، وحين تمر أمامهم مواكب المرض أو مواكب الموت تلمح في عيونهم للحظة خاطفة نظرة خوف، ثم يستعيد الإيمان مكانه وتنتصر الحياة"، طوت مصر صفحاتها مع الأوبئة، منذ القرن الماضي، لتبدأ، ومعها العالم، رحلة مع الزائر الجديد الثقيل "كورونا"، الذي لا يزال متفشيّاً، على أمل أن ينحسر الوباء، ويُكتَب للجميع النجاة من شبح القرن الواحد والعشرين القاتل.