يُقسمون "لبنان" في اللغة السريانية، إلى "لُب" وتعني "قلب"، و"أنان" وتعني "الله"؛ لذا ترجمتها الحرفية للعربية هي "قلب الله"، لكن أهلها لم يجدوا أمامهم طريقًا سوى البحر، في ظل مستقبل غامض لبلادهم. يبحثون عن النجاة والخلاص حتى لو كلَّفهم حياتهم، أمامهم طريقان لا ثالث لهما؛ إما الوصول إلى الضفة الأخرى، حيث الحياة و"الفردوس المفقود"، أو يكون فردوسهم عزاءً ليفقدوا أرواحهم في البحر وعلى بُعد كيلومترات من ميناء طرابلس اللبناني.

لليوم، لم يكد مواطنو طرابلس ينسون القارب الذي غرق أمام سواحل المدينة في أبريل الماضي، والذي راح ضحيته أكثر من 30 شخصا، حتى استقبلوا خبر غرق مركب آخر أمام سواحل طرطوس، على متنه ما لا يقل عن 120 شخصا من النساء والرجال والأطفال، بعد انطلاقه بساعات قليلة، ليلقى نحو 100 شخص حتفهم حتى الساعة، فيما جرى إنقاذ عشرين شخصاً.

الحادثة لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة فأهالي لبنان حاليّا يسعون خلف هدف واحد فقط، ألا وهو الهروب نحو الجانب الآخر من البحر.

البحث عن يوتوبيا



مساء الثالث والعشرين من أبريل 2022، استعدت جمانة وأبناؤها الأربعة للمغادرة، أطفأت السيدة مصابيح منزلها وحملت حقيبتها رفقة صغارها وهموا بالرحيل في اتجاه شاطئ بحر طرابلس، دقائق وصعدت جمانة وعائلتها على متن مركب صغير حمل عائلات أخرى بجانبها، انطلق المركب ومن عليه، تبادلوا الحديث والضحكات، وقبل أن يدخل القارب المياه الإقليمية بدأت طرادات عسكرية تابعة للجيش اللبناني في تطويقه، وفجأة اصطدم أحدها بالزورق الصغير ليغرق بمن عليه في البحر.

9 سنوات تعيش السيدة رفقة أبنائها الأربعة؛ سلام وغانيا ومصطفى وإبراهيم في مدينة طرابلس اللبنانية بعد رحيل زوجها، لكن وبعد الظروف الصعبة الأخيرة التي أصابت لبنان قررت الخمسينية وأبناؤها البحث عن فرصة للهرب خارج البلاد، لكنهم لم يمتلكوا أموالًا لدفعها مقابل الخروج عبر البحر، حتى أتتهم الفرصة، فصديق نجلها إبراهيم والذي يعمل معه عرض عليهم الرحيل بدون مقابل رفقة عائلته، بعدما اشترى قاربًا صغيرًا حصل على أمواله بعدما باع كل ما يملك في مدينته؛ لذا لا مانع من أن يذهب صديقه وأسرته الصغيرة معهم.

00:00

وافقت جمانة على العرض، لم تُبلغ أحداً من أسرتها سوى أبنائها الأربعة الذين خرجوا رفقتها، وفي ليلة السبت الثالث والعشرين من أبريل، استقلت العائلة زورقًا صغيرًا كانت وجهته إيطاليا، مع نحو 70 شخصًا من عائلات أخرى، كان البحر هادئًا أمامهم ترتطم الأمواج بهدوء في القارب، تجمعت النساء والأطفال في غرفة صغيرة بالطابق السفلي هربًا من البرد، بينما جلس الرجال على الحافة، 3 ساعات مرت تسلل الأمل لقلوب الجميع لم يتبق على المياه الإقليمية سوى مسافة صغيرة.

"كنت عايزة أهرب من لبنان علشان أرتاح وبناتي راحوا بلاش" 4 زوارق عسكرية كسرت حاجز الظلام مُطاردة القارب الصغير حتى اصطدم أحدها به ليصيب القارب إصابة بالغة كانت سبباً في غرقه، ابتلع البحر من كانوا على متن القارب، كُتب لجمانة واثنين من أبنائها النجاة، خرجت وتركت خلفها فتاتين لم تعثر عليهما حتى اللحظة، ابنتها الكبرى سلام ذات الـ31 عامًا وابنتها الصغرى غانيا.

رغم مرور نحو 4 أشهر على الواقعة فإنّ جمانة ونجليها الذكور لم يتعافوا من الحادث الأليم، فبعدما كان البحر هو مصدر رزقهم الوحيد حيث كان يعمل مصطفى وإبراهيم أصبح كابوسًا بالنسبة إليهما، ويرفضان الذهاب إليه للعمل مرة ثانية، خاصة أنّ جثماني أختيهما لازالت في أعماقه.

"أنا منتظرة ولادي يطلعوا واطمن على بناتي وهطلع تاني".. السيدة الخمسينية رغم مصابها الكبير في فقدان بناتها لكنّها لم تمحُ فكرة الهرب من رأسها بل إنّها تنتظر حتى خروج بناتها من البحر، وستحاول الهرب مرة ثانية مع نجليها الذكور، خاصة أنّها تعاني من أزمات مالية كبرى بسببها لا تقوى على دفع إيجار منزلها أو حتى فاتورة الكهرباء الخاصة بها، لكن تلك المرة لن تهرب عبر البحر بل ستبحث عن طريقة أخرى حتى لا تفقد ما تبقى لها من أبناء.

المشكلة الاقتصادية سببها الأساسي فساد الطبقة السياسية المتحكمة بمفاصل الدولة ومؤسساتها والاستدانة من دون أي خطط لإنشاءات استثمارية، إضافة للمبالغ الطائلة التي تم صرفها لتثبيت سعر صرف الدولار كل هذا أدى للانهيار الذي نعيشه؛ لذا صعوبة الوضع دفعت المواطنين للهرب، طالما راتب الموظف لا يشتري له صفيحة محروقات، أو حتى توفير الطعام لأبنائه.
- الخبير الاقتصادي اللبناني محمد بدرة -

باع كليته "للنجاة"



أمام منزل صغير، وقف أحمد "اسم مستعار" يستند على بابه، بدا عليه ضعف الجسد، ملامح وجهه شاحبة من آثار المرض، يتذكر ما حلّ به وأبناءه قبل عدة أشهر، حينما عرض عليه أحد أصدقائه فرصة جيدة للهجرة خارج بلادهم والبحث عن حياة أفضل له ولأبنائه الأربعة، الذين يتضورون جوعًا يوميّا بسبب الأزمة الاقتصادية التي حلت ببلادهم.

الشاب فكرّ في العرض، لكن صعوبة الحصول على أموال من أجل الهرب كان عائقًا أمام الموافقة عليه، حتى ولو باع منزله الصغير فلن يتمكن من جمع الأموال المطلوبة والتي تجاوزت الـ2500 دولار من أجل الصعود على قارب النجاة بالنسبة لهم، حتى طرأت للشاب فكرة وهي بيع جزء من جسده، فبالنسبة له التخلي عن هذا الجزء مقابل الهروب وإيجاد حياة لأطفاله هو فوز كبير.

تواصل الشاب مع أحد السماسرة وبالفعل نجح في إيجاد طريقة لبيع كليته مقابل الحصول على مبلغ مالي كبير يغطي تكاليف رحلته وأبنائه، وبعد عدة شهور قليلة تعافى الشاب من العملية التي أجراها، تواصل مع صديقه وأعطاه المال للخروج وأبنائه، لكن الحظ لم يحالفه.

جمع الشاب وأبناؤه وزوجته أغراضهم، أسرعوا نحو زورق صغير سيحملهم للجانب الآخر من البحر نحو إيطاليا، لكن لم يبتعد القارب كثيرا عن شاطئ طرابلس حتى حاوطتهم زوارق عسكرية ومنعتهم من الخروج. وعاد أحمد وأبناؤه لمنزلهم بعدما فشلت محاولتهم.

"لو أمتلك فرصة جديدة لإخراج أبنائي هبيع أي شيء من جسدي حتى لو كلفني الأمر حياتي".. ساءت ظروف الشاب أكثر مما كانت عليه في السابق، فصحّته لم تعد تقوى على العمل كثيرًا، الأموال التي يحصل عليها من عمله لم تعد تكفي لإطعام صغاره، حتى أنّه لا يزال يبحث عن فرصة لتهريب أبنائه من لبنان حتى ولو دفع حياته ثمًنًا مقابل تحقيق ذلك.

- شهد لبنان موجتين كبيرتين من الهجرة
- الأولى أواخر القرن الـ19 حتى الحرب العالمية الأولى
- هاجر نحو 330 ألف شخص من جبل لبنان
- الثانية كانت خلال الحرب الأهلية
- هاجر نحو 990 ألف شخص

مرصد الأزمة التابع للجامعة الأمريكية في بيروت

الغرق ليس نهاية المأساة



استيقظت الأم مبكرًا لتستعد لاستقبال ابنيها الصغيرين (ولد وبنت)، فمنذ انفصالها عن أبيهم وهما رفقته يأتيان لزيارتها السبت والأحد من كل أسبوع. دقت الساعة التاسعة مساءً والأم تنتظر طفليها حاولت الاتصال بوالدهما لكن لم تجد إجابة، تسلل القلق لقلبها خاصة أنّ هذا الأمر لم يحدث من قبل، فالصغيران اعتادا القدوم لأمهما دون أي مشاكل.

ظلت الثلاثينية تنتظر صغيريها وفي المساء شعرت بحركة غريبة في الحي، أسرعت نحو الشارع لتجد الكثير من أبناء حيها يهرولون نحو البحر، يتحدثون عن غرق زورق يحمل عددًا كبيرًا من أبناء حيّهم، لم تدرك الأم حينها أنّ صغيريها ضمن ضحايا المركب، بعدما حاول والدهما تهريبهما للبحث عن عيش أفضل في أوروبا.

خالد النجار فتى عشريني وزوج شقيقة الأم المكلومة، سرد تفاصيل ما حدث لطفلين لم يتجاوزا السابعة من عمرهما، فبعدما علمت الأم بنبأ غرق زورق كان على متنه أطفالها وطليقها وزوجته وطفله الرضيع، أسرعت نحو الشاطئ لتطمئن على صغيريها لكنّ القدر لم يكتب لهما النجاة. خرج الأب وحيدًا دون أبنائه الثلاثة؛ فتاة في الخامسة وولد في السابعة ورضيع من زوجته الثانية لم يتخطَّ الـ40 يومًا جميعهم غرقوا، حتى جثامينهم لم يتم العثور عليها حتى اليوم.

الأب كان ميسور الحال، لكنّ الظروف الاقتصادية الصعبة جعلته يفكر في مستقبل أبنائه بشكل مختلف خارج لبنان، وبسبب عدم استطاعته إخراجهم بشكل شرعي عبر المطار لاعتقاده أنّه سيحتاج إلى موافقة الأم على الخروج، فكر بالسفر عبر البحر واختار اليوم الذي سيذهب فيه صغيريه في عطلة إلى أمهم وهو يوم السبت، حتى أنّه أخبر الطفلين بالذهاب إلى نزهة قبل زيارة الأم، تلك النزهة كانت على متن القارب.

"هيداك اليوم كانت نازلة تسبح بليل قالت بدها تجيب أولادها".. قبل أشهر بدأت الأم في تعاطي دواء للأعصاب بعد تعرضها لصدمة نتيجة سقوط شخص من طابق مرتفع أمامها ما أدى لانفجار رأسه. تعافت بعدها، حتى إنّها أوقفت تعاطي الدواء حتى جاء ألم فقدان صغيريها، أصيبت الأم بحالة من الهلع ويومًا بعد يوم تسوء حالتها، وصل بها الأمر إلى محاولات الانتحار الدائمة كونها خسرت طفليها وتريد الذهاب إليهما.

باع كل شيء وخسر



خالد أيضًا سرد حكاية جاره وصديقه والذي كان له نصيب كبير من تلك المعاناة، فهو أب لـ5 أبناء جميعهم أطفال، لا يمتلك سوى مهنة بسيطة لا تساعده على توفير احتياجاتهم اليومية من مأكل ومشرب؛ لذا شجعه بعض أبناء الحي بالتفكير في الهرب لإيطاليا، فهناك الكثير ممن نجحوا في الوصول إلى الجانب الآخر، لكن الأب لم يمتلك أي أموال، فقرر المغامرة وبيع منزله وجميع أغراضه مقابل الخروج فقط من لبنان.

باع الأب منزله واستعد للخروج رفقة أبنائه الـ5 على متن أحد الزوارق قبل أشهر، لكن محاولته فشلت، فقبل تحرك القارب من على شاطئ بحر طرابلس تم القبض عليهم، وعاد الأب في محاولاته لإنقاذ أبنائه من الموت جوعًا بعدما خسر جميع ممتلكاته والتي تتمثل في منزله الصغير وأثاثه، أصبح الأب وصغاره لا يملكون مكاناً للإقامة به فلم يكن أمامهم سوى الشارع؛ ما دفع أبناء الحي لتوفير مسكن صغير لهم، وبدأ الأب يجمع أغراضًا بسيطة كفراش النوم من أجل الصغار، لكنّه لا يزال يفكر في العودة وتكرار محاولة الهرب.

وصل العجز لعدم القدرة على الحصول على جواز سفر إلا بعد عام أو اثنين؛ لذا لا حلول من دون إصلاحات، ولا إصلاحات مع من اعتاد النهب والإفساد في إدارة البلاد. كانت هناك فرصة أمام الشعب للمحاسبة من خلال الانتخابات، لكن الوعي لدى المواطنين، وأساليب السلطة في التزوير والتلاعب بالنتائج وتفصيل قانون انتخاب على مقاسها، سيؤخر أي إنقاذ لسنوات عديدة لا تقل عن عشر سنوات.
الخبير الاقتصادي اللبناني محمد بدرة

لا بديل عن الهجرة



"ما بقي في شيء بلبنان، الهجرة صارت أحسن من العيش بهيك بلد".. قالها بلال ديب، الفتى ذو الـ26 خريفا والذي يعيش في قرية فنيدق بقضاء عكار. عزم الشاب على الرحيل من وطنه بشكل غير شرعي، وحاليّا يستعد لتلك الخطوة التي يدرك خطورتها لكنّ لا بديل أمامه سواها.

بلال الأخ الأوسط بين أشقائه الـ9 بدأ في خطوات الهرب، فعزم على بيع محتويات منزله، خاصة أنّه لا يمتلك الأموال التي يطلبها سماسرة الهجرة في مدينته، فالفتى عمل في إحدى الشركات بالمدينة وكان يتحصل منها على نحو 50 دولارًا شهريّا، لكن بعدما اشتدت الأزمة في لبنان أصبح بلا عمل، ولم يجد فرصة أخرى لتوفير احتياجاته وأسرته اليومية، "صدقيني نحنا أيام بنام بلا عشا كيف بدك ياني ضل بهيك بلد".

كان بلال في عمر الـ14 حينما توفي والده، تحمل المسؤولية باكرًا، فغادر مدرسته من أجل العمل حتى يتمكن من مساعدة شقيقه الأكبر في إعانة والدته وأشقائه، لكن ومع الظروف الصعبة التي تمر بها بلاده لم يعد وأشقاؤه يملكون أموالاً للعيش، فقرر بيع بعض أجهزته المنزلية حتى يتمكنوا من توفير الطعام.

الشاب العشريني، قرر بيع أثاث منزله والحصول على أمواله والهرب بطريقة غير شرعية، على أمل الوصول للجانب الآخر من البحر وحال نجاحه سيعمل على جلب أسرته بنفس الطريقة التي خرج بها، فلم يعد لديه أي أمل للبقاء أو العيش في وطنه، خاصة أنّ حال عائلته صعب، فشقيقته الصغرى التي تدرس بالجامعة لم تتمكن من الذهاب لأداء امتحاناتها؛ لعدم امتلاكهم أموالًا لدفع أجرة المواصلات: "ههرب حتى لو راح أموت بالبحر".

"لم يعد هناك أي مقومات للحياة في لبنان، لا كهرباء ولا مواد غذائية ولا أدوية، والمستشفيات تعمل بمولدات ويمكن أن تفصل أيضًا، الكهرباء أصبحت في طرابلس للرفاهية فقط من يملك النقود يمكن له الاشتراك والحصول على كهرباء وغالبًا تكون في المساء فقط، ومن لا يملك يعيش بالظلام، المشكلة ليست في الكهرباء فقط بل في كل شيء، الفقر أصبح هو السائد حاليًا الفساد تشعب في كل شيء؛ لذا لم يعد أمام المواطنين حل سوى الهرب خارج الدولة بحثًا عن حياة في أي مكان رغم إدراكه أنّه يمكن أن يكون الموت من نصيبه لكن وما الفرق فهو أيضًا يعيش هنا منتظرًا الموت".
- الصحفي اللبناني شعيب زكريا -

قصة: سارة أبو شادي

رسوم: سحر عيسي

إنفوجرافيك: مايكل عادل

تصميم وتنفيذ: محمد عزت

إشراف: أحمد شمسي

إشراف عام: علاء الغطريفي