يتذكره كأنه الأمس؛ في صيف 2015 كان عماد سعداوي يلتحف بالغبار الأبيض في حُضن محجر المنيا، يُحكِم قبضته على "الفصّالة" كما اعتاد أن يفعل منذ 20 عامًا، يتحرك بآلته في جسم الجبل لإخراج الطوب الحجري، إلا أن لحظة شرود لم تدُم ثواني، كانت سببًا في أن يمكث طريح الفِراش لثلاثة أشهر دون عمل وبقدم مُصابة بالكسر.
في العام نفسه، صيف مايو 2015؛ خاض المصور الصحفي أحمد جمعة التجربة، أراد صنع قصة مصورة عن معاناة عمال محاجر المنيا وإصاباتهم، رغم أنه شهد اهتمامًا من المصورين "لكن كل مصور له رؤية وبيطلّع صور مختلفة من المكان"، كذلك تفاصيل العمال تظل متدّفقة لا يواريها غبار الزمن.
أخذت عدسات جمعة توثّق تفاصيل العمل بالمحجر، كيف للغبار سطوة على المكان، حتى الشمس حاولت أن تبسط أشعتها الذهبية لكن لا شيء في الأفق سوى اللون الأبيض، فيما تصم أصوات الآلات الآذان، فخرجت صورة تشهد على الملحمة التي يخوضها العمال يوميًا، وفاز عنها المصور المصري بالجائزة التشجيعية في مسابقة نقابة الصحفيين للتصوير.
البداية من عام 1998؛ وقتها "وعى" سعداوي لأول مرة على محاجر الطوب الحجري المترامية في محافظة المنيا، كان يبحث صاحب السابعة عشر ربيعًا آنذاك عن فرصة عمل مُجزية، فلم يجد سوى المحاجر، تمامًا مثلما يفعل أهالي 42 قرية ولا سيما المتواجدة في شرق عروس الصعيد، كما يقول حسام وصفي المدير التنفيذي لمؤسسة وادي النيل لرعاية عمال المحاجر لمصراوي.
إعلان
إعلان
حين تعثّر سعداوي، ابن قرية نزلة عبيد، أصابه الهلع، تلاحقت السيناريوهات القاتمة في عقله، كرّت الذاكرة كل الحوادث التي رأي فيها آلة "الفصّالة" تلتهم حياة العمال أمامه، تعذّرت الرؤية، تكوّم الغبار الأبيض على عينيه "لكن لما حسيت إن مفيش دم هديت شوية"، تجمع العمال حوله طمأنوه بأنها "بسيطة.. بالنسبة لنا لو أنت لسه عايش فأي إصابة بتبقى بسيطة حتى لو حصل لك بتر".
انقطع الأب الثلاثيني عن العمل لثلاثة أشهر بسبب الكسر في قدمه "في العادي أصحاب المحاجر مبيسألوش في العامل اللي بيتصاب أو بيموت، إحنا كعمال اللي بنلّم مننا ونساعد بعض، لكن أنا كنت محظوظ شوية وصاحب المحجر ابن حلال واتكفل بعلاجي".
تابع وصفي، شؤون عمال المحاجر منذ عام 2005 حتى 2017؛ عايش معهم التفاصيل المُرعِبة في مهنة يصفها بأنها ذات طبيعة صعبة، إذ كل عامل بالمحجر مُعرّض للوفاة أو الإصابة التي قد تؤدي إلى بتر أعضاء الجسد دون وجود مظلة تأمين اجتماعي أو صحي، إضافة إلى عدم توفير أي وسائل سلامة مهنية للعمال.
ورغم المخاطر؛ لا يعتزل أهالي قرى المنيا هذه المهنة "فلوسها حلوة مقارنة بباقي الشغلانات اللي عندنا، أنا في اليوم بطلع بـ95 جنيه فببقى ضامن إني هعرف أوكل عيالي"، يحكي سعداوي ابن قرية بني عبيد التي شهدت عام 2009 وفاة 30 عاملًا من عمال المحاجر.
إعلان
إعلان
ذلك الرقم أصاب سعداوي بالفزّع، شعر بالخطر على حياته وهو الذي عايش كل تلك التقلبات التي حلّت بالمهنة حتى أنهكته "لكن فين البديل؟" يطّن هذا التساؤل في عقله حينما يخرج من منزله يوميًا في الرابعة صباحًا ويُعيد ما ظل يفعله منذ نحو عشرين عامًا.
يتجمّع كل العمال في مكان واحد، تحملهم عربات ربع ونصف نقل، تشق طريقها خلال ساعة ونصف الساعة إلى الجبل، وفي الخامسة والنصف صباحًا يبدأ الضجيج في المحاجر "بنشتغل بكل طاقتنا قبل ما الشمس تحمى علينا"، ثماني ساعات يقضيها سعداوي في المحجر.
في منتصف اليوم يأتي وقت الراحة؛ يعرف أبناء المهنة الموعد، وبدون ترتيب تبدأ أصوات الآلات في الخفوت تدريجيًا حتى تتوقف تمامًا، يدلف العمال إلى غرفة بسيطة التأثيث، يتناولون أكواب الشاي "بنشرب في أكواز صغيرة عشان متتبهدلش من العفرة"، ثم يعاودون العمل.
إعلان
إعلان
تتوزّع المهام في المحجر "حد واقف على مكنة زي حالاتي، أو حد مسؤول عن صيانتها لما تتلَم أو بيجمّع طوب ويرصه على العربيات، أو يلم الغبار" كذلك تختلف أجرة العامل اليومية بناء على طبيعة عمله "أعلاها الصنايعي اللي على الفصّالة لأنها أصعبها وأخطرها، لو الشخص سرح المكنة ممكن تاكله".
مع تزايد معدل المخاطر لم يكن هناك بُدٌ من تكثيف التوعية للعمال "قولنالهم إزاي يحموا نفسهم، وتفاوضنا مع أصحاب المحاجر إن لازم يكون في صيانة دورية لتجديد الآلات، ووجود تأمين صحي واجتماعي" تقلّصت أرقام الإصابات بنسبة 50% في عشر سنوات كما يقول وصفي لكنها لم تنتهِ.
حلّت أزمة عاصفة في محاجر المنيا عام 2014 بسبب قانون الثروة التعدينية الجديد، كان أصحاب المحاجر لديهم أزمة مع اللائحة التنفيذية بسبب رفع تكلفة إعداد المحجر "كانت مشكلة بالنسبة لهم إنهم يتحملوا التكاليف واستغربوا من إن في مساواة بينهم وأصحاب محاجر الرخام فوقفوا الشغل فترة وده انعكس بالسلب على العمال".
رغم سوداوية الواقع إلا أن المحاجر مكان ذو طبيعة آخاذة، وكأنك حاضر في مشهد سينمائي هُناك سحِر مُغرٍ بالتصوير، كل حركة تُعد لوحة تستحق التوثيق، لذا لم يستغرب المصور جمعة حينما خزّنت ذاكرة كاميرته 800 صورة من المكان.
وسط الغبار كان المصور الصحفي ذائبًا مع التفاصيل بردائه الأبيض "قررت ألبس اللون ده عشان مبقاش غريب على العمال ويتعودوا على وجودي"، وفي صور جمعة يظهر عددًا من العمال، لم يكن سعداوي من بينهم لكن حكايته حاضرة.
إعلان
إعلان
تبدو قصة سعداوي مُكررة، لكنها تجسيد لما عايشه أكثر من 45 ألف عامل في محاجر المنيا، تقلّب بهم الزمن، خذلت "الفصّالة" عشرات منهم، وغدرت بهم ظروف العمل وأصحاب المحاجر. قصة تستحق أن تُروى لأهالٍ لم يجدوا بُدًا من الخطر، فالتصقوا به لأنه "أكل عيشهم".