في صعيد مصر، تقترن ذكريات الطفولة بالخيل الذي لا تخلو بيوت أغلب أهل محافظة قنا من وجوده، يعتبرونه فردًا أساسيًا من العائلة، له ركن خاص في ساحة المنازل، وأيضًا في قلوب كل كبير وصغير، حتى إنه إذا أراد شخص التباهي بنفسه وسط الجلسات اليومية يقول "إحنا اتولدنا على ضهر حصان".يكبر الأطفال وأمامهم أمنية أساسية: أن يصبحوا فرسانًا كأجدادهم وآبائهم، يتلهفون لتلك اللحظة، خاصة للمشاركة في المرماح.
مع كل مناسبة دينية يُنظم المرماح، وداخل حلقة يتعدد أبناء القبائل من القرى والمحافظات المختلفة، يتحدون على عدة مبادئ، تُنسى الخلافات، ولا يؤخذ في الاعتبار وجود ثأر أو مشكلات بين قبيلة وأخرى. حين يبدأ المرماح تسير رجفة في نفس من يشارك لأول مرة، يستعرض الفارس القديم مهاراته، يمسّ الحماس بلدة بأكملها، تمتلئ الطرقات بوجود الخيول، لا يُسمع سوى الصهيل، وتهليل المشاهدين، يلتصق الغبار الكثيف بالملابس، يغمر الأنوف، ورغم صعوبة ذلك فإن الجميع يستقبله بكل حب؛ إذ يعتبر المرماح بالنسبة لهم "عيدًا" مُنتظَرًا.
حينما يبدأ المرماح يصبح كل فارس وخيله محط الأنظار، ولأجل تلك اللحظة يستعد الفرسان جيدًا، ثمة طقوس يتبعها كل فُرْسَانِ الصَّعِيدِ، سواء لأنفسهم أو لخيولهم، لكن يوم الحدث يصبح الخيل نفسه محط الاهتمام والرعاية.
تبدأ محطات إعداده بالتسبيح، ويُغمر بالمياه قبل موعد الانطلاق بثلاث ساعات تقريبًا حتى يجف جسده قبل المشاركة، لكن الطقس نفسه لا يُقام حينما ينتهي المرماح؛ توجد فلسفة وراء الأمر "فيه تقليد معروف إن الحصان لا يشرب ولا يتسبح بعد المرماح عشان بيبقى عرقان فمينفعش نغير درجة جسمه فجأة"، يقول محمد عبد الله، أحد فرسان قرية دندرة بقنا.
"وأنا بحضر حاجة المرماح بعمل حسابي في أكتر من جلابية عشان الفارس لازم يبقى شكله زين".
(الشريف عبدالله)
يُولِي فُرْسَانِ الصَّعِيدِ كل تفاصيل المرماح أهمية، لذا لا تُعد "زينة" الحصان مجرد رفاهية. حين ينتهي الفارس من تسبيح الخيل، يعود لمنزله لتحضير "العدة"، والتي تتكون من مقعد يُطلق عليه "عضماية"، ثم تُغطى بعباية مزركشة. في مكان منفصل داخل المنزل يحتفظ الفرسان بالزينة، بينما تستقر في مكانة خاصة بقلوبهم، إذ يحتفظ البعض بزينة أجدادهم والتي ترجع إلى 150 عامًا مضت، فبالنسبة لهم كلما زادت الزينة قِدمًا، عُرف أن الفارس قديم وعتيد.
يدبّ الحماس داخل الفرسان مع اقتراب بدء المرماح، يتحرك القادمون من محافظات بعيدة قبلها بساعات، تصبح عرباتهم "اسطبل" متنقلًا للخيل للحفاظ على طاقته ومجهوده.
"لما بروح مرماح بعيد عن بلدي، ببيّت الحصان في بلد المرماح مع واحد صاحبي استأمنه عليه، عشان الحصان ميتعبش من الرايح والجاي".
(يحيى محمد)
بينما يأتي أهل القرية إلى حلقة المرماح ركضًا بخيولهم، تتحول شوارع المدينة إلى ساحة تستقبل فرسان المدينة، تتعالى الرؤوس من النوافذ للمشاهدة، مشهد مهيب لكن يتبعه فلسفة أخرى في سلسلة طقوس إعداد الخيل للمجال، إذ يعتبر المجيء به سيرًا على الأقدام دون عربة ضمن عملية إحماء للخيل قبيل المشاركة حتى يكون على أتّم استعداد.
حمادة نادر
24 سنة
رمسيس
"أول مرة ركبت الحصان لقيت الاسم اللي يليق بيه على طول؛ رمسيس.. لما أركب الخيل ده بالذات بحس إني ملك، بيشرفني في كل البلاد اللي أروح أرمّح فيها.. فاكر في مرة روحت الأقصر عشان أرمح، صاحب المجال مرضيش في الأول يدخلني، استصغرني وقلل مني.. فضلت واقف ومصمم أدخل المجال، رمسيس بقى ساعتها مكسفنيش. رديت عليه بإني كبير مش بالسن لكن بإني أعرف أدخل المرماح ولا كإني عميد الخيالة.. الراجل بعدها جه اعتذر لي".
أبطال مجهولون.. شخصيات في كواليس المرماح
تستقر الفروسية في نفوس كثير من المشاركين بعيدًا عن حلقة المرماح، من بينهم أحمد مأمون الذي بدأ مشواره صغيرًا؛ منذ كان في الخامسة عشرة من عمره وعرف مهنته، مدربًا للخيول. مرّت أغلب خيول قرية دندرة عليه، يستقبلها وهي مهر صغير يتعلم السير، وبداخل اسطبل أسرته التي لها تاريخ عريق مع الرماحة، تبدأ الرحلة.
ثلاثة أشهر يقضيها المهر برفقته "أصعب حاجة في تدريب الحصان أول 20 يوم، بيكون خايف من كل حاجة، الناس، العربيات، الطريق"، يصبح أول هدف للمدرب كسب ثقة الحصان "أول ما يآمن لي خلاص أنا كدة اتملّكت منه". رغم ذلك لا يأمن الشاب الثلاثيني للخيل كثيرًا، تشهد بذلك الإصابات المتفرقة في جسده "فيه خيول طبيعتها شرسة، ممكن مرة واحدة يرفسك، عشان كده مهما كان الحصان متدرب لازم أعامله بحساب وده اللي بقوله لصاحبه"، وحين يألف الخيل التحرك يبدأ مأمون في إعداده للمرماح "لازم حصان المرماح يتدرب مسار كتير، يعني يمشي كتير"، وبعدما تنتهي فترة التدريب يُصبح الخيل جاهزًا لصاحبه كي يشارك في المرماح.
لا يستقيم عمل المرماح دون وجود مُنظم، يشرف على تهيئة الأرض المقام عليها الحدث، يتأكد من جاهزية كل شيء، بينما له دور أكبر حينما تبدأ فعاليات المرماح بتنظيم المشاركين.
"الله أكبر" حين تخرج من حسين مأمون يعرف الفرسان بأن الرماحة قد بدأت، يُصبح هو المُحرك للحدث "أنا اللي بختار الفارس اللي هيشارك". بدأت مهمته التنظيمية في دندرة منذ عشر سنوات، ورثها عن والده، حفظ كل تعليماته عن ظهر قلب بالممارسة "كان ياخدني معاه زمان كمساعد له، ولو حصل غلطة كنت أتحاسب".
يحافظ المنظم على عدة معايير من أجل إخراج المرماح بنجاح، أولها الضيوف من خارج القرية المنظم بها الحدث هم من يبدأون المشاركة، فيما يُرسي حسين القواعد المعروفة للمرماح "ميبقاش فيه هرجلة، محدش يعدي من الحلقة والخيل بيرمح، محدش يدخل المجال غير الفرسان وبس"، يصبح الرجل الأربعيني أكثر حزمًا حين يتعدى أحد على تلك القواعد "مبتهاونش مع حد، بس مقدرش آخد إجراء، بعرف الشخص اللي غلط إنه خرج عن الأصول، لكن مينفعش مثلًا أعاقب حد وأخرجه من المجال".
للمرماح إيقاع، ومن يضبطه هم رجال "المزمار". قبل موعد إقامة المرماح يتواصل مُنظم المرماح بالفرقة للاتفاق على الموعد، يأتي ثلاثة رجال لإطلاق أنفاسهم في المزمار وواحد فقط يقرع الطبل، تنال الفرقة أموالًا من المنظم وكذلك كل فارس يمنحهم "نقطة" حينما يُنهي المسارات الأربعة في حلقة المرماح.
يهتم الفرسان بإطلاق أسماء على خيولهم؛ البعض يسميه اقتداءً بالرسول محمد - عليه الصلاة والسلام- في تسمية الخيل مثل "المرتجز وورد". وخيول أخرى تحصل على اسم يصف حالتها "ممكن يبقى دخلة خير على اسم البيت فيتسمى خير، لو لونه أصفر نسميه دهب"، لكن ما يكثر بين أهل الصعيد في تسمية الخيل إطلاق اسم أحد أبنائهم أو ملك فرعوني عُرف بالقوة والعظمة.
إعلان
يستشعر الفرسان حُب الخيول للمرماح؛ إذ ينتظرونه أيضًا، وكما يساور القلق نفس الخيّال، يدبّ التوتر في جسد الخيل حينما يدخل إلى المرماح... أجواء مهيبة تحيط به: غبار كثيف، وأصوات المزمار، وحشد من البشر، لذا يحاول كل فارس التخفيف من رهبته "وكل ما يبقى الفارس قديم وواعي بيعرف يفك خوف الحصان بسرعة".
"لو حد اتصاب أو مات في المرماح بيبقى ملوش ديّة ولا تار، دي تقاليد ورثناها عن جدودنا".
(عصام الورداني)
لا تهدأ حركة الخيل طيلة ساعة ونصف، وهي مدة إقامة المرماح، ولكل خيل قدرة تحمل "في حصان كل ما يبذل مجهود بيزيد شدّة والعكس". تبدو أمارات الإرهاق على بعض الخيول سريعًا، فيمتلئ بالعرق، فيما يقل نشاطه داخل الحلقة "أول ما نلاقي الحصان دمه بيتسحب منه وحركته بتتقل بنخرج من المرماح".
بدون مشاهدين لا نكهة للمرماح، في صفوف يتجمّع المتفرجون، يشكلون حلقة دائرية للمرماح ومع بداية الحدث تُصبح الجلبة والضوضاء صديقة لأهل قنا، لا تنزعج السيدات من الأمر بل تحرص على ألا تفوّت مشاهدة هذا الحدث من النوافذ وأمام أبواب المنازل، بينما لا تخلو الحلقة من الفتيات الصغيرات.
مصطفى الزناتي
27 سنة
طقطق
"عكس قرايبي أنا نزلت المرماح وأنا كبير، كنت مركز في المذاكرة ودخلت كلية حقوق، بس وأنا عندي 20 سنة بدأت أرمّح على حصان عمي، مرة كان معايا حصان وكان أدامنا عربية درفتها مفتوحة، الحصان فات فيها اتخبط ووقع الناس اللي كانت على العربية واتعور ساعتها.. لما بقى الحصان يتعور دي أسوأ لحظة أكتر من إن أنا نفسي اللي أنصاب".
وسط المتفرجين لا يعلن هشام الألفة عن هويته، يقف وسط المئات يتابع بعين الخبرة ما يجري، كل حركة لفارس، كيف أتّم "التربيع"، وماذا عن "المِشلاة"؟، وفي نهاية اليوم يكون قد كوّن صورة عامة عن أمهرِ الفرسان وأسوَئِهم.
أمضى الألفة طيلة حياته في المجال، يتنقّل في القرى والمحافظات للمشاركة في المرماح كفارس، ولكن الآن بات صاحب السبعين عامًا ناقدًا "خدنا فترة الشباب نركب خيل دلوقتي مبقيناش أدها"، يصبح عقله دفترًا يدوّن أبرز أخطاء اليوم لكل فارس "وأول ما المرماح يخلص بروح أنصحهم بكل وِد عشان الغلطة متتكررش".
العمدة جمال عثمان
55 سنة
فهد
"أصعب حاجة ممكن تحصل لخيّال إنه يقع.. من 3 سنين جيت أربّع لقيت نفسي في الأرض، كل الحبايب اتقدموا عليا عشان يساعدوني، وقتها كنت مضايق جدًا.. أنا خيال قديم وعيب يحصل لي كدة، بس برجع وأقول إن المواقف دي متعودين عليها في المرماح وواردة، المهم إني أقوم وأعيد المجال من أول وجديد من غير ما أقع".
يتابع المتفرجون بشغف حركات الخيول والفرسان، يصيحون تشجيعًا للفارس المُتمكّن، فيما يحتفظ كبار السن بالهدوء خلال المشاهدة، ربما يكون من بينهم خيّال متقاعد، مثل عبدا لله حنيد، قلّت مشاركة صاحب الـ73 عامًا في الحلقات "رغم كده مقدرش أبعد عن المجال لازم آجي في أي مولد أتابع، اللي يقع في حب الرماحة ميعرفش يبعد عنها، حتى لو هاجي لها كمتفرج".
أيمن التهامي
50 سنة
مرجان
الحصان ممكن يبقى بحالات، ساعات متعرفش إيه اللي جراله. في مرة بعد ما دربت حصاني وكان جاهز خلاص للمرماح وخرج معايا عادي، لكن أول ما جيت أدخل الحلقة لقيته متذمر ومش عاوز يتحرك ولا يرمّح.. زعلت وقتها لإن المرماح فرحة لينا، بس مرضيتش أزعّل الحصان، ركنته على جنب وقولت هتفرج وخلاص".
بالمشاهدة تتكوّن خبرة لدى المتفرجين، تنمو بداخلهم رغبات أيضًا، لا يعتبر محمود حسين نفسه فارسًا، تمنى الأمر لكنه لم ينجح، رغم ذلك مع كل مرة يُقام فيها المرماح يحضر برفقة ابنه "المرماح بالنسبة لنا متعة وترفيه، ونفسي ابني لما يكبر يحقق لي أمنيتي ويبقى فارس".
"المسلمين بيحتفلوا بعيد الفطر والأضحى لكن إحنا بنحتفل بأكتر من كدة، أي مناسبة بيحصل فيها مرماح بيبقى لينا عيد".
(عمر هشام)
لا يبدو المرماح مثل أي لعبة؛ فالأمر يتطلب جهدًا كبيرًا بالنسبة للحضور؛ الوقوف على الأقدام لمدة ساعة ونصف، وتحمل الكثير من الغبار، لكن كل شيء يصبح هينًا في سبيل المتعة الوحيدة التي ينتظرها أهل قنا من فترة لأخرى، كذلك الفرسان، رغم عدم وجود جوائز أو مكسب واضح من الأمر، تظل المشاركة في المرماح حدثًا لا غنى عنه، إذ يربطهم بجذورهم.
دسوقي حمام
50 سنة
الشبح
علاء حمام
36 سنة
الجرار
"إحنا خمس أخوات بنركب خيل بس منعرفش نروح كلنا مرة واحدة، بنقسم بعضنا عشان الباقي ياخد باله من أشغالنا، ببنخليها بالوِد ما بينا. اليوم اللي بيبقى الدور عليا فيه لازم أقول لأخويا اللي نازل معايا شوية نصايح لإني الكبير فيهم، أولها إنه يركب الحصان بالرجل اليمين عشان ربنا يحفظه".
تتحكم الطقوس في تفاصيل المرماح، كذلك مع الجمهور المتفرج؛ لكل طريقته في الاستمتاع بالمشاهدة؛ فالبعض يختار مكانًا عاليًا ليُلقي نظرة واسعة على المكان برمته، وآخرون يحبون مجاورة الفرسان وخيولهم، فيما لا تغيب بعض المشروبات عن الحدث.
"المرماح بالنسبة لنا عيلة، بنسأل على بعض ده مجاش ليه؟ مش بس إحنا لكن كمان بنسأل على خيول بعض".
(مصطفى عبدالله)
بعد ساعة ونصف من المتعة ينتهي المرماح، يكون الفرسان منهكين تمامًا، لكن نشوة المشاركة لا تزال بداخلهم، يهنئون بعضهم بنجاح التنظيم، يطمئنون على أحوالهم، يتبادلون التعليقات على أدائهم، فيما يلتقط الخيل أنفاسه على مهل، ويكون جسمه في حالة غليان "دمه بيبقى حامي وكأنه لسه بيجري"، لذا في رحلة العودة يحرص الفارس على السير بهدوء تام حتى يبرد جسده، وحين يصل إلى سكنه يُترك نهائيًا دون بذل أي مجهود "خصوصًا لو فيه مرماح تاني يوم لازم نسيبه يرتاح".
"عايش في القاهرة عشان الشغل لكن مينفعش أفوّت أي احتفالية فيها مرماح، باخد أجازة وأنزل نزل على البلد، في الشغل بقوا عارفين عن الرماحة بسببي ونفسهم يجوا معايا قنا يحضروا ويشوفوا تراثنا".
(مصطفى عبدالله)
لا يغيب المرماح عن حياة أهل الصعيد حتى مع انتهاء أيام إقامته، يقضون أيامهم في ذكره، يحكي كل منهم عن مشاركته، والخبرة التي اكتسبها، يمررون تجربتهم للأجيال الأصغر، يتصبرون بالحكايات في انتظار المناسبة المُقبلة لإحيائه، واستعادة بطولات الأجداد مع الخيول، والأهم توريثه لأبنائهم، وهي الطريقة الوحيدة بالنسبة لهم للحفاظ على تراثهم الثمين.