موسى غزة

وضعته أمه في قِدر فنجا من صبرا وشاتيلا
وردته وثيقة لفلسطين بعد 22 سنة

مجزرة كانت كفيلة بنقل مسقط رأسك وميلادك من بلدك باتجاه آخر على ضفة مقابلة في البحر، قصة حبكها القدر، بدأ تسلسلها من بيروت واستقر في تونس. سر ظل مخبأً داخل صندوق لسنوات، لكنّ القدر شاء أن ينكشف أمره بطريقة درامية أشبه بحلقات مسلسل تلفزيوني..

test

عام 2004، بأحد أحياء مدينة سوسة وداخل منزل به، عثر شاب عشريني على وثيقتين؛ الأولى تثبت هوية طفل فلسطيني الأصل استُشهد والداه في مجزرة صبرا وشاتيلا بلبنان يدعى "أيمن الديراوي"، بينما الثانية خاصة بهوية شاب تونسي يدعى "أيمن بن هادية"، لكن المفاجأة أن الصورة في الوثيقتين واحدة، كلاهما للشاب نفسه صاحب الهويتين.

في الـسادس عشر من سبتمبر عام 1982، بداخل مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان، ارتكب الاحتلال ومن عاونه من جماعات لبنانية، مجزرة بحق الأبرياء العزّل وراح ضحيتها حينها حوالي 3000 شهيد، أغلبهم من الفلسطينيين.



على مدار ثلاثة أيام، بُقرت بطون الحوامل واغتُصبت النساء وقُتل الأطفال والشيوخ بدم بارد، وشُوّهت الجثث ورُميت في الأزقة. غطت الدماء شوارع المخيمين، تناثرت جثث الضحايا في كل مكان، حتى إنّ الاحتلال حاول هدم المنازل فوق رؤوس الضحايا لطمس معالم مجزرة هي الأبشع بالتاريخ.

مجزرة صبرا وشاتيلا

test

من بين الضحايا كانت عائلة الفلسطيني عبد الرحمن الديراوي وزوجته عائشة، فيما نجا طفلهما "أيمن" صاحب الـ3 أشهر، والذي عثر عليه المنقذون الذين دخلوا المخيم عقب المجزرة، مخبأ داخل قدر من الماء بجانبه أوراقه التي تثبت هويته، ليكون الناجي الوحيد من عائلته، بعدما وضعته أمه بالقدر نائمًا خوفًا عليه من الموت.

بعدما عثر الشاب على الوثيقتين، كان الأمر بالنسبة إليه مفاجأة، أسئلة عدة كانت تجول في خاطر"أيمن"وكان لابد من الإجابة عليها، فهل هو فلسطيني، أم تونسي؟ هل مات والداه الحقيقيان، أم أنّ من عاش رفقتهما نحو 25 عامًا من عمره هما والداه؟.

test

حمل الشاب الوثيقتين وذهب إلى والده، الذي لم تجف عيناه من البكاء على شريكة عمره "سميرة" التي توفيت قبل أيام، لكنه وفور رؤية نجله وبيديه الوثيقتين، أدرك أنّ السر الذي ظل يخفيه لنحو 22 عامًا، قد انكشف للتوّ، وعليه أن يخبر صغيره بهويته الحقيقية.

بعد نحو 3 أشهر من المجزرة، تحديدًا في ديسمبر 1982، فكّر المواطن التونسي عبد القادر بن هادية وزوجته سميرة في كفالة طفل من الناجين من صبرا وشاتيلا، خاصة أن الزوجين شاء القدر ألا يُرزقا بأطفال. على الفور حجز عبد القادر تذكرتين من تونس إلى سوريا، وتوجه رفقة زوجته إلى مقر منظمة التحرير الفلسطينية والتي كانت ترعى الأطفال اليتامى حينها.

test

انتهى الزوجان من الإجراءات، وكان اللقاء الأول مع طفلهما المستقبلي "أيمن"، البالغ من العمر 6 أشهر. تسلم الزوجان الطفل والوثيقة التي تثبت هويته الحقيقية. واستمعا إلى قصة العثور عليه ونجاته من المجزرة، بعد أن وضعته أمه داخل قدر ماء في منزلهم، بينما ذُبحت هي ووالده على الأرض بجواره.

غادر عبد القادر وسميرة دمشق عائدين إلى مدينة سوسة، متخذين عهدًا أن يصبح "أيمن" ابنهما الوحيد وسيكونان العوض له بدلاً عن والديه الشيهدين، بل إن قصته ستكون سرًا لن يخبراه بها، و فور وصولهم إلى المدينة التونسية غير الوالدان البديلان هوية الطفل الفلسطينية، وانتسب لهما باعتباره مواطنًا تونسيّا، والده عبد القادر بن هادية ووالدته سميرة بن هادية.

test

كانت عينا الأب عبد القادر تنهمر بالدموع وهو يسرد لنجله "أيمن" قصته الحقيقية، فالشاب الذي عاش حياة هادئة وسط والدين غمراه بالحب لم يشعر قط أنه لم يكن ابنهما البيولوجي، أدرك منذ تلك اللحظة أنّه غريب عن هذه العائلة، لم يكن هذا السر لينكشف أمره إلا أنّ القدر شاء أن يفكر "أيمن" في إخراج ملابس والدته الراحلة كصدقة جارية عليها، وهذا ما دفعه للتفتيش في خزانة ملابسها، ليعثر حينها على الأوراق التي غيرت مجرى حياته بعدها.

كان "عبد القادر" يتوسّل لابنه بعدم تركه، فقبل أيام رحلت "سميرة" رفيقة دربه، واليوم من الممكن أن يفقد ابنه الوحيد للأبد، حالة الأب الصعبة دفعت الابن لطمأنة أبية ووعده بأنّه لن يتركه أبدًا، فهو عائلته الوحيدة ولا يعرف هوية أخرى، وظل الشاب على هذا الحال لسنوات، يُظهر لأبيه أنّه لم يعد يفكر في الأمر ولا يتحدث عنه، بينما في داخله كان يحلم ليل نهار بالوصول لعائلته الفلسطينية.

test

توفى عبد القادر بن هادية عام 2012، بعدها بنحو عامين بدأ "أيمن" رحلة البحث عن عائلته الفلسطينية، قرر الشاب حينها الذهاب إلى لبنان باعتبارها النقطة الأولى التي بدأت فيها حكايته، خرج على إحدى القنوات التلفزيونية في بيروت، سرد قصته أمام الآلاف لكن بلا فائدة، فعاد محملاً بخيبة أمل جديدة إلى تونس.

test

لم ييأس "أيمن" واستكمل في ديسمبر عام 2016، رحلة بحثه عن عائلته، لكن تلك المرة متبعًا طريقة جديدة، فخرج يقص الحكاية في فيديو على موقع التواصل الاجتماعي" فيسبوك"، وقلبه محمل بالآمال علّه يشاهده أحد من العائله، لم يكتفِ بهذا الأمر فقط، بل بدأ بالبحث عن الأشخاص الذين يحملون نفس لقب عائلته "الديراوي".

test

في نفس اللحظة علم مسؤولو منظمة التحرير الفلسطينية بحكاية الشاب بعدما انتشرت قصته بين الفلسطينيين، تواصلوا معه وسلموه هويته الفلسطينية وجواز السفر الخاص به، والذي يثبت أنه فلسطيني الأصل والجنسية، كمحاولة منهم لتعويضه عن حياته التي عاشها دون معرفة أصوله.



بعد فترة من البحث المتواصل، ظهر شعاع ضوء في الرحلة، فتوصل "أيمن" إلى عائلة تقيم في قطاع غزة، تحمل نفس لقب عائلته التي يبحث عنها، وعن طريق "فيسبوك" تمكن من التواصل مع أحد كبار العائلة، وبعدما سرد "أيمن" قصته لهذا الشخص من عائلته، تفاجأ من رده بأنه أحد أعمامه "شقيق والده".

استمر الحديث ساعات بين "أيمن" وعمه الذي قصّ عليه أنّه كان لديه شقيق يُدعى عبد الرحمن، في عام 1969 غادر غزة متجهًا إلى الأردن التي لم يمكث بها طويلًا فتوجه إلى سوريا، ومن سوريا استقر في لبنان، هناك تزوّج وأنجب طفلًا أطلق عليه اسم "أيمن"، لكنّهم علموا فيما بعد أن شقيقهم عبد الرحمن وزوجته ونجله جميعهم استُشهدوا في المجزرة.

رحلة العينة من غزة إلى تونس



المفاجأة التي سمعها "أيمن" أنّه ليس وحيدًا بل لديه شقيقة، فوالده قبل أن يغادر غزة كان متزوجًا بها، ترك زوجته وهي حامل في بنت، وبعد سنوات كبرت الفتاة وتزوجت وأنجبت أبناءً وتقيم حاليًا هي الأخرى في قطاع غزة. تأكد "أيمن" أن لديه عائلة؛ شقيقة و أعمامًا وعمات، لكن لا بد من التأكد بشكل أكثر دقة، هنا طرأت على الشاب فكرة وهي إجراء تحليل الـDNA، لكن كيف سيحصل على عينة من شقيقته في ظل المسافات البعيدة بينهما.

الحل كان لدى فتاة فلسطينية شابة كانت تتابع قصة"أيمن" ومهتمة بتفاصيلها، فتطوعت الفتاة للذهاب إلى شقيقته وأقنعتها بالحصول على عينة منها "ظافر وخصلات شعر"، لإرسالها إلى شقيقها في تونس من أجل إجراء التحليل، خرجت العينة عن طريق أحد أقارب الفتاة من غزة عبر مصر إلى السعودية، وفي الرياض استلمها أحد معارف "أيمن" الذي بدوره سلمها إليه في مدينة سوسة بتونس.

test

الإجراءات الصعبة في تونس حالت دون إجراء التحليل حتى الآن، لكن أيمن يبحث عن فرصة للسفر إلى دولة عربية أخرى تتيح له إجراء التحليل، لكن ظروف الحرب على غزة قطعت التواصل بين الشاب وعائلته من جديد. علم في أيام الحرب الأولى أن "عمته" استُشهدت رفقة عائلتها "الأبناء والأحفاد"، بينما اليوم، لا يعرف مصير شقيقته وما تبقى من عائلته، من بينهم عمه الذي كان يتواصل معه بين الحين والآخر.

يعيش أيمن الديراوي حاليًا في مدينة سوسة التونسية رفقة عائلته الصغيرة، فهو متزوج وأب لثلاث بنات، يحاول الوصول إلى الجزء الآخر من عائلته لأمه والتي لا يعلم شيئًا عن لقبها إلى اليوم، وهل هي لبنانية أم فلسطينية، فالوثائق لم تذكر سوى اسمها فقط "عائشة"، حاول معرفة العائلة عن طريق السلطات الفلسطينية، لكنّ لم يجد إجابة لديهم.

test

توصل أيمن الديراوي إلى عائلته بعد سنوات من البحث، لكنه لم يعد يعرف مصيرهم بسبب الحرب وفقد التواصل معهم، يُراوده العديد من الأسئلة ليل نهار، هل هم ما زالوا على قيد الحياة؟ أم أنّ الرصاصات التي غدرت قبل سنوات بوالديه في صبرا وشاتيلا، طالت اليوم ما تبقى من عائلته في قطاع غزة؟ ـ ليذوق الفتى مرار ألم وفقد جديد عاشه قبل سنوات في عمر الـ3 أشهر، وفي المرتين كان الجاني واحدًا.

يسعى "أيمن" ليثبت تلك الرحلة بل وتوثيقها بالسجلات الرسمية عن طريق فحص DNA الذي يخطط لزيارة مصر وإجرائه، وحتى إنجاز هذا الأمر لا تزال في الحكاية بقية...