في منتصف يونيو 2020، تحامل "غانم" على نفسه، وخرج من غرفة نومه مستندًا على الجدران، حتى وصل بخطوات ثقيلة إلى منتصف غرفة المعيشة، ثم سقط ميتًا.
قبل أسبوع واحد من ذلك المشهد، ظهر على "غانم" أعراض فيروس كورونا وفقًا لنجله، الذي يعمل إداريًا بأحد المستشفيات الحكومية، لكن الأب رفض كل العروض لإجراء الفحوصات الطبية، رغم أنها كانت في المتناول.
"والدي رجل خمسيني ومريض قلب في الأساس، لكنه كان يرفض تمامًا فكرة أنه يمكن أن يكون مصابًا بكورونا"، يقول الإبن الذي رفض ذكر إسمه.
تصاعدت الأعراض تدريجيًا، وأصبح غانم يعاني من آلام في الصدر وصعوبة في التنفس، لكنه كان يتناول جرعات أدويته المعتادة، على اعتبار أنها أعراض عادية تداهمه كل فترة بسبب علة قلبه المزود بدعامات طبية ثم تزول.
لكنها هذه المرة لم تكن كذلك، مات الأب بعد توقف في عضلة القلب، وجرت مراسم الغسل والجنازة والعزاء عادية، دون الأخذ في الاعتبار أن سبب الوفاة قد يكون فيروس كورونا، الذي أخذ ينتشر بين أفراد العائلة ومقدمو العزاء بعدها بأيام.
تعد القصة السابقة، السيناريو الأكثر شيوعًا ضمن ثلاثة سيناريوهات رصدها "مصراوي" لسقوط المتأثرين بكورونا من أعداد الإصابات والوفيات بسبب الفيروس.
في هذه القصة المدفوعة بالبيانات، نكشف كيف تغيرت خريطة وفيات مصر في 2020 بفعل كورونا، وكيف استهدف كوفيد 19 ضحاياه من أصحاب الأمراض المزمنة؟ والعلاقة الطردية بين ذروة كورونا وزيادة وفيات أصحاب أمراض الجهاز التنفسي، عبر تحليل الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة، والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
أعلى زيادة في 6 سنوات
في أواخر ديسمبر 2021، أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء نشرة الوفيات السنوية، التي كشفت عن تسجيل 664 ألفا و 763 حالة وفاة في مصر عام 2020، بنسبة زيادة 17% عن العام السابق، وهو أعلى معدل زيادة للوفيات على مدار الستة سنوات السابقة، الذي كان يتراوح بين (- 3: 8% فقط)، بمتوسط زيادة 1% كل عام.
من بينهم 558 ألف و 45 حالة وفاة، منذ تسجيل أول حالة وفاة بكورونا في مصر أي من مارس وحتى ديسمبر 2020، منهم 7 آلاف و 631 حالة وفاة فقط بسبب فيروس كورونا في مصر، و 69 ألفًا و 434 حالة وفاة بسبب أمراض الجهاز التنفسي بشكل عام.
أي أن الوفيات المسجلة بسبب فيروس كورونا لا تتعدى 1.4% من إجمالي وفيات مصر، منذ مارس وحتى ديسمبر 2020، في حين أن الوفيات بسبب أمراض في الجهاز التنفسي بلغت نحو 12% من وفيات الـ 9 أشهر سالفة الذكر.
قبل صدور نشرة الوفيات بثلاثة أشهر، ظهرت وزيرة الصحة هالة زايد - الحاصلة على إجازة مرضية في الوقت الحالي- في أحد البرامج التلفزيونية، تؤكد أن ما يتم تسجيله من إصابات ووفيات مرضى كورونا، لا يتعدى الـ 10% من الأعداد الفعلية، بسبب أن مصر لا تعتمد سياسة إجراء الاختبارات بشكل عشوائي، ولا تجري اختبارات كورونا سوى للمسافرين أو القادمين من السفر - في ذلك الوقت - بالإضافة إلى من تظهر إليهم الأعراض ويتوجهون للمعامل أو المستشفيات.
شهدت مصر 5 فترات لذروة فيروس كورونا، منهم فترتين في 2020، الأولى بدأت في يونيو وانتهت في يوليو، والثانية بدأت في ديسمبر وانتهت في يناير 2021، وقد انعكس ذلك على وفيات مصر رقميًا، حيث سجلت مصر 31% من الوفيات في 2020، في يونيو ويوليو وديسمبر، أي في شهور ذروة كورونا.
السيناريو الثاني
كانت الأحداث في منزل "محمود" تسير بوتيرة متسارعة إلى حد كبير، في يوليو 2020، يومان فقط منذ أن ظهرت أعراض كورونا على والده "رضوان" حتى وفاته، نجح في اليوم الأخير منهم أن يجري اختبار Pcr صباحًا، وتوفي في المساء قبل أن تظهر النتيجة، في عمر الثانية والستين، وهو يعادل متوسط أعمار وفيات كورونا، وفقًا لمستشار وزيرة الصحة الدكتور شريف وديع في يونيو 2020، الذي حدده بـ 61.45 سنة.
جاء السبب في شهادة الوفاة كالتالي "إلتهاب رئوي حاد"، وبعد أسبوعين تلقى "محمود" إتصالًا من المستشفى "والدك إيجابي كورونا.. يمكنك إحضاره إلى المستشفى".
يعد الالتهاب الرئوي، أحد أهم أسباب الوفاة في مصر، بأمراض الجهاز التنفسي، ووفقًا لتحليل البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تأتي أمراض الجهاز التنفسي في المركز الثاني لأسباب الوفاة في مصر عام 2020، بنسبة 12% من الوفيات، بعد أمراض الجهاز الدوري التي تتسبب في أكثر من نصف حالات الوفاة، والتي تتضمن تشخصيات مثل الهبوط في الدورة الدموية، والجلطات، وتوقف عضلة القلب.
أعلى نسبة منذ سنوات..
تعد تلك النسبة هي أعلى نسبة للوفيات بسبب أمراض الجهاز التنفسي منذ 7 سنوات، والتي كانت تتراوح بين الـ 7 والـ 9% على مدار الستة سنوات السابقة.
وأعلى معدل زيادة سنوي أيضًا، بنحو 3% عن العام السابق، في الوقت الذي كان فيه متوسط الزيادة على مدار الـ 6 سنوات الماضية ثابت تقريبًا، أو لا يتعدى الـ 1%، أي أن 2020 سجلت ضعف معدل الزيادة السنوي للوفيات بسبب أمراض الجهاز التنفسي.
علاقة طردية
ولكن هل يمكن أن تكون لكورونا يد في هذه الزيادة، قررنا أن نجيب على هذا السؤال بالأرقام أولًا، عبر حساب معامل الارتباط، بين وفيات مرضى كورونا المسجلة رسميًا، ووفيات مرضى الجهاز التنفسي، والوفيات العامة، على مدار شهور الجائحة في 2020.
وكانت النتيجة أن هناك علاقة طردية بين زيادة وفيات كورونا، والوفاة نتيجة أمراض الجهاز التنفسي، والوفيات العامة، تحديدًا في شهور الذروة.
أي كلما بلغت أعداد وفيات كورونا ذروتها، بلغت الوفيات بسبب أمراض الجهاز التنفسي بشكل عام ذروتها أيضًا، وكذلك قوائم الوفيات العامة، تحديدًا في يونيو وديسمبر.
حيث أنه مع وصول نسبة وفيات كورونا في يونيو ويوليو إلى 50% من أعداد وفيات كورونا في مصر خلال شهور الجائحة في 2020، وصلت نسبة الوفيات العامة إلى أعلى معدلاتها خلال الشهرين نفسهم بنسبة 25% من إجمالي الوفيات خلال شهور الجائحة، ووصلت وفيات الجهاز التنفسي إلى ذروتها حيث وصلت نسبة الوفيات بأمراض الجهاز التنفسي إلى 29%، أي ثلث وفيات الجهاز التنفسي في شهور الجائحة.
ومع بداية الذروة الثانية، في ديسمبر 2020، وصلت نسبة وفيات كورونا إلى 13% في ثالث أعلى نسبة بعد يونيو ويوليو، وبالمثل زادت نسبة الوفيات العامة إلى 12%، في ثاني أعلى نسبة، ونسبة وفيات الجهاز التنفسي إلى 16% في ثاني أعلى نسبة أيضًا.
وهو الأمر الذي انعكس على حجم مؤشر أسباب الوفاة على مدار الشهور، كما هو موضح في التسلسل الزمني التالي:
السيناريو الثالث
كان هذا هو السيناريو الأغرب، توجه "محمد نصار" بوالده البالغ من العمر 60 عامًا نحو مستشفى أبو الريش الجديدة لمتابعة حالته الصحية مع طبيبه المعالج من سرطان الدم، الذي ظل يعاني منه لسنوات، اشترطت إدارة المستشفى عليه قبل الدخول إجراء أشعة على الرئة للتأكد من أنه غير مصاب بفيروس كورونا قبل السماح له بالدخول.
أثبتت الأشعة أن الأب "نصار" مصابًا بالتهاب رئوي حاد، فقرر طاقم المستشفى إجراء مسحة له، وخرجت نتيجة الـ PCR إيجابية، فتم احتجازه بقسم العزل على الفور، وهناك وبعد نصف ساعة، لفظ أنفاسه الأخيرة.
كانت الأحداث سريعة بقدر ما اختزلت في عدد من الكلمات، ساعتين فقط من الوصول إلى المستشفى إلى بلوغ النفس الأخير، حصل خلالها "محمد" على مسحة كورونا إيجابية لوالده، وبعدها حصل على شهادة وفاة سببها الرسمي "توقف عضلة القلب"، ولم تُذكر كورونا من قريب أو من بعيد، رغم إيجابية المسحة الرسمية، أو حتى الالتهاب الرئوي الحاد.
يقول الدكتور أمجد الحداد، رئيس قسم الحساسية والمناعة بهيئة المصل واللقاح، أن توقف عضلة القلب، والجلطات، هي من أمراض الجهاز الدوري.
وهي من أبرز المضاعفات التي تحدث نتيجة فيروس كورونا إلى جانب فشل الجهاز التنفسي، كذلك هي أبرز أسباب الوفيات شيوعًا في شهادات الميلاد، وفقًا للحداد.
وهو ما يتفق مع نتائج تحليل بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، حيث أنه وصلت أمراض الجهاز التنفسي والجهاز الدوري إلى أعلى معدلاتها في شهور الذروة، تحديدا في يونيو ويوليو وديسمبر، حيث جاء 30% من الوفيات بسبب أمراض الجهاز الدوري في الأشهر الثلاثة المذكورة أعلاه، وكذلك نحو 39% من وفيات الجهاز التنفسي.
لم ينكر المتحدث بإسم وزارة الصحة، الدكتور حسام عبدالغفار علاقة كورونا بزيادة أعداد وفيات 2020 في العموم.
لكنه رفض التعليق على أسباب الوفاة المذكورة في تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، قائلًا "الوفاة بأمراض الجهاز التنفسي سبب عام جدًا، ولا يخرج من وزارة الصحة، لا أعرف على ماذا استند الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لإخراج تلك الدراسة، لذا لا يمكنني التعليق عليها".
في المقابل أكد طاهر صالح، رئيس قطاع الإحصاءات السكانية بالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في رد مقتضب على هذا التعليق "أسباب الوفيات تأتينا بهذا الشكل من وزارة الصحة، ولا تأتي لنا تفصيلية".
أضاف المتحدث بإسم وزارة الصحة، أنه "في شهادات الوفاة، تكتب وزارة الصحة سبب الإصابة تحديدًا بشكل دقيق"، في المقابل قال أستاذ الإحصاء الحيوي والسكاني، الدكتور محمد حداد "دعونا نعترف أن أسباب الوفاة التي ترِد في الشهادات في مصر لا تكون دقيقة إلى حد كبير".
مؤكدًا، على ما قاله رئيس قطاع الإحصاءات السكانية بالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو أن مصدر بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الوحيد هو وزارة الصحة المصرية، وأن البيانات تُنقل عنها كما هي.
وعلى الرغم من أن المتحدث بإسم وزارة الصحة الدكتور حسام عبدالغفار، رفض التعليق على تصريح وزارة الصحة هالة زايد - الحاصلة على إجازة مرضية - منذ شهور، بأن ما يعلن من إصابات ووفيات كورونا لا يتعدى الـ 10% من الأعداد الفعلية.
إلا أنه لم ينفي وجود علاقة بين شهور ذروة كورونا وأعداد الوفيات نتيجة أمراض الجهاز التنفسي، قائلًا: "بالنسبة للعلاقة بين الوفيات وشهور الذروة، وزيادة الإصابات بأمراض الجهاز التنفسي، يمكن أن يكون ذلك له علاقة بكورونا، ويمكن أيضًا أن يكون له علاقة بالإصابة بالإنفلونزا التي رصدنا زيادتها خلال نفس التوقيت".
وعلى الرغم من أن "غانم ورضوان ونصار" شخصيات توفيت في سيناريوهات حقيقية، حدثت بالفعل، أكد المتحدث بإسم وزارة الصحة "أن كل من يثبت وفاته بسبب إصابته بكورونا، يتم تسجيله في شهادة الوفاة بهذا السبب، وفقا للمنهجية التي اعتمدها العالم أجمع، وهي المسحات أو اختبارات PCR".