قبل 6 قرون.. صفوف من العمال بثياب مهلهلة ملأت ساحة منطقة صحراء المماليك بالقاهرة، تلك المنطقة المختارة في الزمن المملوكي لتشييد مقابر وقباب الحكام وصفوة القوم. انصب العرق من جبينهم، أرهقهم العمل المستمر على قدم وساق للانتهاء من بناء مسجد ومدرسة وسبيل وكُتاب ومقعد السلطان ورَبع. قد يتعرض بعضهم لإصابات، فصاروا يتوقون إلى وقت راحة، لكن الأمر ليس سهلا. فهذا العمل بقرار السلطان الأشرف قايبتباي نفسه، ذلك السلطان القوي الذي كان مولعًا بالبناء؛ ولعل الدليل الأكبر هو قلعته بالإسكندرية.
يمر الزمن، يتكرر المشهد بصورة مختلفة، يملأ العمال ساحة قايتباي من جديد. لم يشرف عليهم رجل ذو شارب أو مرتديًا عمه على رأسه إنما سيدة بملامح أجنبية، شعر رمادي وعيون زرقاء. أرادت أن تعيد للمنطقة ملامحها التي أخفتها سنوات طويلة أُهملت فيها، وتُحقق حلم السلطان.
على طريق صلاح سالم الشهير، يمر الآلاف كل يوم بجانب المنطقة المعروفة الآن باسم "الجبانة" أو "مدينة الموتى" التي وصفها المستشرق الألماني إرنست كونل بأنها "أروع مدينة أموات في العالم".. لا يدري أغلبهم شيئًا عن تاريخها وناسها من أحياء وأموات أو أن المسجد الذي يتوسطها ويعلوها مأذنته هو نفسه المرسوم على الجنيه المصري.