31 يوليو 2019
رسالة إلكترونية أحيت القصة من جديد..
كانت من البروفيسور جون تشيروب، أخبرني فيها أن بولفارستا ليست قلعة، بينما هي قبو تخزين بارود بأحد حصون مالطا، دون ذكر المزيد من التفاصيل.
وإذ بي أرد عليه بسيل من الأسئلة: "أين هو الحصن، وما اسمه وكيف يستخدم الآن، وهل لديك صور له، أو شواهد تفيد بأن سعد زغلول ورفاقه كانوا هناك؟".
طلبت منه تحديد موعد مقابلة إلكترونية، لمعرفة المزيد حول القصة. وعدني بالاستجابة، ثم اختفى!
جاءت رسالة البروفيسور جون، نتيجة لمراسلتي لجميع أساتذة قسم التاريخ بجامعة مالطا، في السابق، والذين بدأوا يردون واحدًا تلو الآخر، بالنفي تارة، وبالمعرفة غير الموثقة تارة أخرى.
كان من بينهم الدكتور سيمون مرسيكو، الذي كتب لي...
بوابة فيردالا
بدأت قصة مدرسة فيردالا الثانوية منذ زمن بعيد، تحديدًا في ديسمبر 1638، حيث بداية تشييد خطوط مارجريتا الدفاعية، استغرق بناؤها 98 عامًا، وكانت فيردالا هي أقدم بوابة لها.
في عام 1853، وبعد أن أصبحت مالطا مستعمرة بريطانية، قرر البريطانيون بناء ثكنات فيردالا، وقلعة ومستودعات، ومخازن مياه، ومعتقل سانت كلايمت، الذي بنيت على أرضه المدرسة.
فيردالا وما حولها
لم يقدم الدكتور سيمون أي شواهد تؤكد قضاء سعد زغلول فترة النفي داخل المدرسة - معتقل سانت كلايمت سابقًا - فكان علي مراسلة إدارة المدرسة للتحقق من الأمر.
6 أغسطس 2019
كان هذا تاريخ أول رسالة وصلتني من الأستاذ جوزيف إلول، مدير مدرسة سانت مارجريت، فيردالا الثانوية..
16 أغسطس 2019
راسلت الأرشيف الوطني على الفور، وجاءني الرد بعد 10 أيام، في منتصف أغسطس..
وقتها، تذكرت وصف سعد زغلول للمبنى المكون من ثلاثة طوابق على هيئة قشلاق، والموقع من حوله حينما سمح له بالتنزه.
خرجنا للنزهة أمس في عربات، ولكن مناظر الجهة التي كنا نتنزه فيها ظهرت لنا بمظهر موحش! وخيلت لنا، كثرة ما بها من الأحجار المسورة بها الغيطان، وما يشتملها من المباني، أنها كالغابة. فعزمنا ألا نعود مرة أخرى إليها، وفضلنا البقاء في مساكننا على التنزه فيها مرة أخرى.
من مذكرات سعد زغلول
قبل مائة عام من الآن، وفي الوقت الذي اندلعت فيه ثورة 1919 في مصر بعد نفي سعد زغلول، اندلعت انتفاضة "سيت جوجينو" الذي لعب فيها أتباع الزعيم المالطي "مانويل ديميش" المنفيون في مصر دورًا قويًا، كان هو أيضًا منفيًا في مصر، وانتقل بين سجون ومعسكرات الاعتقال المختلفة، من بينها مستشفى الأمراض العقلية، في ظروف إنسانية قاسية، وفي الوقت الذي نجحت فيه المطالب بإنهاء نفي سعد زغلول، وعودته إلى مصر، مات ديميش في منفاه بمفرده، وتحول إلى بطل قومي.
الأمر الذي أثار اهتمام البروفيسور جون، وجعله يهتم بأمر سعد زغلول، ويخصص له جزءًا كبيرًا من بحثه حول الأحزاب والحركات القومية المناهضة للاستعمار البريطاني في إقليم البحر المتوسط.
أثناء الحرب العالمية الأولى، تحولت مالطا - المستعمرة البريطانية - إلى حصن استراتيجي، وأصبحت الجزيرة الصغيرة سجنًا كبيرًا مخصصًا لكل من جاهر بعدائه لبريطانيا العظمى، ومنفى للمبعدين عن بلادهم.
وفي أغسطس 1914، صدرت أوامر بالقبض على جميع الأجانب - بما في ذلك أطقم السفن التي تم ضبطها - واحتجازهم، تسلمت مالطا 1651 منهم في نوفمبر 1914، من بينهم سياسيون ومثقفون.. وشخصيات مقلقة معادية لبريطانيا.
كان البسطاء من المعتقلين يتمركزون في مخيمات في حصني "فيردالا" و"سلفاتورا"، أما "بولفارستا" والتي كانت في البداية مستودعًا للبارود يجاور ثكنات الجنود البريطانيين.
كان من المخطط أن تتحول إلى معتقل للسجينات والأطفال، ومع تزايد عدد الأسرى من الجنود، والشخصيات البارزة من الأجانب، انحرف ذلك الهدف.
تحولت بولفارستا إلى معسكر اعتقال كامل، يضم كبار الأسرى، مساحات ضيقة جدًا، غرف صغيرة تتسلل إليها خيوط الشمس الرفيعة من بين قضبان معدنية تدعى شبابيك، ومساحة أكثر ضيقًا للترفيه والتريض.
باردة جدًا في الشتاء، وحارة للغاية في شهور فصل الصيف، تحيطها الأسوار والأسلاك الشائكة، ويلتف حولها المدافع والجنود من كل اتجاه.. الجميع يخضع لرقابة صارمة.. هكذا تحكي مخطوطات الأسرى القدامى، التي بقيت بعد قرن من الزمن.
الآن "بولفارستا" جزء من حصون "كوتونيرا"، أو مارجريتا سابقًا، التي تقع في كوسبيكو، وهي جزء من التراث التاريخي الاستعماري في مالطا، وتم إغلاقها بشكل نهائي في عام 1920.. يقول الدكتور جون. كما حصل على صور لـ"بولفارستا" وسعد زغلول في مالطا، من مجموعة "Toni Camilleri" المملوكة للأرشيف الوطني في مالطا.
29 أغسطس 2019
وفي اليوم التالي، فاجأني جامبين كينيث، مسؤول الهيئة الوطنية للمتاحف والتراث في مالطا - ولم أكن قد راسلته من قبل - يؤكد لي المعلومات السابقة أيضًا.
تجول حول بولفارستا!
بدأت تدور الأفكار في رأسي، عدت أطلب من البروفيسور جون من جديد ما يؤكد معلوماته، لكن حل اللغز كان عند سعد نفسه.
12 إبريل 1919
زرنا المصريين الذين في الكامبات الأخرى، فاستقبلونا أحسن استقبال.
وحضر الضابط، وبلغنا بأنه: ورد تلغراف من مصر لسفركم إلى لوندرة، مع ثمانية عشر مصريًا معكم، وزاد عليهم دوماني، وبدر وويصا واصف والأفوكاتو عزيز منسي.
وأن الباخرة قامت من بورسعيد أمس وتصل هنا يوم الاثنين صباحًا.
من مذكرات سعد زغلول
كان التاريخ نفسه هو المدون على صور سعد زغلول في "سانت كلايمت" الموثقة في ألبوم سالتر، وكان سعد زغلول في زيارة إلى الأسرى المصريين البسطاء هناك قبل المغادرة، بحسب ما جاء في مذكراته.
25 سبتمبر 2019
أبت القصة أن تنتهي..
سيدة تدعى مارلين بيرينجر، تحادثني على حسابي الشخصي على "فيسبوك" بعد أن علمت عن رحلة بحثي عن مكان نفي سعد زغلول في مالطا.
كانت هي ابنة جورج سالتر، الجندي الإنجليزي الذي كان مسؤولًا عن إدارة حسابات الأسرى في معتقلات الحرب العالمية الأولى بمالطا، والذي جمع صورتهم وتوقيعاتهم، وحولها الأرشيف الوطني بمالطا إلى مرجع تاريخي، عام 2014، في مئوية الحرب العالمية الأولى.
جمع ألبوم سالتر، شواهد وجود سعد زغلول في مالطا، وصلاة حمد الباسل بالمسلمين في بولفارستا.
كان يؤمن سالتر أنه يعيش بفترة استثنائية من التاريخ، وأراد أن يتذكرها في الأوقات المقبلة، فحرصت "مارلين"، التي تعيش في كندا على رواية قصته.
2 ديسمبر 2019
وفي مطلع ديسمبر نجحت في ترتيب زيارة أخرى إلى مالطا، اصطحبني خلالها البروفيسور جون إلى بولفارستا - موقع نفي سعد زغلول ورفاقه، واصطحبتني ريتا في زيارة إلى مدرسة سانت مارجريت الثانوية بفيردالا - معتقل سانت كلايمت سابقًا.
التقيت هناك، بخلود - طالبة مصرية الجنسية - لم تكن تعلم مثل غيرها بنفي سعد زغلول منذ زمن بعيد، بقربها.
وأخيرًا، زرت الأرشيف الوطني بمالطا.. طالعت ألبوم سالتر، الذي وثقت صفحاته، كل ما توصلت إليه في المراسلات السابقة، بولفارستا، زيارة سعد زغلول لسانت كلايمت، توقيعه وتوقيعات من كانوا معه بخط أيديهم.. خاتمة مناسبة لقصة استمرت قرابة نصف العام انتهت بخط سطر جديد في التاريخ، عبارة ولو صغيرة مكملة لسيرة رجل نسعى بعد مائة عام من ثورة قادها، لاقتفاء أثره والعثور على منفاه.
الزيارة الثانية
أبطال الرحلة