الموت أقرب من الخبز

رحلة البحث عن كيس طحين بشمال غزة

على مدار 5 أشهر، وبالرغم من الدمار الكبير الذي لحق بمخيم جباليا شمال قطاع غزة لكنّ "جمال سلام" لم تراوده فكرة الخروج والنزوح إلى الجنوب، أسوة بالكثير من أبناء حارته وأقاربه الذين قرروا النجاة، لم يهب المواطن الأربعيني دبابات الاحتلال التي كانت تتوغل بمدينته ولا من طائراته التي كانت تقصفهم ليل نهار، لكن الخوف تملك قلبه وهو يشاهد أبناءه يطاردهم الموت جوعًا.

مع أول ضوء نهار يخرج "جمال" من مخيمه نحو وجهة واحدة كغيره من الآلاف من أبناء الشمال، الذين يتوافدون نحو حاجز خصصه الاحتلال لشاحنات المساعدات التي تحمل أكياس الطحين، يخاطرون بحياتهم من أجل الحصول على كيس لأبنائهم، "جمال" يدرك جيدًا أنه يمكن أن يذهب بلا عودة لكنّه يحاول فبالنسبة إليه المخاطرة أهون بكثير من ألم الجوع.

رحلة البحث عن كيس طحين في شمال غزة باتت أشبه بمهمة انتحارية، فإما أن تنجو بحفنة لسد جوع صغارك، أو العودة جثة هامدة على نفس العربة التي جاءت تحمل الطحين. مشهدٌ يتكرر بشكل يومي في شمال القطاع المحاصر لنحو 5 أشهر من الحرب، يعاني أهله من مجاعة رحل بسببها البعض، وآخرون في انتظار الرحيل، صعوبة الحصول على كيس طحين دفعت الآلاف مجبرين لاستخدام بدائل قد تصيبهم بأمراض قاتلة.

نحو 750 ألف مواطن في شمال غزة يواجهون الموت جوعًا بسبب الحصار الشديد الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي ومنع تدفق المساعدات نحو الشمال منذ السابع من أكتوبر، أسوة بالمساعدات التي تصل إلى المناطق الجنوبية والوسطى، الآلاف من مواطني الشمال الذين آثروا البقاء بمنازلهم رافضين النزوح للجنوب يعيشون بـ"مجاعة".


قبل نحو شهر بدأ الاحتلال يسمح بدخول شاحنة دقيق أو أكثر بقليل إلى الشمال، لكن تلك الشاحنات وهي بطريقها إلى شمال القطاع يتم سرقتها من قبل العصابات، لتصل بالنهاية بنصف محتواها، الشاحنة التي تصل بدورها إلى حواجز أقامها الاحتلال، على طريق صلاح الدين بشارع الزيتون أو شارع الرشيد، يتجمع أمامها الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، والناجي يمكن أن يحصل على كيس طحين واحد.

الطريق من مخيم جباليا الذي يعيش فيه "جمال" إلى حاجز الرشيد ليس أمانًا، أيضًا فيمكن أن تستهدفه رصاصة قناص إسرائيلي، لكن لا بديل سواه أمامه، يبدأ رحلته بعد منتصف الليل يسير بالطريق يحمل بداخله أملا في العودة بكيس طحين، خاصة وأنه حتى اللحظة لم يحصل ولو على "حفنة" قليلة من الطحين، فقبل أيام دخلت شاحنة لكن المئات تدافعوا عليها حتى إنّ بعضهم كان يسقط أرضًا تحت أقدام الآخرين.



لم ييأس "جمال"، ومنذ نحو يومين قرر الذهاب والمخاطرة مرة ثانية، لكن الاحتلال تلك المرة هو من منعهم من الوصول وأطلقت إحدى دباباته النار عليهم، فعاد محملًا بخيبة أمل إلى أبنائه الـ5 الذين يمنون أنفسهم أن يعود أبيهم إليهم بحفنة صغيرة من الطحين، تعوضهم عن علف المواشي الذي يتناولونه لسد جوعهم.

مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في بيان له، قال إن ربع سكان غزة على بعد خطوة واحدة من المجاعة، محذرا من أن مثل هذه الكارثة ستكون "شبه حتمية" إذا لم يحدث تحرك، خاصة أن وكالة الإغاثة تواجه "عقبات هائلة"، بما في ذلك القيود المفروضة على الحركة وإغلاق المعابر ومنع الدخول وإجراءات التدقيق المرهقة.

الاحتلال الإسرائيلي زعم أن السبب الرئيسي وراء الفشل في إدخال المساعدات الكافية إلى شمال غزة، لتلبية الاحتياجات الإنسانية يرجع إلى فشل الأمم المتحدة في التوزيع، في ظل تجمهر الآلاف من المواطنين حول الشاحنة التي تدخل للحصول على كيس طحين.

بعض من أصدقاء"جمال" يحذرونه من المخاطرة والذهاب للحصول على كيس طحين عبر قوافل المساعدات التي تدخل للحاجز، لكن الأب الذي لا يمتلك مالًا لشراء ما يسد جوع صغاره نظرًا للارتفاع الكبير الذي طال أسعار بعض المواد الغذائية المتوفرة بالشمال ، حتى بدائل الطحين ارتفع سعرها هي الأخرى، لا خيارات أمامه سوى الذهاب ولو كلفه الأمر حياته.

الحصول على كيس طحين لم تعد مهمة سهلة أمام ميسوري الحال أيضًا، فمحمود أبو مصعب المواطن الذي يعيش بمدينة غزة، لم يحصل على أي كيس طحين حتى الآن له ولأفراد عائلته المكونة من 6 أشخاص، ففي بداية الحرب قرر شراء كيس لأطفاله بلغ حينها نحو 500 شيكل أي ما يعادل "150" دولار تقريبا، واليوم دفع ثمن نحو 5 كجم طحين، وذلك من أجل صغاره لتلبية احتياجاتهم خلال شهر رمضان، الكيلو اليوم الذي دفع ثمنه "محمود" بلغ نحو 160 شيكل أي نحو "40 دولارًا" تقريبا.

الـ5 كجم لا يمكن أن تكفي احتياجات العائلة سوى نحو أسبوع واحد فقط، لذا يلجأ البعض لخلطه بالذرة أو حتى بأمور أخرى، لكن للأسف يصبح سيئا لذا يحاول محمود حسب قوله تأمين كيس من الطحين يبلغ نحو ما بين 20 إلى 25 كجم ويمكن أن يتجاوز الـ 2500 شيكل أي نحو 500 دولار، من أجل أن يتناول أبناؤه في رمضان طعامًا ولو بسيطًا.

التجار أيضًا استغلوا الحرب وباتوا يتاجرون في معاناة المواطنين وظروفهم، والذي لا يمتلك الأموال يمكن أن يعيش على مساعدة بسيطة وخفيفة لا تذكر يمكن أن يحصل عليها من مركز إيواء. خاصة وأنه لا بدائل اليوم أمامهم حتى بديل الطحين فقدوها، علف الحيوانات الذي بات يستخدم للطحن في السابق كان الـ3 كيلو منه بـ5 شيكل اليوم أصبح بنحو 20 و10 دولارات أو أكثر أي نحو 65 شيكل في ظل الظروف الصعبة، حسب "محمود".



اليوم بات الناس يلجؤون أيضًا للنشا في السابق كان الكيلو منها ب5 شيكل بالرغم من أن الكيلو منها اليوم بنحو 35 -40 شيكل لكن يتم استخدامه للمهلبية لسد جوعهم، الرز كان 6 شيكل اليوم بات بنحو 70 شيكل بل ولم يعد موجودا والسكر أيضًا لم يعد موجودا .

لؤي المدهون مفوض عام وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة، تحدث عن أن الشمال حاليا يعاني من غلاء فاحش في الأسعار، وذلك لعدم وجود رقابة إضافة إلى انعدام توفر المواد الغذائية وهذا يعد سببا رئيسيّا للاحتكار والاستغلال، فلا حكومة ولا جهات رسمية قادرة على العمل بمنطقة الشمال نتيجة حصار الاحتلال، والذي يعيق تدفق وصول المساعدات والبضائع للمواطنين.



سعر كيلو الطحين الفاخر قبل الحرب كان ثمنه فقط ٣ شيكل اليوم تجاوز الـ150، ولم يعد بمقدور أي من مواطني الشمال شراء المواد الأساسية، ولا حتى المواد البديلة والتي فاقت أسعارها حدود الجميع، حتى إن المخازن الحكومية لم يعد يتوفر فيها أي سلع أساسية أو بديلة لتوفيرها للمواطنين، حسب مفوض عام وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة لؤي المدهون.



عائلة محمود بأكملها قررت النزوح للجنوب في بداية الحرب هربًا من القصف الشديد والدمار الذي لحق بالشمال، لكنّهم اليوم يعانون أيضًا بالجنوب فالحياة داخل خيمة ليست سهلة، بل إنهم يتمنون اليوم، العودة مرة ثانية إلى منازلهم بالشمال ولو سيعيشون على أنقاضها، فالظروف بالجنوب صعبة هي الأخرى.

في الأيام الماضية خرج بعضًا من الأهالي بالشمال عن طريق شارع الرشيد إلى المحافظة الوسطى والمناطق الجنوبية، للحصول على طعام لأبنائهم لكنهم عادوا خاويّ الأيدي.

وفقًا لمفوض عام وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة لؤي المدهون، فإن هدف الاحتلال الإسرائيلي من الحصار ومنع وصول المساعدات إلى سكان شمال القطاع، هو الضغط عليهم بكافة الطرق للنزوح إلى الجنوب طوعًا، في بداية الحرب ضغط عليهم عبر القصف العنيف لكن لم ينزح الجميع وقرروا البقاء والموت بمنازلهم، فشلت خطته الأولى فلجأ للثانية وهي قتلهم بمنع الطعام عنهم و إبادتهم جوعًا.



زكريا اليعقوبي حاله مثل الكثيرين من أبناء الشمال، فالشاب رفض الخروج من منزله بمدينة غزة شمال القطاع والذهاب نحو الجنوب، خاصة وأنه يعمل موظفًا بمستشفى الصحابة بالمدينة، عمله بالمستشفى دفعه لمتابعة الحالة التي وصل إليها المواطنون بالشمال جراء الجوع، من كان وزنه 100 كجم بات اليوم 50 كجم نتيجة قلة الطعام.

الحصول على كيس طحين بالنسبة لـ"زكريا" من الأمور المستحيلة حاليا فالشاب لن يغامر بالذهاب إلى المنطقة التي حددها الاحتلال الإسرائيلي لمواطني الشمال من أجل الحصول على الطحين، فالوصول للحاجز بشارع الرشيد وسط الآلاف، وانتظار شاحنة طحين ثم محاولة الصعود عليها لامتلاك كمية ولو قليلة، يعني مهمة خطيرة قد تدفعك إلى الموت، كذلك فإن جنود الاحتلال يمكن أن يغدروا بهم كما حدث من قبل، لذا فقد قرر عدم خوض تلك المهمة.

آخر مرة حصل "زكريا" على كيس من الطحين كان قبل شهرين، اعتمد خلال تلك الفترة على القمح والذرة، البدائل أمامه كانت كغيرة من الآلاف من أبناء الشمال حاليا، وهي علف الحيوانات والذي بات يختفي من الأسواق رويدًا وحتى المتاح منه سعره تجاوز قدرة المواطنين بالشمال، بل لجأ بعضهم حاليا نحو علف الطيور كونه متوفرًا بعض الشيء.



خرج زكريا من الدنيا باثنين من الأطفال 3 سنوات وعام ونصف، لا يتمكنان من الحصول على الطعام البديل باعتباره خطرًا على صحتهم، يوفر زكريا من ماله الخاص مبلغا كل فترة ليشتري به كمية صغيرة تكفي احتياجات طفلية، بل يلجأ أحيانا إلى توفير طعامه وزوجته لطفلية الصغيرين، وأحيانًا يحاول تعويض الطعام لهم عن طريق تناول النشا والذي وصل الكجم منه قبل الحرب بـ"1" شيكل، ليصبح اليوم بنحو 40 شيكل.

البعض من مواطني الشمال ممن لا يمتلكون الأموال لشراء السلع البديلة للطحين، إما يتركون أنفسهم للموت جوعًا ببطء فلا حلول أمامهم سواه، أو حتى شراء بعض أنواع الخضروات مثل "الجزر" والذي يبلغ سعره نحو 10 شيكل وهذا يعد من أرخص الخضر المتواجدة بشمال القطاع.

اللجوء لتناول علف الحيوانات لم يكن سهلًا على "زكريا" وعائلته، بل وعلى الآلاف من مواطني شمال القطاع، وبالرغم من رائحته السيئة، لكنهم تحملوها لسد جوعهم، حوّل أهالي الشمال العلف بعد طحينه إلى خبز طعام يتناولونه دون أي إضافات أخرى معه، لكن الأمر لم يقتصر على تحمل الريحة فقط بل الألم كان أصعب لم يتحمله الكثيرون.



حتي مع صعوبة رائحته ومذاقه لكنّه لم يكن أيضًا متاحًا أمام الكثيرين، فسعر علف الحيوانات وصل نحو 40 شيكل، وقبل الحرب كان لا يتجاوز الشيكل الواحد، كذلك فالآلام التي يمكن أن تصعب وجبة العلف قد تودي بحياة البعض خاصة الأطفال، حتى إن شقيقة "زكريا" نتيجة تناولها علف الحيوانات أصيبت بآلام شديدة بالمعدة والجهاز الهضمي.

الدكتور أيوب الجوالدة المستشار الإقليمي للتغذية بمنظمة الصحة العالمية، ذكر أن الغذاء الذي يتناوله الإنسان له مواصفات معينة ومكونات أولية تكون في الأساس صالحة للاستهلاك البشري، لكن ما يحدث في شمال قطاع غزة حاليا بسبب الجوع الذي يدفع المواطنين لتناول علف المواشي والتي هي في الأساس يتم إضافة مواد كيمائية عليها تعد خطرة على صحة الإنسان.



يعمل "زكريا" في مستشفى للولادة يذهب إليها العشرات من الأمهات يتحدثن إليهم أنهن لا يجدن أي طعام، لكن العاملين بالمستشفى أنفسهم لا يجدون الطعام، في بادئ الأمر كانت تتوفر لهم وجبة واحدة من الأرز تكفي طفلًا صغيرًا لكن اليوم، لم يعد يتوفر لهم شيء، تحدث الشاب عن واقعة سيدة حامل سقطت بالشارع مغشيا نتيجة سوء التغذية والضعف الشديد، فحملها المارة للمستشفى وكان السبب هو عدم حصولها على الطعام لأيام.



يعمل إبراهيم مسلم المواطن الذي يعيش في مدينة بيت لاهيا شمال القطاع صحفيّا وأيضًا في العمل الإغاثي، وبالرغم من عمله لكن حاله كحال الكثيرين من أبناء القطاع، فالرجل لم يستطع إغاثة عائلته بسبب نقص المقومات الغذائية الأساسية، حصوله على كيس طحين لم يكن بالأمر السهل، فالمرة الأخيرة التي حصل فيها إبراهيم على "الطحين" كان منذ أكثر من شهرين، كذلك فهو أيضًا لم يتمكن من توفير أي نوع من أنواع الخضر منذ أكثر من 3 أشهر نتيجة ندرتها وارتفاع سعرها المبالغ فيه.



وثّق "إبراهيم" بنفسه حالة وفاة طفل رضيع يسمى محمد الزايغ، بلغ من العمر نحو 60 يومًا ولد بالحرب ومات بها جوعًا، بعدما أصيب بالجفاف وسوء التغذية، وبسبب أيضًا ظروف الأم الصحية التي كانت تعاني هي الأخرى من سوء التغذية، فكان الوضع صعبا على الرضيع الذي لم يحتمل ومات جوعًا وأمنيته "رشفة حليب".

البعض حسب محمود أبو مصعب وزكريا باتوا يلجأون إلى المستشفيات، للحصول على محلول كتعويض لهم عن تناول الطعام، معتقدين أنّ هذا الأمر يكفي لبقائهم على قيد الحياة ولو فترة بعينها حتى يأتي الفرج، لكن الدكتور أيوب الجوالدة المستشار الإقليمي للتغذية بمنظمة الصحة العالمية، ذكر أن لجوء البعض للمحاليل الطبية ليس خيارًا أفضل، فتلك المحاليل تحتوي على جلوكوز ومياه، يتم إعطاؤها تحت إشراف طبي ولفترة بعينها لكن ليس من الممكن الحصول على المحلول كبديل للغذاء.


استهدف الاحتلال المدنيين أثناء انتظارهم المساعدات على شارع الرشيد، يمكن أن يكون "جمال" أحد أبطال قصتنا من بينهم خاصة وأنه اعتاد الذهاب بشكل يومي للبحث عن طحين لأطفاله، نبوءة "جمال" تحققت "إما العودة لصغاري بكيس طحين أو الرجوع جثة هامدة" فهل عاد جمال بكيس الطحين كما كان يأمل أن يشاهد فرحة أبنائه به أم كان ضمن الجثامين التي عادت محمولة على سيارات أكياس الطحين؟ .


قصة: سارة أبو شادي

جرافيك: مصطفي عثمان

تصميم وتنفيذ: محمد عزت