"الخطوة الأولى"

قصة صورة أثارت تعاطف جمهور السوشيال ميديا

دقَّت عقارب الثانية ظهرًا؛ حان وقت المغادرة. همّ الأطفال بالخروج من المدرسة، بخلاف فتاة لم يتجاوز عمرها التاسعة انتظرت دقائق على بابها تتكئ على عكازها تقف على قدم واحد ترفع يدها بالدعاء تناجي ربها بأن يكتب لها عمرًا جديدًا وأن تحيا للصباح، لا يصيبها صاروخ طائرة طائش أو رصاصة غادرة، حتى تعود واستكمال ما بدأت فيه من رحلة تعليمها.

في الأيام الماضية انتشرت صورة لنحو 8 أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة يقفون في طابور انتظارًا لدخول فصلهم الدراسي، تلك الصورة التي تم التقاطها من داخل إحدى مدارس مدينة إدلب السورية للتعبير عما وصل إليه حال عدد كبير من أطفال المدينة، بسبب الحرب التي أفقدت أغلبهم جزءًا من جسده إمّا يداً أو قدماً.

مصراوي تواصل مع المصور السوري محمد سعيد طكو، صاحب الصورة التي لاقت تعاطفًا كبيرًا بسبب حالة الأطفال بها، ليسرد حكايتها، فقال إنّه التقط تلك الصورة في أغسطس الماضي، بعدما تلقى اتصالًا هاتفيّا من أحد أصدقائه يحدثه فيه عن مدرسة "الخطوة الأولى" في مدينة إدلب، والتي يوجد بها أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة وتحديدًا من مبتوري الأطراف بسبب الحرب، وتلك المدرسة تحتاج دعمًا كبيرًا، خاصة أنّ هؤلاء الأطفال يتعلمون في ظل ظروف وأوضاع صعبة؛ لذا كان من الواجب الذهاب إليهم والتقاط صور لهم ليعلم الجميع بشأنهم.

الشاب السوري لم يعلم الكثير عن هؤلاء الأطفال لكن عن طريقه تواصلنا مع السيدة مروة عوض، مديرة المدرسة، والتي سردت لنا حكاية 4 من الأطفال الذين ظهروا في الصورة إضافة إلى قصة إنشاء مدرسة الخطوة الأولى لذوي الاحتياجات واليتامى.

الخطوة الأولى


مروة عوض الفتاة العشرينية، التي عملت كمعلم متطوع لتعليم الأطفال الأيتام في السابق لنحو 3 سنوات، لكنّها وبسبب حبها الشديد للخير ومحاولة مساعدة أطفال بلادها الذين قضت الحرب على طفولتهم وباتوا ضحايا، قررت في شهر يوليو الماضي، تأسيس مدرسة خاصة بضحايا الحرب واليتامى ممن فقدوا ذويهم بها.

بعدما تركت مروة عملها جاء إليها فريق أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، طلبوا منها المساعدة لكنّ الفتاة حينها شعرت بالعجز لعدم قدرتها على مساعدتهم إلّا أنّهم أحيوا الأمل بداخلها من جديد، فتيقنت أنّ القدر وضع هؤلاء الأطفال في طريقها، خاصة أنّه لا يوجد اهتمام بالأطفال اليتامى ومصابي الحرب في سوريا، ما دفع الكثير من هؤلاء للابتعاد عن التعليم.

فكرت مروة في إنشاء مدرسة خاصة بهؤلاء الأطفال، لكنّها واجهت عوائق عدة، فالفتاة لا تملك عملًا يمكن أن يساعدها في توفير دخل خاص بها، إضافة إلى عدم توافر دعم مادي من أجل تأسيس المدرسة، لكنّها لم تتنازل عن حلمها، ولو كلّفها الأمر بيع ما تملك.

بدأت مروة رحلة البحث عن مكان تجمع فيه هؤلاء الصغار، وبالفعل نجحت في العثور عليه داخل إحدى مدارس إدلب والتي سمح مديرها باستئجار جزء منها مقابل مبلغ مالي دفعته مروة، وبدأت في تجهيز مدرستها "الخطوة الأولى" أو مدرسة ملهم للأيتام سابقًا، واستقبلت بداخلها الأطفال في يوليو الماضي، ليصبح هذا المشروع الأول من نوعه في سوريا.

قصف الحي


في عام 2019 قُصف الحي الذي يقطن به الطفل أحمد مدلوش بمدينة إدلب، الفتى الذي يقف على رأس الطابور والذي لم يتجاوز عمره الثانية عشرة. أحمد صاحب القدم الواحدة نزح رفقة عائلته من المنطقة التي كان يقطن بها بسبب الحرب إلى مدينة إدلب.

يعيش الطفل في منزل يبعد عن المدرسة نحو 15 كم، كان يقطعها الفتى يوميّا ذهابًا وعودة بمفرده رفقة عكازه الصغير الذي يُعوضه عن ساقه التي فقدها قبل نحو 3 أعوام أثناء قصف شديد على الحي الذي يعيش به، وبسبب قوة القصف تحركت سيارة من مكانها لتستقر على جسد الصغير وتصيبه إصابات بالغة نتج عنها بتر ساقه.

يعيش أحمد وسط عائلة فقيرة؛ أب لا يعمل وأم تعمل بأجر بسيط، لم يتمكن الفتى بسبب ظروفه من الالتحاق بالتعليم؛ ونتيجة لذلك ساءت حالته النفسية حتى وصل إلى الاكتئاب، لكنّ الأمل عاد للطفل من جديد بعد التحاقه بمدرسة الخطوة الأولى والتي ظنّ الفتى أنّ حلمه يمكن أن يتحقق بداخلها لكنّ القدر كان له رأي آخر.

فبسبب ظروف الطفل السيئة انقطع عن الذهاب إلى المدرسة مرة ثانية، فعائلة أحمد لا تملك تكاليف لوازم الدراسة حتى إنّهم مهددون بالطرد من مسكنهم بسبب عدم قدرتهم على دفع إيجار البيت، كما أنّ الفتى لم يعد يقوى على السير على قدمه اليسرى وأصبحت تؤلمه بشكل كبير حال السير عليها لمسافة كبيرة.

قرر أحمد خوض محاولة أخيرة، اتصل بمعلمته مروة، أخبرها أنّه يريد العودة إلى المدرسة وهو يبكي، لكنّ المعلمة هي الأخرى ما بيدها حيلة فهي الأخرى لا تملك تكاليف الإنفاق على تعليمه.

في المدرسة يوجد نحو 15 معلمًا لا يتقاضون أجرًا مقابل عملهم، بل جميعهم متطوعون لخدمة الأطفال، ووفقًا لمروة فإنّ هناك نظامين دراسيين، الأول وهو النظام الصيفي، ويتم حضور الصغار للدراسة من أجل محاولة تدارك الضعف الدراسي، والذي يكون في العام الدراسي وهو النظام الثاني.

كما يوجد في مدرسة الخطوة الأولى نحو 40 طفلا من ذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى 20 من الأيتام، جميعهم إما أصيبوا في الحرب، أو ممن فقدوا عائلاتهم بسبب قصف المدينة.

حلم المسرح والكرة


الفتى الثاني بالصف كان محمد الأسعد، الطفل الذي اشتهر بين أصدقائه بالقوة والذكاء، يمتلك أحلامًا عدة يهوى المسرح ويحلم أن يصبح لاعب كرة قدم. في الفترة بين عام 2019 و2020، اشتد القصف على الأحياء السكنية بمدينة إدلب السورية، وكان منزل عائلة محمد أحد المنازل التي دُمرت في القصف.

خرج الطفل جريحًا رفقة أمه وأبيه، بينما قتل العديد من عائلته. الإصابة غيرت حياة الفتى الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، فخرج محمد بساق واحدة بينما فقد الأخرى أسفل الأنقاض ليرافقه بدلًا عنها عكاز أصبح هو سند وصديقه الوحيد. على مدار أشهر حاول محمد تقبل الوضع، عاد لمدرسته ساعيّا لتحقيق حلمه الذي لم ينسه قط، لكنّه واجه تنمرًا شديدًا بسبب حالته، ما جعله يدخل في أزمة نفسية.

قبل نحو شهرين فقط عادت الحياة إلى محمد، فالتحق بـ"الخطوة الأولى"، وجد بها العديد من الرفاق ممن هم نفس حالته، عملوا على تدعيم بعضهم، حتى إنّ المدرسة حاولت مساعدة محمد في تحقيق جزء من حلمه وإبراز موهبته في المسرح، فأقامت عرضًا مسرحيّا لمحمد ورفاقه بوسط مدينة إدلب، العرض الذي لم يشهد موهبة الصغير فقط بل شهد على مواهب عدة من مصابي الحرب من الأطفال.

تعمل الفتاة الشابة على إنقاذ مئات الأطفال في إدلب من الابتعاد عن التعليم عبر هذا المشروع، فبرغم الظروف القاسية التي أُجبروا عليها لم يعاملهم الكثير برحمة؛ ما ترك في قلوب هؤلاء الصغار حسب مروة نفورًا من العلم ومحاولة للاختباء بعيدًا عن أعين الجميع، لكنّها حاولت أن تجعل نور الأمل يسطع من جديد في قلوبهم، وبمساعدة عائلاتهم نجحت الفتاة في إنقاذ البعض وتسعى في طريقها لإنقاذ غيرهم.

عربة الأطفال


محمد بطل، الطفل الثالث بالصورة، صاحب الـ7 أعوام والذي يدرس بالصف الثاني في مدرسة الخطوة الأولى، تبدّل حال الصغير بين ليلة وضحاها، كان طفلا لم يتجاوز عمره العام ونصف العام، والدته خرجت به من المنزل لقضاء بعض المهام، وأثناء عودتهما كان الصغير داخل عربة الأطفال ابتسامته على وجهه ويداه تداعب الهواء، بينما تدفعه أمه نحو المنزل عائدين.

عربة محمد كانت تسير به وسط حطام المنازل وعلى دماء الصغار من أبناء الحي، ممن نالت منهم الصواريخ قبل أيام، لحظات وتبدّل حال الرضيع، حلقت الطائرات في السماء من جديد كان يرفع يده إليها معتقدًا أنّها تداعبه، لكنّها أسقطت صاروخًا عليه ووالدته فأصيبوا بإصابات بالغة، انتهى الأمر بالصغير بساق واحدة لتُبتر طفولته وهو رضيع.

واجه محمد صعوبة كبرى في الاندماج مع الأطفال في مدرسته، كانت نظرات رفاقه دائمًا ما تدفعه للبكاء، لم يتكيف الطفل مع زملائه في المدرسة، كان يرفض الذهاب بعكازة ما جعله ينقطع عن التعليم.

مشكلة الصغير لم تكن في المدرسة فقط بل تعرّض لأزمة نفسية دفعته لعدم تقبل التواجد مع طفل سليم في أي مكان، ما دفع أسرته لمحاولة البحث عن مكان يمكن أن يتكيف نجلهم بداخله، في البداية واجه الفتى أيضًا صعوبة في التواصل مع زملائه في "الخطوة الأولى" لكنّه اعتاد الأمر بعد ذلك.

محمد وجد نفسه أمام آخرين يشبهونه في كل شىء، حتى الألم أيضًا كان واحدًا؛ لذا تفاعل معهم بشكل كبير، كانوا يمرحون حينًا ويستمعون لحكايات بعضهم حينًا آخر، يداعبون بعضهم بعكاكيزهم تارة، ويتبادلونها سويا تارة أخرى. المدرسة أصبحت بالنسبة لمحمد حياة حاول العثور عن نفسه بداخلها.

حلم العودة


قبل نحو عام، اشتدّ القصف على الأحياء السكنية بالمدينة، الطائرات استهدفت منازل عدة، أهالي الأحياء كانوا يختبئون في بيوتهم ينتظرون دورهم في القصف، كانت عائلة لانا حربا الفتاة الرابعة بالصورة داخل منزلها، حاولت الصغيرة ذات الـ6 أعوام وأشقاؤها التغلب على صوت القصف الشديد فجلسوا سويّا يحمل كل منهم لعبته المفضلة بيديه يداعبها، عسى أن ينتهي صوت الصواريخ قريبًا فقد اعتادوا عليه كل مساء.

كانت لانا تداعب عروستها، حسبما سردت معلمتها مروة، شعرت الصغيرة برجفة في قلبها بعدما اقترب صوت القصف من منزلها بشكل واضح، لم تدرك لانا أنّ تلك الليلة ستصبح وعائلتها ضمن ضحايا القصف، خرجت من أسفل أنقاض المنزل رفقة عروستها وأسرتها أيضًا الإصابات لم تكن بالغة بخلاف الطفلة.

بُترت ساق الصغيرة اليُسرى، وأصيبت بشظايا في وجهها أثرت على فكّها بشكل كبير بل إنّه يحتاج إلى عملية كُبرى، معاناة لانا لم تنته عند هذا الحد بل كانت إصابتها بداية لمأساة الصغيرة، لم تقبل المدارس العامة الطفلة، حتى من تم قبولها بداخلها لم يعاملها أساتذتها بلطف لم يتحملها أحد منهم نظرًا لحالتها، بل ذات مرة استدعى معلم والدة لانا وأمام زملائها في الفصل قال لها "خدي بنتك من هنا".

جلست لانا في المنزل عارضت الخروج لأي مكان وخاصة المدرسة، حتى عرض عليها والداها الذهاب إلى مدرسة ستجد بداخلها من يشبهونها، رفضت الفتاة في البداية بالرغم من محاولات والديها حتى إنّهما ذهبا بها عنوة، في الأسبوع الأول عذّبت الطفلة المعلمين كانت ترفض الحديث مع أي شخص حتى زملائها، لكنّها وبعد أيام قليلة كانت الصغيرة هي من تُسارع للحاق بفصلها الدراسي تغادر وتحلم بالعودة في اليوم التالي.

"المال يلي معي قرب يخلص ما عاد يكفي لأستمر" حاولت مروة البحث عن منظمة تكفل فكرتها تُساعدها في استقبال مزيد من الصغار. الفتاة تتحمل تكاليف التعليم بالمدرسة بأكملها، حتى إنّها باعت ما كانت تمتلكه من مصوغاتها الذهبية من أجل هؤلاء الأطفال، وبالرغم من رسمها الابتسامة على ملامح هؤلاء لكنّ اليأس والخوف أصابا قلبها خوفًا من عدم استكمال مشروعها، وخذلها لأطفال وجدوا الحياة التي اعتقدوا أنّهم فقدوها نهائيّا داخل أسوار "الخطوة الأولى".

قصة: سارة أبو شادي

تصميم وتنفيذ: محمد عزت

إشراف عام: علاء الغطريفي