ذات مساء، أقبلت جارات "حنين" على بيتها بإدلب (شمال سوريا)؛ يهنئونها بتحريرها من السجن الذي قضت فيه أربع سنوات. كان الفضول يقفز من أعينهن، كما لاحظت هي، ولم يعد بإمكانهن السيطرة عليه حتى أطلقت إحداهن سراحه بسؤالها:

"عملولك شي؟"


"كل أشكال التعذيب وأبشع الألفاظ، وكانوا يصفعوني مرات كل يوم، ثم رموا بي في المنفردة بين الحشرات لأيام"


هكذا ردت "حنين"، لتجد مزيجا من الوجوم والحيرة على وجوههن وكأنهم ينتظرن شيئا آخر.. فيكررن: "يعني ما عملولك شي؟!".


"سبحان الله.. كل هذا ليس بشيء؟"، تجيب "حنين" عليهن دون تفكير، ثم سرعان ما تلتقط قصدهن وهو الاغتصاب.


تسكت لحظات، تحدث فيها نفسها: "وكأن كل المعاناة لا تهم!". ثم ببساطة تنفي لهم ذلك. لكنها تحس أن جوابها يجد عدم تصديق وصمت؛ صمت عرفت معناه خلال الأيام التالية.

بمكان آخر يبعد عنها مئات الكيلومترات، بمدينة صيدنايا، تستلقي "شام" على سرير بإحدى المستشفيات لتعالج جسديًا ونفسيًا في آن واحد. وعلى جسدها، تتناثر الكدمات والحروق. لكن تلك الندوب لم تكن تؤلمها بقدر نظرة رأتها في أعين والدها بعدما خبره الطبيب ما حدث لها.

في نفس الفترة، وصلت "آمال" وحدها إلى بيت صغير مُستأجر، حيث قرر لها أهلها، لتجد نفسها بعيدة عنهم مرة أخرى، و"في عزلة جديدة ببلد غريب".

"حنين" و"شام"، و"آمال".. ثلاث نساء محررات من سجون سوريا. أيقن في تلك اللحظات أن مصيرا آخرا ينتظرهن خارج أسوار السجن، يبدو أنه لن يقل قسوة إن لم يكن يزيد ويدوم أكثر.


.. "ربما ستنجو، لكنها لن تعود كما كانت"
ورد فراتي، صاحب كتاب ناجيات


خطت "حنين" (33 سنة) خارج بوابة سجن المزة الحديدية، وما كانت تتوقع أن تعبرها حية مرة أخرى. أحكم عليها الذهول كغيرها، وسط فوضى وركض وأصوات صاخبة متداخلة تنادي: "سقط بشار. اخرجوا. روحوا وين ما بدكن!".

بالنسبة للسوريين، من عاشوا في ظل حكم "الأسد" أبًا وابنا قرابة 50 عامًا، لم يكن وقع هذا الخبر معقولا ولا منطقيًا أبدًا.

على حافة الطريق، استقلت "حنين" سيارة أجرة مع الخارجات مثلها، ذاهبة إلى أقرب نقطة ستأخذ منها حافلة أخرى إلى مدينتها. انطلقت السيارة التي لم يكف سائقها عن الحديث لهؤلاء عن هروب "بشار" في لمح البصر! وأن المعارضة المسلحة استولت على مدينة تلو الأخرى على الطريق المؤدي إلى دمشق، وأن لا أحد يفهم شيئا عما تنتظره سوريا.


ثم يلقِ عليهن الأسئلة حول السجن وتهمهن وما جرى لهن؟


لم تتفوه "حنين" ولو بكلمة واحدة. كانت تحدق إلى الطرق والمسيرات التي تجوبها احتفالا، وإلى هؤلاء الأشخاص الذين يمزقون صور "الأسد" في كل مكان؛ وكأنها غابت عشرات الأعوام وليس أربع سنوات فقط.

ثم تترك من معها حتى تصعد إلى حافلة أخرى متجهة إلى إدلب، وقد وجدتها بعد عناء بل ومزدحمة على آخرها لقرب سريان حظر التجول في العاصمة لمدة 13 ساعة.

في طريقها شمالا، تمر حافلة "حنين" على سجن صيدنايا، الذي كان محيطه أكثر صخبًا وازدحامًا. في هذه الأثناء كانت تخرج من مبناه الأحمر "شام" (28 سنة) والتي تتحامل على رجليها حتى تستطيع المشي. ولا تصدق أنها تغادر ذلك المبنى الذي تنسج عنه كل القصص المخيفة ولا يخرج منه أحياء سوى القليل.

لكنها لم تقدر على مواصلة المشي حتى تستقل سيارة وسقطت مغشيًا عليها، لتٌنقل إلى أقرب مستشفى بلا أوراق ولا شيء يدل على هويتها.

لهذا، نشر أحد الموظفين بالمستشفى صورًا لها عبر مجموعات على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وتلك التي تخص مفقودي سجن صيدنايا؛ أملا في أن يصل إليها أهلها.

على بعد نحو 25 كم، كانت "أمال" (45 سنة) تبصر النور خارج سجن عدرا، "فحتى الهواء كان مختلفًا"، هكذا تصف في أول كلمات نطقتها لمن حولها. وقبلها، كان يفصلها خطوات عن حكم الإعدام، حسب ما وصل إليها من أخبار عن المحاكمة التالية بعد يومين.

مَضت بسرعة وكأنها تهرب حتى استقرت في حافلة قاصدة دير الزور (شرق سوريا). كانت متلهفة للقاء زوجها وأولادها وتتخيل ملامحهم لما كبروا. فلم يزورها أحد منهم منذ اعتقالها عام 2014. وتظن أنهم لم يعلموا مكانها.

لكن أمامها طريق سيستغرق 4 ساعات، كانت كافية لتتأمل في طرق تغيرت وأبنية دُمرت وتتخيل كم من مظاهرات خرجت ومجازر ارتٌكبت وأسر هربت في طول البلاد وعرضها. وفي نفس الوقت تجبرها على استحضار كل شيء مر عليها.


تفعل "حنين" الشيء نفسه وتعود بذاكرتها بالحافلة أربع سنوات إلى الوراء، إلى ذلك اليوم "الأسود"، كما تصفه، حين داهم أربعة أشخاص- طويلي القامة وعريضي البنية - بيتها عند الساعة الثانية ليلا ليأخذوها. ولم يكن زوجها موجودًا، إنما والدتها وأخواتها اللاتي عجزن عن فعل شيء عدا البكاء.

توسلت إليهم حتى ترتدي فقط ثوب الصلاة على الأقل. فشدته وأغلقت الغرفة على ابنها النائم ذي الأربع سنوات. ثم مضت معهم.

في مشهد كلاسيكي، وضعها رجلان في المنتصف بينهما بالكنبة الخلفية للسيارة. ثم غطيا وجهها بوشاح أسود وقيدا يدها. وبدأت وصلة من السباب لحين وصولهم "الفرع الأمني". وقبل أن تفهم تهمتها، تم تصويرها وإعطائها "رقم".

لم يكن هذا الرقم لمجرد التسجيل، إنما علامة مميزة لكل سجينة؛ ستُعرف به طوال مدة بقائها، سيصبح هويتها واسمها.

حملت رقمها إلى زنزانة بمفردها. وداخل تلك الزنزانة الضيقة ذات الجدران الرمادية، مزيج من الحشرات. وداخل "حنين"، مزيج من الخوف والحيرة: فأي تهمة يمكن أن ترتكبها امرأة مثلها، لا علاقة لها بالسياسة وتعمل في معمل بلاستيك؟!.

على هذا الحال المضطرب، ظلت خمسة أيام أخرى حتى طلبها المحقق الجالس خلف مكتب مهترئ. وبدأ تحقيقه معها بالكثير من الشتائم والضرب، يصحبهم كلمة معتاد سماعها بالأفلام في المواقف المشابهة: "اعترفي.. اعترفي".

وقتها فقط عرفت أنهم يريدون منها الاعتراف "بأن زوجها الذي يعمل في تصليح السيارات، يتعاون مع فصائل مسلحة وأقام كمينا للقوات النظامية بل وأنها شاركته في ذلك".

في حين أن "شام" لازالت فاقدة الوعي وغير قادرة على تذكر ماضيها مثل "حنين". شيء فشيء، بدأت تفوق بمستشفى صيدنايا. لا تدرك مكانها وكيف جاءت إلى هنا؟ وآخر ما تتذكره، هو دق أفراد مسلحين على الزنازين وإبلاغهم بالخروج والتكبير، وأنها اعتقدت "أنها خدعة وأن هؤلاء سيأخذوهن ويصفوهن".

فطوال سبع سنوات، جهزت نفسها أن "الداخل إلى سجن صيدنايا مفقود لا محالة".

لذا فهي لا تستوعب أنها لازالت موجودة وأن بشار الأسد هو من سقط، والأكثر، هو كل ما وقع لها في ذلك المبنى المرعب.

فذاك اليوم الذي تم توقيفها فيه بحاجز أمني بدمشق وهي ذاهبة إلى كليتها، توقفت فيه حياتها وأحلامها. حين ظهر أمامها رجال بلباس أسود:

"اطلعي" -


"لوين أطلع" -


"!عالفرع" -

هكذا دار الحديث دون تفاصيل.

لم يكن لــ"شام" علاقة وطيدة بالسياسة سوى مشاركات وصور على وسائل التواصل الاجتماعي، ربما هي ما دفعت بها إلى فرع أمني واحد تلو الأخر حتى استقرت في صيدنايا، الأسوأ صيتًا بين كل سجون سوريا وربما العالم، تحت عنوان يرافق غالبية ساكنيه: "أعمال إرهاب والتعاون مع منظمات خارجية".

سارت وسط ممرات كئيبة وموحشة، في كل زاوية منها تفوح رائحة الموت، فتدخل إلى تحقيق بعد تحقيق. ومع كل واحد، تزيد على جسدها علامات الحرق والصعق بالكهرباء، في ظل شرح يكرره المحققون عن "كيف أنها وأمثالها أخطر عليهم من هؤلاء الذين يسمون أنفسهم ثوارا أو مقاتلين، لأنهم بينهم ولم يعرفوا أنهم إرهابيون"، على حد وصفهم.

وفي إحدى الأمسيات، كان ينتظرها تعذيبًا من نوع آخر.

فاقتادها عنصر إلى غرفة مختلفة، ذات إضاءة باهتة. وعلى جانبيها، جنازير حديدية معلقة على الجدران، وسياط طويلة على المكتب الذي يجلس فوقه المحقق. كانت رائحة الكحول الخارجة منه تصل إليها، وهو يطلب منها أن تجلس لأول مرة على الكرسي المقابل.

ثم وضع يده عليها، فتجمد الدم في عروقها وانهمرت دموعها.

تسقط دموع "آمال" أيضًا دون أن تشعر أنها في حافلة ووسط ناس. فتمتلأ بفيض من المشاعر ما بين فرحة الرجوع إلى دير الزور لرؤية عائلتها مرة أخرى وما بين ألم عميق خلفته أيامها بسجن عدرا.

كانت حياتها قبله "عادية" بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لا تحلم إلا أن تعيش جيدًا مع زوجها وتربي أولادها المراهقين، وتكفيهم.

ولأنها معلمة، كانت تعي الوضع المغلف بقاعدة عامة عند السوريين: "الحيطان لها آذان". ولم تتوقع أبدًا أن تصل ثورة إلى سوريا، فتبدو أنها في عالم آخر. ولما حدثت، كانت على يقين: "أن لا شيء سيتغير!".

لكنها لم تقاوم فضولها. وراقبت المظاهرات-وهي تخفي وجهها خلف نقاب- ثم تحول فضولها إلى صدمة: عندما ردت البنادق على الهتافات. وبمرور الأيام؛ تحولت البنادق إلى دبابات وطائرات وصواريخ. فحمل المتظاهرون السلاح وانقسمت المدينة إلى نصفين: الأول محرر، شبه خالي، ومدمر، والآخر تحت سيطرة النظام، كُدس فيه الناس التي خشت من القصف. وكان منزل "آمال" في حي القصور، أي تابع للنصف الثاني.

وفي تلك الأيام المضطربة، لم تخرج إلا للإمضاء بالمدرسة حتى تحصل على راتبها وتعود من بين حواجز أمنية فاصلة، وعلى وقع أصوات مختلطة بين باعة مدللين على فتات بضائعهم التي تصل منطقتها بصعوبة، وصوت مولدات قليلة تؤمن الكهرباء لساعتين باليوم لمن استطاع إليها سبيلا، وصوت اشتباكات وصواريخ تدك الجانب الآخر.

ولما ساء الأمر، نزحت مع أسرتها من دير الزور إلى الرقة ثم ريف حلب ثم إلى تركيا. وقضت هناك سبعة أشهر حتى عادت إلى مدينتها بفكرة تصفها بالـ"غبية"، رجحها ظنهم أن الأمور هدأت ولتخفيف المصاريف وليلتحق ابنها بالجامعة هناك.

لكنهم وجدوا "داعش" تستقبلهم وتسيطر على الجانب الآخر للمدينة. فقررت الرحيل مرة أخرى وأخيرة إلى تركيا، الفكرة التي عارضها زوجها. لكنها أصرت وأعدت خطتها: استقالت واستخرجت كشف لابنها ليستكمل دراسته في الخارج، ورتبت مع قريبتها هناك لتؤمن لها طريق العودة والإقامة في بيت مستأجر، والأهم أنها قدمت طلب لاستخراج جواز سفر جديد لأنها تخلصت من السابق لوجود خِتم دخول عليه، وهو ما يعني في ذلك الوقت "احتمالية الاشتباه بحامله!".

وحين ذهبت لاستلام آخر راتب لها، باغتها شخص ضخم وأخبرها أن عليها الذهاب معهم لاستجواب بسيط يخص استخراج جواز سفر: "شغلة سؤال وجواب، ما تخافي"، هكذا قال بملامح تبدو عادية وهادئة تمامًا.

فالتفتت إلى صديقتها وغافلت العنصر الذي ينتظرها، لتدس هاتفها والمبلغ في حقيبتها. ثم همست لها أن توصل الخبر لعائلتها.

سألها المحقق عن أسماء أسرتها وأعمارهم وأشغالهم، إلخ. ومع كل سؤال، كانت تتأكد أن الأمر ليس حول جواز سفرها. وبعد ساعتين، استدعى عنصرا ليسحبها إلى "تحت".

لم تعلم معنى "تحت"، هل تعني طابق أرضي أم "مقبرة تكتم الأصوات"، كما كانت تسمع عن تلك الأبنية طوال حياتها. لكنها اكتشفت أنها غرفة بالطابق الأرضي. عرفت لاحقًا أنها لرئيس المحققين، رجل قصير القامة، ذو ملامحه حادة، وعلوي (من الطائفة الأقل عددًا والأكثر نفوذًا).

أسند رجليه على كرسي وسألها:

"احكيلنا شو كنتي بتعملي بتركيا؟" -


"ما كنت بتركيا" -


"شو كنتي تدخلي من تركيا للمسلحين" -


"!يا سيدي والله لا رحت تركيا ولا شفت تركيا" -




أما المحقق الأخر الذي كان واقفًا أمام "حنين"؛ فركلها ركلة طرحتها على الأرض وكادت تفقد الوعي عندما رفضت الاعتراف بما يمليه عليها عن نفسها وعن زوجها. ثم توالت التحقيقات ومعها التعذيب حتى اعترفت في النهاية: "أن زوجها يتعاون مع إرهابين وصنعوا كمينا لقوات الجيش السوري".

لم يكتفِ به إنما شمل الاعتراف أشقائها وتم القبض عليهم.

لم تبكِ "حنين" من قبل مثلما بكت في ذلك اليوم. وعرفت فيما بعد أن إخوتها وصلوا إلى السجن نفسه. وكان يفصل بينهم عدة حوائط فقط. وربما الصراخ الذي كان ينفذ إلى مسامعها كل يوم، هو صوت أحدهم.

بقت في "المنفردة"، كما يسمونها، في مساحة متر في متر، يحيط الظلام بها، فتعتاده وتبصر فيه كما تفعل الخفافيش. ظلت بها شهر ونص ثم نٌقلت إلى سجن عدرا لتحضر محاكمتها هناك التي انتهت إلى السجن عشرة أشهر.

وبعدما صدر قرار إخلاء سبيل؛ كانت الصدمة لما قالوا لها: "عندك رجعة عالفرع".

فعادت إلى سجن المزة، عودة عرفت معناها من رفقائها: "الي بترجع من عدرا بينسوها".

ونُسيت "حنين" ثلاث سنوات أخرى، كان الشيء الثابت فيها "التعذيب"، التي تيقنت أنه "تعذيب من أجل التعذيب والتسلية"، كما قالت للموجودات معها بلسان فاض رعبًا. وحبست أنفاسها في كل مرة تستدعى فيها خوفًا من اغتصابها، كما تسمع عن غيرها.

كان ذلك من نصيب "شام"، عندما قام المحقق وأغلق الباب، ثم "فعل بها ما شاء". استسلمت و"كأنها لم تعد لديها طاقة للمقاومة أو لتأكدها أن لا جدوى منها".

فقط، اغمضت عيناها واختار عقلها الغياب "أملا ألا تسجل ذاكرتها صورته".

غادرت مكتبه وهي ترتجف، وحاولت إخفاء ما تنطق به عيناها عن نزيلات الزنزانة. كانت "تخشى شفقتهن وأن تصير قصة يتداولنها".

وتكرر الفعل ثانية وثالثة من آخرين. وقد انهار جسدها تماما. ولم تعرف أن حَمل نتج عن ذلك حتى نزفت وسقط الطفل، الذي "لم تكن متأكدة أي منهم والده".

وبينما يحدث لها ذلك، ظل أهلها يدفعون الرشاوي حتى يدلهم أحد على مكانها أو إنها على قيد الحياة من الأساس أم لا. لكنهم لم يعرفوا ذلك لسنوات إلا يوم رأوا صورها على مجموعات التواصل الاجتماعي بعدما نشرها موظف المستشفى. وقد تعرفوا على وجهها بصعوبة. إذ تغيرت ملامحه تماما.
تفاجأت "شام" بدخولهم عليها غرفة المستشفى ليقطعوا أفكارها السيئة.
وامتزجت دموعهم معًا.

في حين لم يشغل "آمال" أي شيء يجري على طريق الحافلة مهما كان ولا حتى الأحاديث التي يتداولها الراكبون. وأكملت ما تتذكره "كأنها تشعر بانتصار صغير أن تتذكر ذلك وهي بعيدة عنه".

فعندما أصرت على نفي ذهابها إلى تركيا، نادي المحقق على عنصر اقتادها إلى أدراج أخرى بالأسفل، حيث "سيدة أشبه بشبح أكثر منها أنثي"، يبدو كانت معتقلة منذ مدة طويلة، لتفتشها.

ومضوا عبر ممر طويل مظلم، وصفوف الزنزانات على جانبيه، حتى وصلوا إلى باب زنزانتها مع سبع فتيات بغرفة مربعة. كان لسان حالها في تلك اللحظة وهي تجول النظر في الوجوه: "هؤلاء من تتحدث عنهن صفحات فيسبوك؟".

لم تنم في الكثير من الليالي، ولم تأكل في الكثير منها أيضًا تلك الوجبة المعتادة: حبات بندورة، وبطاطا مسلوقة وصحن صغير مربى وقليل من الخبز. ولم تتحدث إلا بالقليل مع نزيلات الغرفة عن مشاكلهن جميعا التي لم تجعل حياة السجن رتيبة ومملة أبدًا: مياه الحمام الباردة، محاربة القمل، الوسائل البدائية لإيقاف الدورة الشهرية.

وصلت حافلة "حنين" إلى إدلب. تلك المدينة التي تحكمها هيئة تحرير الشام، قائدة فصائل المعارضة التي أسقطت نظام "الأسد" وصعد زعيمها "أحمد الشرع" إلى سدة الحكم.

سلكت "حنين" الطريق إلى بيتها. لم تتغير معالمه كثيرًا باستثناء شعارات ولافتات تشير إلى احتجاجات قريبة ضد "الشرع" والهيئة، بسبب "السياسات الضريبية والقمع الأمني".

لا تعرف "حنين" ما وراء ذلك على وجه التحديد، لم يصل لها أخبار التضخم الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة الذي تعيشه "إدلب"، وبالطبع تعاني منه عائلتها.

تسارعت دقات قلبها مع دقاتها على باب البيت، قبل أن تحتضن والدتها وشقيقيها اللذين أفرج عنهما بقرار عفو قبلها. في حين، وقف ابنها في الزاوية لا يعرف من هذه السيدة! فصار عمره الآن 8 سنوات.

بينما لازال مصير زوجها مجهولا. فتُحدث "حنين" أهلها: "لا أعرف إن كان قُبض عليه ومات في السجن أم لا؟، وأنا في هذه الحالة متزوجة أم لا!". مصير زوج "حنين" اعتبرته ميريانا سبولياريتش (رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر) "تحديا هائلا يتطلب سنوات" بعد فتح السجون واكتشاف المقابر الجماعية.



أيام تالية، طرق فيها بابها الزائرون، يحملون معهم الكثير من الأسئلة والاستفسارات عما حدث داخل أسوار السجن والتي تشير جميعها إلى المعنى نفسه: "إنتي كنتي سجينة؟ إمممم، شو صار، صار هيك أو لا؟!".

تقول "حنين" بعيدًا عنهن: "وحتى لو قلت لا، لا يصدقن!".. فعرفت وقتها معنى الصمت الذي يقابل كلامها حين تنفي اغتصابها، من التعليقات الجانبية التي سمعتها: "يعني لو عملولها شي رح تحكي؟، أكيد لا!".

لقد وجدت في أحاديثهم نسخة إدلب المغايرة عن التي عرفتها وتركتها، تحديدًا في نظرة الناس إلى النساء حتى وإن كن معتقلات، فكما ترى حلا هزاع (مديرة منظمة ناجيات سوريا): "هناك نسبة من الناس باتت متقبلة للمعتقلات لأنهم مؤمنون بالثورة. لكن هناك نسبة أخرى ليست بقليلة ترفض الناجيات أو على الأقل يتعرضون لهن بأسئلة محرجة ومسيئة".

فأدركت "حنين" آنذاك أنها لا يمكنها أن تعيش في نفس المنطقة ولا يمكنها أن تعود إلى العمل. فباتت تقضي أيامها، تخطط لتدبير أمر تغيير سكنها في أقرب وقت.

أما النظرة لـ"شام" في المستشفى كانت أقسى بكثير، لأنها أقرب. فانطلقت كالسهم من والدها لما عرف من الكشف الطبي "أنها تعرضت للاغتصاب وانتهاكات عدة وأجهضت". نظرة تصفها بأنها "نظرة كَسرة لم تعرفها من قبل"، وحولها؛ كان الكثير من الهمهمات التي سَرت بالغرفة: "نخفي الأمر، ما رأيك بإجراء عملية إعادة غشاء بكارة في منزل طبيبة بعد انتهاء العلاج؟".

وما بلغ مسامع "شام"، "كان مثل الخنجر في صدرها، كما تقول. لكنها لم تجادلهم، لم ترفض ولم تقبل أي مما يقال.

غادرت المستشفى وبدأت جلسات العلاج النفسي. وفي الأغلب لم تتحدث طوال هذه الفترة إلا مع ميلانا زين (طبيبتها النفسية)، التي تقول إنها "فاقدة للتواصل مع نفسها ومع جسدها، تعاني مثل البقية من اكتئاب واضطراب مزمن ما بعد الصدمة، وتتحدث طوال الوقت عن ضياعها وضياع مستقبلها".

و"ميلانا" تعمل مع الناجيات حتى قبل سقوط نظام الأسد، ما عرضها للتوقيف والتحقيق وكتابة تعهدات "عن عدم تعاملها مع إرهابيين"، لكنها "لم تلتزم بها"، كما تقول، وواصلت عملها سرًا.



بلغت حافلة "آمال" دير الزور، وعلى جانبيها نهر الفرات. بدت لها غريبة أكثر مما يجب أن تكون عليه بعد عشر سنوات. لكنها ليست أي عشر سنوات! فوقعت المدينة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في نفس عام اعتقالها قبل أن تطرده منه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في 2017. فترى عناصرهم ودورياتهم منتشرة في كل مكان.

وسينسحب هؤلاء لاحقا ويدخل مكانهم إدارة العمليات العسكرية في المعارضة.

كل ذلك جعل المدينة تستقبل "آمال" بتوتر وغليان. لم يخف حين وصلت بيتها إنما ازداد.

فقابلتها عائلتها مقابلة "فاترة" حسب وصفها. سرعان ما فهمت من أحاديثهم أنهم "غير راغبين في وجودها، ويحملونها سبب ما حدث حين نوت الرحيل إلى تركيا وحدها بمعارضة زوجها، فلترحل الآن".

بل إن زوجها قالها صراحة: "وسخوكي بالسجن".

شيء عمل في داخلها كما يفعل الهواء بالنار، يذكيها فتضطرم: "تمنيت أن أموت أو أعود إلى السجن مرة أخرى".

طلقها زوجها وبالكاد، سلمت على ولديها، اللذين تركتهما أطفالا وبلغا الآن (20 و22 سنة) وقد رفض الرجل بقاؤهما معها.

تعاملت "أميرة" (مسؤولة منظمة تجمع الناجيات المستقلة بسوريا) مع عشرات الحالات أمثال "آمال". تقول: "رأينا كل أشكال القصص المأسوية لما بعد الخروج، من التبرؤ من الأهل والأصدقاء، والانفصال عن الأزواج، وحتى التهديد.. ولكل قصة تأثيرها علينا".

تنكفئ "أميرة" أمام جهاز الكومبيوتر، تستقبل الرسائل وترد، لتحاول مساعدة الناجيات إما بجهود تطوعية أو تعاون مع منظمات أو تبرعات، لأجل تقديم دعم نفسي والعودة إلى الدراسة وإقامة مشاريع صغيرة لهن. فتوضح "أميرة": "الضغط زاد بعد خروج هذا العدد الكبير بعد تحرير السجون".



انزوت "حنين" عن أعين الجميع مع أولادها ورفضت مقابلة أحد: "من لما طلعت لهلا ما عم أطلع من البيت".

لا تعلم "إن كانت تنتظر معجزة تحدث أم شيئا آخرا لتكسب مالا يمكنها به تغيير سكنها وبدء حياة جديدة مع أسرتها!".

في كل ليلة، تنام وهي تتذكر ذلك الرقم الذي حصلت عليه في السجن وحل محل اسمها، تحاول قتل أفكارها، لتستقر في عقلها فكرة واحدة وهي التركيز على ما تسعى إليه.

بينما، تخفي "شام" جسدها الشاهد على سنوات سجنها، وتذهب إلى جلسات العلاج النفسي عند الطبيبة "ميلانا". فهي منفذها الوحيد بعدما منع أهلها عنها الهاتف وكل وسائل التواصل الاجتماعي.

تدفعها "ميلانا" لتتجاوز. لكن تقاطعها "شام": "هل سأعود إلى دراستي!، هل سأعوض سنوات عمري، ومن الذي يتزوج معتقلة مغتصبة؟، لقد صرت عايبه".

في أغلب المرات، تعجز "ميلانا" عن الرد، فتقول بعدما تغادر "شام" وكل الحالات: "بنهاية اليوم، يكون صدري ثقيلا جدًا. لازال عدد منهم حتى اليوم لما بيحكوا، يخفضن صوتهن، لازال الخوف باقيا داخلهن رغم رحيل النظام، غير تهديد بعض الأهالي".

وتكمل: "دموعي تنزل أكيد وأجففها لأعود إليهن من جديد، والآن أنسق مع عدة جهات لدعم فتح مراكز لمعالجة الناجيات وإعادة دمجهم بالمجتمع وتوثيق الانتهاكات لنقيم دعوات قضائية ونجلب تعويضات".

وبدافع كثير من التعب واليأس، استجابت "آمال" لرغبة أسرتها وسافرت إلى تركيا، "فلا شيء يمكنها البقاء والتحمل لأجله"، كما تقول.

تجلس أمام التلفاز وتتابع الأخبار، ثم تمسك هاتفها، محاولة التواصل مع أبنائها عن بعد لعلهما يأتيان إليها يومًا. تسند رأسها على الوسادة وأثر صعق لا زال جليًا على جبينها، وتقول: "هل سأظل وحيدة بقية حياتي؟ لن أرى أولادي مرة أخرى؟". ولا تخفي في بقية حديثها: "صرت أفكر في الانتحار كل يوم وأعود عنه".

على شاشة التلفاز، ثمة جدل يدور حول حقوق النساء – وهن يشكلن نحو 50% من سكان سوريا- في نسخة البلد الجديدة بعد رفض أحمد الشرع مصافحة وزيرة خارجية ألمانيا، وتعيين شادي الويسي وزيرا للعدل، وهو الذي أشرف على إعدام سيدتين عام 2015.

يتردد هذا النقاش على القناة داخل عيادة الطبيبة "ميلانا"، التي يدق هاتفها، ليأتيها خبر انتحار إحدى السيدات المحررات اللاتي خرجن الشهر الماضي من السجن. تغلق الهاتف ووجهها جامد وتقول بأسٍ: "كل الأدلة الطبية تشير أنها حالة قتل، لكن من المستحيل إثبات ذلك، وسط تعتيم الأهل والمجتمع، وفي مثل هذه الفترة".

على مقربة، حيث مكتب رابطة الناجيات، تتلقى "أميرة" اتصالا أيضًا: "هناك حالة من سجن صيدنايا ومعها ولدين نتيجة اغتصاب، وهي بحاجة إلى المساعدة"، ولما تحركت مع فريق، اختفت السيدة ورفضت مقابلتهم. وما عرفته "أميرة"، أنها "خافت من لقاء أي شخص حتى لا تصل معلومة لأهلها ويقتلوها!".

شهادات بعض الناجيات

استمع إلى القصة والشهادات في البودكاست التالي


:المصادر

- مقابلات مع السيدات المحررات من السجون

- منظمة ناجيات سوريات (شهادات)

- كتاب "ناجيات" - عن دار جسور للنشر

- تنويه: أخفينا هويات الشخصيات وبعض الأماكن في القصة حفاظا على خصوصيتهن وسلامتهن.


قصة: مارينا ميلاد

إعداد بودكاست: مارينا ميلاد

تحرير بودكاست: أحمد الشيخ

جرافيك: مايكل عادل

تصميم وتنفيذ: محمد عزت

- تم إنتاج هذه القصة بدعم الاتحاد الأوروبي ضمن زمالة حول تأثير النزاعات والحرب على تغطية الصحافة والإعلام، والمحتوى لا يعكس آراء الاتحاد الأوروبي.

- الصور المرسومة مصنوعة بأدوات الذكاء الاصطناعي.