على بعد أكثر من ألفي ميل من حرب غزة؛ حيث العاصمة السويدية "ستوكهولم"، ثمة مكالمة هاتفية معتادة تجريها "كوثر" صباح كل يوم لعائلتها المُحاصرة في القطاع منذ 9 أشهر.. تتسارع دقات قلبها، وتحبس أنفاسها والأجراس تتوالى، تنتظر بلهفة أن تسمع صوت أحدهم وتطمع في أن يكون جيدًا.. لكنه يأتيها مفعمًا بالألم في كل مرة.
فمرة تغطي عليه أصوات القصف والغارات، ومرة أخرى يقطعه انهيار البيت أو الاضطرار للهروب! ومرات كثيرة وكثيرة ينهكه الجوع والخوف بالجنوب.. لا تطيل "كوثر" عليهم حتى لا تفصل هواتفهم، لكنها تشعر "أن كل اتصال كأنه وداع"، حسبما تصف.
وفي اليوم الـ241 من الحرب، جَرى ما كانت تخشاه. فكان اتصالها مع أبيها هو الأخير. انضم إلى ما يقارب الـ38 ألف شخص راحوا ضحية الحرب الإسرائيلية الدائرة منذ 7 أكتوبر الماضي. لكن الرجل، الذي ولد عام 1950 بخيمة ومات في خيمة أيضًا عام 2024، ترك لابنته قصة عائلة تلخص 74 عامًا من النزوح. القصة التي لا تغيب عن رأسها، فكانت تُحكى لها وهي صغيرة، ثم عاشت فصولها السيئة حين كبرت.. وحين رحلت عن غزة، لاحقتها بأسوأ فصولها على الأطلاق.
1950 –في خيمة تبدو عليها كل مظاهر الفقر بمخيم الشاطئ بغزة، ولد محمد دياب (والد كوثر)، وفتح عينيه على حياة "في أوج التشرد"، حسب وصف جدتها، فكانوا يتقاسمون الحمام والمطبخ الذي بنته وكالة الأونروا للنازحين في الخيام.
وفي نفس عام ولادته وعلى مقربة منه، ولدت مستعمرة تدعى "بيت عزرا" ومزرعة "إشكولوت" على أراضي القرية التي طُردت منه أسرته وكان مفترضًا أن يولد بها.
كانت الأم تتذكر دومًا ما جَرى لهم ولقريتهم "حمامة" الواقعة في فضاء غزة، وكيف وصل بهم الحال إلى هذه الخيمة!، وتحكيه لابنها ومن بعده لابنته "كوثر".
فلم تعرف العائلة منذ وجودها مكانًا غير قرية "حمامة" الهادئة القريبة من البحر، التي سكنتها مع 5 آلاف فلسطيني و60 يهوديًا. وعملوا معًا بالصيد والزراعة، فخرج من القرية الحبوب والحمضيات والمشمش واللوز والتين والزيتون.
ثم انقلب كل شيء بالقرية وبحياتهم عام 1948، حين تعرضت "حمامة" لضربات خاطفة من سكان مستعمرة مجاورة، وأدت لمقتل شخص وإصابة عدد آخر، حتى احتُلت في أكتوبر من نفس العام.
وذات يوم "ارتُكبت مجزرة غير معروفة على نطاق واسع، وهي من كبرى مجازر الحرب"، هكذا وثقها المؤرخ الإسرائيلي بِني موريس، لكنه لم يحددها، إنما حددتها جدة "كوثر" وهي تحكي لها. فلم تنس مشهد القوات الإسرائيلية وهي تعدم أهم رجال القرية أمام مرأى الناس لتخويفهم.
ربما أفلح الأمر، وأُرغم جدي "كوثر" على الرحيل. فاحتموا بظلام الليل ونزحوا عبر البحر. وفي رحلتهم، فقدوا طفلهم الأول واضطروا لتركه على الشاطئ واستكمال طريقهم حتى مخيم الشاطئ، تقول الجدة ذلك لـ"كوثر" ودموعها تسقط.
وبمرور الزمن، اختفت ملامح قرية "حمامة"، لم يعد لها أثر إلا في حكايات جدة "كوثر". كَبر ابنها "محمد دياب"، وترك غزة قاصدًا الناصرة، عَمل وتزوج وانجب. اعتقد أن أموره استقرت هكذا قبل أن يكتشف أنه سيواجه ما عاشه والداه لكن بطريقة أخرى.
سكنت أسرة "كوثر" داخل مسجد السلام، الذي عمل أبوها إمامًا له. وعاشوا سنواتهم بمدينة الناصرة "في وضع جيد إلى حد ما"، كما أخبرها أبوها، حتى تغير كل شيء بأواخر الثمانينات.
وقتها، قررت إسرائيل إغلاق المعابر وتنقل الناس بين غزة وأراضي 1948، فعرضوا على أبيها الجنسية الإسرائيلية مقابل البقاء في الناصرة. لكنه رفض، فطردوه إلى غزة.
عاد الرجل إلى غزة، مكان مولده. استقر مع أسرته قرب مخيم جباليا، واستمر عمله كإمام هناك حتى صار "مفتي" مع السلطة الفلسطينية عند عودتها إلى فلسطين بعد اتفاقية أوسلو (1993 – الاتفاقية التي سمحت بحكم ذاتي فلسطيني بالقطاع والضفة الغربية تحت زعامة ياسر عرفات).
في تلك الفترة، ولدت "كوثر" لتكون شاهدة على بقية قصتهم، التي بدأت تدركها مبكرًا.
فحين كانت بمدرستها، بلغت مسامعهم أصوات صاخبة آتية من الشارع، فتهافت الأطفال نحو الشبابيك، ورأت "كوثر" جسدًا ممددًا يحمله شبان ويهتفون باسم الشهيد بصوت عالٍ.. تذكر تفاصيل ما حدث وكأن الزمن لم يمر، فتقول: "كان مشهدًا قاسيًا لطفلة في التاسعة!".
توالت المشاهد المماثلة عليها حتى "ارتبطت ذكرياتها بالقصف والقتل والاجتياحات والحصار والمظاهرات الغاضبة ضد إسرائيل"، كما تحكي.. فتصفها بـ"ذاكرة حزينة و مشوهة".
وطالما أحبت أن تهرب من واقع مدينتها إلى عالم الروايات والأفلام أو إلى البحر القريب منهم، الذي تشعر وهي تمشي إليه، بأن مستوطنة "سديروت" في ناحية الشمال تراقبهم طوال الوقت. لكنها تقول: "لم أخف منها يومًا، بعكس أطفال الجيران، كنت أذهب في أفكاري نحو شوارعها وأتخيل بيت جدتي الذي دُمّر واختفى.. تلك المستوطنة التي أضاءت ليالي الصيف المعتمة لانقطاع التيار الكهربائي عنا كل ست ساعات".
وفي عمر الـ23، عاشت "كوثر" أسوأ أيامها بغزة، حين شنت إسرائيل حربًا قاسية على القطاع عام 2014، ونزحت مع أسرتها إلى مدرسة إيواء تابعة لوكالة الأونروا، ثم وجدت نفسها مُجبرة على ما اسمته بـ"النجاة التراجيدية".
ففي واحدة من ليالي الحرب الدامية، قَطع رن هاتف "كوثر" أصوات القصف الممتزج بـ"شخير" الأفراد النائمين المكدسين جوارها. أخبرها المتصل أن تجهز نفسها للإجلاء من غزة صباحًا مع بقية السويديين، لأن زوجها سويدي (لم الشمل).
مزق هذا العرض مشاعرها وأفكارها، فتقول: "يا لها من ليلة، لم أخبر أحدًا بالاتصال في لحظتها، لم أعرف ماذا كان علي أن أفعل و أقرر!".
وعندما استيقظ والدها لصلاة الفجر، أبلغتهم بأن السفارة السويدية ستخلي رعاياها. ردت الأم بابتسامة كبيرة، بينما غمرت السعادة أبيها، ما جعلها تزداد ارتباكًا.
وحين حلت الثامنة صباحًا، حملت "كوثر" حقيبة واحدة، ولم تقدر أن تودع أخوتها الـ11.. وعند بوابة المدرسة، عانقتها أمها بقوة، وهمس لها أبوها: "ما عمرك بحياتك تفكري ترجعي".
صعدت "كوثر" إلى الحافلة بلا أي تعبير على وجهها. التقت بعائلات من جنسيات سويدية، أمريكية وكندية. تحكي أنهم "كانوا جميعا صامتين بعيون منتفخة وحمراء من كثرة البكاء"، تستحضر ذلك المشهد وتكمل: "ظننت وقتها بأننا لم نبكِ عندما ودعنا أهالينا لأننا كنا في صدمة عميقة وبحاجة ماسة إلى النجاة".
أزاحت "كوثر" ستارة شباك الحافلة، لترى آخر مشهد قبل الرحيل، فكان "عائلات من حي الشجاعية تركض في الشارع وفي يدها وسائد وأغطية".. تقول وشعورها نفسه يبدو أنه مازال حاضرًا: "لن أنسى ذلك اليوم أبدا".
لم تلتق "كوثر" بغزة بعد ذلك اليوم، ربما نفذت نصيحة أبيها، لكنها ظلت تتابعها من مكانها بأحساس مضطرب غير مفهوم، فتقول: "كلما فكرت في زيارتها، يتلبسني الخوف والقلق من الحروب وإغلاق المعابر.. صعب أن تكون من غزة وتعيش خارجها، ذلك يعني أنك تنعم بالحرية والسلام وفي نفس الوقت عقدة الذنب تلاحقك إلى جانب صدمات الحروب السابقة".
ثم تحل حرب جديدة أشد قسوة تجبر الأسرة على الهروب مجددًا وكأنه قدر محتوم على العائلة منذ 74 عامًا. لكن الهروب هذه المرة أكبر وأطول.. قصدوا في البداية منزل شقيقة "كوثر"، وحين عاد أخوهم إلى بيت العائلة ليتفقده، لم يجده ولم يجد الحارة بأكملها، اختفت وسكنها الركام والصمت مثلما اختفت قرية عائلته "حمامة".
تخبرها أمها بما حدث بضعف وآلم "كما لو أن قنبلة استهدفت قوتها التي كانت تؤمن بها دائمًا"، هكذا تصف "كوثر" ما شعرت به.. والحقيقة أن ما وراء هذا الصوت يبرره: القَصف لاحق المنطقة التي لجأوا إليها، فتحطمت نوافذ وأبواب وجدران بيت شقيقة "كوثر"، فهربوا إلى حي آخر وأمضوا الليل في شقة شخص ما، ثم عادوا إليه مرة ثانية لينظفوه واقاموا جميعًا في غرفة واحدة تبقى بها جدران، ومنها تتحدث الأم لابنتها.
تصمت الأم لحظات أثناء المكالمة ثم تقول لها: “أتحدث إليك بينما أشاهد الجيران وهم يخلون منازلهم … لن نغادر، أين نغادر؟” هل تعرف إلى أين يجب أن نذهب؟".
على الجهة الأخرى، أحست "كوثر" أن الحرب مازالت تتعقبها على نحو أكثر رعبًا من كل ما عاشته في الماضي، ضاعت الكلمات منها، فتقول: "شعرت بالعجز التام وحاولت دفع دموعي بعيدًا. ماذا يمكنني أن أجيب والدتي؟".
كمعظم جيرانهم، اضطرت الأسرة إلى الرحيل النهائي من الشمال ناحية الجنوب.. حمل شقيق "كوثر" أبيهم المسن على ظهره ليركض هاربًا من القصف، وجواره، كانت الأم وأبناؤها يرفعون عصي المكانس المربوط عليها قمصان بيضاء حتى مرّوا عن الدبابات في حي الرمال بأعجوبة ثم من الحاجز الذي يفصل الشمال عن الجنوب، كما تروي "كوثر".
وفي الجنوب، تنقلوا أيضا أكثر من مرة حتى استقروا في خيمة في رفح. وهناك أصيب الأب بالتهاب في الرئتين وفقد القدرة على المشي نهائيًا.. حاولت "كوثر" مساعدتهم ليحصلوا على الدواء من خلال مؤسسات وأصدقاء، لكن دائمًا ما كان يأتي رد وحيد: "صَعب".
ولخمسة أيام، انقطع اتصالهم معها. حينها تتداخلت كل الأفكار السيئة في رأسها، فتقول "تخيل أن تتابع الأخبار فقط لتتأكد من أن عائلتك ليست من ضمن القتلى".. وفي أحيان أخرى، تنظر إلى سريرها ومعطفها طويل، وتتخيل شعور أسرتها بالبرد داخل خيمتهم الهزيلة.
يعود الاتصال، وتخبرها أمها بأنها تمكنت أخيرًا من الاستحمام، فهذا لم يعد عاديًا هذه الأيام بغزة. فتقول الأم:"تحت الماء رأيت جسدي لأول مرة، لقد أصبح هيكلا عظميًا".
وفي أحد الأيام، استيقظت الأسرة على هجوم إسرائيل على ملاذ السكان الأخير "رفح"، ففككوا خيمتهم واتجهوا إلى أطرف مخيم النصيرات (وسط غزة) لينصبوا الخيمة هناك.. وسط ذلك، اشتد المرض على الأب وتكاتف معه الجفاف وسوء التغذية.
تأخرت المستشفيات التي تعج بالجرحي في قبوله، فكان الموت أسرع، و"رحل هذه المرة الرحيل النهائي"، كما تصفه "كوثر".
ومثلما ولد بخيمة بلا أي مظاهر فرح، مات بخيمة بلا جنازة ولا وداع.. تبقى لكوثر قصتها التي ستحكيها لطفلها حين يكبر مثلما حكى لها والدها وجدتها. لكن دون أي صور، فكلها دُمرت داخل بيت العائلة.
تيقنت "كوثر" أنها لا يمكنها الفرار من صورة غزة حتى لو ابتعدت عنها بجسدها، تقول عنها: "للأسف لا أعرف التحدث عن المدينة التي تصخب بالحياة، كل أيامي كانت مليئة بالخوف والقلق حتى تعقدت الأمور وأصبحت مدينة محاصرة، ثم انتهى الأمر بها وصارت مدينة الحروب". لكنها تعلم أنها ستزورها يومًا ما، وذلك اليوم، كما تتوقعه: "سيكون مثل الخيال".
المعلومات التاريخية عن قرية حمامة نقلا عن الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية (من إعداد مؤسسة الدراسات الفلسطينية ضمن مشروع مشترك مع المتحف الفلسطيني). التقارير التي نشرتها صحيفة 'فلسطين.
قصة: مارينا ميلاد
الصور: وكالة الأونروا
إنفوجراف: مايكل عادل
تصميم وتنفيذ: محمد عزت