كان مُجرد حلم داخل عبدالرحمن، قبل ثلاثة أعوام تدرب على السباحة، معها شعر بالتحرر من الكُرسي المُتحرك، نسى مشاكل العمود الفقري وآلامه وحقق أكثر من ميدالية ومراكز في بطولات مُختلفة، لكن ثمة أمنية لم يتخلَ عنها؛ أن يغادر المساحة الضيقة لحمام السباحة، وينطلق في رحاب بحر الإسكندرية، يُعانق مياهه ويشعر بأملاحه.
لم يكن يخشى صاحب الـ13 عامًا سوى النظرات التي تُلاحقه حينما يدلف أي شاطئ بكرسيه المُتحرك، صعوبة التحرك على الرمال، أو وجود مساحة تُشعره بالانتماء للمكان. تبدل كل شيء خلال صيف هذا العام، كان عبدالرحمن من أوائل الأطفال الوافدين إلي شاطئ المندرة، يحرص برفقة عائلته على الذهاب كل أسبوع، يفخر والده بما جرى، يعتبرها خطوة تاريخية وأنها تجعل الإسكندرية صديقة لذوي الهمم.
كانت "خروجة" البحر كابوسًا بالنسبة لأسرة هناء محمد، في كل مرة حاولت الذهاب إلى الشواطئ للتنزه تفزع صغيرتها جاسمين، صاحبة الخمسة أعوام ومتلازمة داون، حتى ذهبوا إلى شاطئ المندرة الشهر الماضي، لم تخف الصغيرة كالمُعتاد، بل فجأة تحولت إلى حورية بحر لا تُحب مفارقته، تبكي فقط لأن عليهم مغادرته مع غروب الشمس.
تتكئ الأم على عُكازها، وتقف لمراقبة صغيرتها، تنسى ألام الروماتيد بينما ترى البهجة على وجه جاسمين، تمتن للشاطئ ومفعوله الساحر على روحها، تُعزو الأمر لأنها رأت من يشبهها في المكان فتلاشى الخوف، تتمنى هناء أن يتوفر خدمات أكبر لأصحاب متلازمة داون، وأولها الخدمات الصحية نظرًا لغلاء أسعار الجلسات الخاصة بها، والتي لا يُغطيها التأمين الصحي بشكل كامل.
رغم عناء الرحلة، إلا أن أحمد قرر عدم تفويت تلك الفُرصة. طوال سنوات حياته يسمع الشاب الثلاثيني عن "المصيف"، لكن لا يعيشه، يتمنى التواجد مع أسرته ورفاقه في البحر، لكن تحقيقه كان مُستحيلًا، حتى سمع عن شاطئ المندرة.
قرابة ساعتين والنصف قطعها أحمد من بلدته في محافظة البحيرة إلى الإسكندرية، شُعور لا يُنسى مر به الشاب الثلاثيني، التصقت الرمال لأول مرة بعجلات كُرسيه المُتحرك، ساعده رفاقه على التواجد في المياه رغم عدم قدرته على الحركة، بهجة غمرته مثل أمواج البحر، معها نسى عُمره، وصار طفلًا صغيرًا لا يُريد مُغادرة المياه.
بسبب سكنها بالقرب من البحر اعتادت فاطمة الخروج بابنتها روان للجلوس على شاطىء الأنفوشي بمنطقة بحري، لكن المجهود الذي كانت تبذله في تحريك الكرسي ونظرات من حولها، قلص عدد تلك الزيارات.
وُلدت روان بنقص الأكسجين في المخ ليكسبها إعاقة كاملة، لذا قبل سنوات انضمت الأم إلى رابطة شباب أهل التحدي لذوي الهمم، ومعهم تابعت خطوات المطالبة بوجود شاطئ مُخصص لذوي الإعاقة.تتحقق البهجة للصغيرة رغم عدم قدرتها على نزول البحر كما رفاقها، تصطحبها الأسرة على أطراف المياه، فتُقهقه، فيما تتمنى والدتها أن يحدث تمكين أكبر لذوي الكراسي المُتحركة.
في "المندرة" ينطلق عنان المصطافين، يحاولون تمضية وقتهم بأقصى سعادة مُمكنة؛ لعب، وتشكيل الرمال، إنشاد وغناء، يحتضن المكان كل مواهب الحاضرين.
المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء 2020
قبل ثلاث سنوات بدأ كابتن حازم محمد العمل كمُنقذ في شاطئ المندرة، لكنه لم يشعر بالشغف والحُب تجاه مهنته مُجددًا إلا مع تخصيصه لذوي القدرات الخاصة. منذ بداية اليوم يُحضر المٌنقذ أفكارًا لإسعادهم، وليس فقط حمايتهم.
تعلم ذلك حينما عمل بالخارج في الكويت مُدربًا للسباحة لذوي القدرات الخاصة، ومن وقتها وصارت مُتعته الخاصة التي لا يُضاهيها شيء على مدار 30 عامًا من العمل في تلك المهنة. في البدء يتعرف على إعاقة كل مُنهما لمعرفة كيفية التعامل معهما في لحظات الخطر، ثم كسب وِد وثقة الصغار لمتابعة تعليماته، لكن الجزء المُفضل أكثر له حينما يجد طفلًا مُترددًا في اللعب، يوجه باقي المُنقذين لمتابعة الشاطئ بينما يتفرّغ له للعب معه "رغم إنها مسئولية أكبر، لكن أمتع حاجة بتحصل في يومي".
في عمر سبعة أعوام أصيب إسلام أشرف بمرض ضمور العضلات الذي أقعده عن الحركة، منذ تلك اللحظة وشعر الأب أن صغيره سيُحرم من أشياء عديدة بسبب الكُرسي المُتحرك بسبب عدم تمهيد أي خدمات لهم، يكفي أنه يحمله خمسة طوابق كاملة للخروج من المنزل، فضلًا عن عدم تمهيد الشوارع والمواصلات "ده لوحده خلانا منخرجش إلا مرات معدودة".
لكن مع وجود شاطئ مُخصص لأصحاب الكراسي المُتحركة تبدل الوضع، يتحمّل الأب عناء الدرج وتكلفة المواصلات الخاصة، من أجل أن يرى البهجة في عيون صغيره ابن الثلاثة عشر ربيعًا "إسلام نفسه يكون زي باقي الأطفال في سنه، الموضوع جه مع مبادرة الرئيس لعلاج ضمور العضلات، حاسس بأمل كبير في الأيام الجاية".
تعمل الإسكندرية حاليًا على تمهيد شواطئ أخرى في منطقتي الأنفوشي والعجمي
تم تخصيص 2 كابينة على شاطئ ستانلي لذوي القدرات الخاصة
الممشى بطول 12 متر وعرض 2.5 متر ويتوفر به عوامل الأمان
مساحته 90 مترًا وبه ممشى لمستخدمي الكراسي المُتحركة
افتتح الشاطئ بداية صيف 2021 في منطقة المندرة بالمجان
المصدر: اللواء جمال رشاد، رئيس الإدارة المركزية للسياحة والمصايف
وسط رفاقها تشعر ساندي صالح بالأُلفة، تتحرر من مخاوفها وتتحرك بحرية في الأرجاء، تعلم الصغيرة بفطرتها أنها إذا تعثرت سيساعدها رفاقها، لذا لم تتردد والدتها في اصطحابها إلى شاطئ المندرة، في المكان يُصبح لساندي ألف عين وعين، فتُبصر البهجة أينما ذهبت.
ولدت صاحبة السبع سنوات فاقدة البصر، لكن قلبها يرى كل ما هو جميل حولها، أحبّت الموسيقى فصارت هوايتها الأولى، تُغني وتعزف على البيانو، لا أحد يُعلمها، فقط تستمع إلى موسيقى وتحاول مرارًا لتقليدها، فيما لا تفوّت فرصة للغناء، في الشارع، داخل المواصلات، وعلى الشاطئ صار لها فقرة أساسية مع انتهاء اليوم، بعفوية تُعبر الصغيرة عن مشاعرها "لما باجي هنا ببقى فرحانة عشان بيبقى مجمعنا أنا وصحابي".
حفظت رشا تعبيرات وجه صغيرها، تعرف متى يُدركه الملل، يُشير لها بعلامة تدل على اختناقه من الوضع فتعرف أنه يُريد الخروج مثل شقيقه الأكبر. ولد يوسف بمرض ضمور في المخ وضمور في العصب الحركي أفقده القدرة على الحركة والكلام "نادرًا لما كنا نروح البحر بسبب نظرات الناس، وكرسي يوسف"، لكن منذ افتتاح الشاطئ وتأتي الأسرة كل أسبوع "خصوصًا أنه مجاني".
كي تصل للشاطىء تستقل الأسرة القطار من منطقة باكوس حتى محطة المندرة لتكمل الأسرة طريقها على الأقدام للوصول إلى المكان، لكن يتبدد التعب حينما تلمس الرمال أقدامهما "مبنقدرش ننزل المياه لأنه صعب ليوسف، بس كفاية قاعد قدامه وفي هواء جديد بيتنفسه"، يحاول شقيقه مساعدته والوصول إلى البحر حتى وإن لم يستطع النزول، ينتظر حتى تحل الابتسامة على شفتيه فيعلم أن السعادة أدركته، فيتحرك عائدًا إلى مقاعد الأسرة لاستكمال اللعب سويًا.
لا بديل عن الفرحة هُنا، في شاطئ المندرة تتجلى اليوتوبيا لأصحاب القدرات الخاصة، يتمنون لو أن الوضع صار ممُكنًا لهم، وأن تضحك لهم باقي الخدمات كما فعل البحر.
اضغط على الصور للمشاهدة