على بعد 300 كم من ساحل البحر المتوسط، وتحديدًا داخل معمل الفضة في البيت السيوي، توارت منى محمد المهدي - 26 عامًا - خلف نقابها وطاولة خشبية كبيرة.. تمسك في يدها أدوات معدنية، تدق بها على قطعة من الفضة المتناثرة حولها، لتعكس شكل الحياة في سيوة اليوم، وكيف تحولت من واحة الغروب إلى أرض الشمس والتمر والزيتون.
لم تعاصر الشابة الحاصلة على شهادة الثانوية الأزهرية زمن المعيشة على إضاءة النيران والشموع في الزمن البعيد. بينما تتذكر زمن انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، والذي تزامن مع سنوات طفولتها ودراستها.
كان انقطاع الكهرباء حائلًا بين محمد يوسف ومشروعه على مدار سنوات.
فالرجل السيوي الذي قارب على الأربعين عامًا، احترف تعبئة وتسويق التمور منذ عام 2007، لكنه كان دائمًا ما يستخدم شركات وسيطة لإتمام عمله، نظرًا لقلة المبردات في الواحة النائية، وعدم سهولة الحصول على موافقات لإنشاء ثلاجة جديدة لحفظ التمور، بسبب الإنتاج المحدود للكهرباء، يقول يوسف "حينما كنت أطلب إنشاء ثلاجة دائما ما كان ذلك يقابل بالرفض بسبب أن الكهرباء المتاحة محدودة".
ولكن مع وصول الطاقة الشمسية إلى الواحة، آن لحلم يوسف أن يتحقق، وتضاعفت كمية الثلاجات الموجودة في الواحة 4 مرات عن عام 2010 وما قبله. حتى اكتمل مصنع شالي لتعبئة التمور في عام 2017.
يقوم مصنع شالي حاليًا بحفظ وتعبئة وتغليف التمور، دون أن يتدخل في مواصفاتها وخصائصها، وهذا يتطلب عدة مراحل، جميعها تحتاج إلى الكهرباء.
يقول يوسف "هدفنا الوصول بتمور سيوة للعالمية.. وحققنا 60% من ذلك الهدف خلال 3 سنوات، ففتحنا أسواقا في آسيا وأوكرانيا والمغرب، ونتطلع إلى المزيد، خاصة وبعد أن أصبح الاستثمار في التمور اتجاها قوميا، وما كان لذلك أن يحدث بدون استقرار الكهرباء بفضل الطاقة الشمسية".
أما على مستوى الواحة، فجميع عمال المصنع من شباب سيوة، كما فتح بابًا جديدًا لعمل آمن لفتيات الواحة البدوية، يروي يوسف "كانت الفتاة السيوية لا تخرج من المنزل، ولكن بعد إنشاء مصنع التمور، وفرنا لها بيئة عمل آمنة، مع الحفاظ على العادات والتقاليد، وبدون أي اختلاط".
عام 1997 كان يجلس النجار "عيسى عبدالله موسى" بين عماله في قرية تحت الإنشاء، على الأرض حول أطباق الطعام المطهو من دون ملح، اقترح أحدهم الذهاب إلى مكان بعيد لجلب بعض الملح ثم والعودة، فجاء رد عيسى تلقائيًا وسريعًا "كل سيوة عبارة عن ملح".
قطع عيسى بمنشاره شقفة صغيرة من ملح الأرض بسيوة، ونظفها، وأضافها إلى الطعام، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف عن التفكير في الأمر.
وفي أحد الليالي، وجد عيسى إلى جواره قطعة ملح كبيرة بيضاء وشفافة، حمل قاطع الأخشاب من صندوق عدته، وبدأ في تشكيلها فوجدها تتحول إلى "أبجورة" بين يديه، ومن هنا كانت البداية.
أعلى قلعة شالي (سيوة القديمة) وقف شاب أشقر لبناني الجنسية منبهرًا، يتوسط زملاءه وهم يخلطون الملح بالطين، لترميم القلعة التي يعود عمرها إلى القرن الثاني عشر الميلادي.
جاء المهندس أحمد أبودهار مع زملائه طلاب الدراسات العليا في الجامعة الأمريكية ببيروت، يدرسون كيف يمكن بناء مدينة وقلعة كاملة من الطين والملح، ثم تعيش مئات السنين! حاول المعماريون الشباب تطبيق ذلك في لبنان، لكنهم فشلوا بسبب اختلاف المناخ، لذا شدوا الرحال نحو سيوة.
على بعد ساعة إلا ربعا من وسط سيوة، يقع كامب علي خالد في قلب الصحراء لمحبي الاستجمام والهدوء.
في نفس العام، الذي أنشئت فيه محطة الطاقة الشمسية بسيوة، فكر علي خالد و7 من رفاقه تأسيس هذا المشروع، الذي كان في البداية عبارة عن 10 أكواخ من البوص، وعين للمياه الساخنة.
ثم تطور المشروع على مدار السنوات، ليضم 10 غرف أخرى، جميعها مكيفة ومزودة بالكهرباء.
يقول محمد عمر، المسؤول عن الحجوزات، أحد مؤسسي المشروع، "لولا الطاقة الشمسية ما كنا استطعنا تأسيس هذا المشروع، الذي بدأنا نفكر فيه بعد ثورة يناير 2011، ولا استطاعت الكهرباء أن تصل إلى هذا المكان البعيد في عمق الصحراء".
لم يقتصر الأمر على ذلك، فبعد انتشار ثقافة توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية في سيوة، أسس كامب علي خالد محطة توليد كهرباء بالطاقة الشمسية خاصة بالكامب، لضمان توفير الكهرباء في جميع الأوقات، وإنشاء أعمدة الإنارة في جميع أنحاء الكامب، بالإضافة إلى السخانات التي تمد عين المياه الدافئة بالحرارة، حتى يستخدمها السائحون في السباحة ليلًا.
وعلى العكس تمامًا، رفضت قرية "أدرير أميلال" جميع أشكال الطاقة، حتى النظيفة منها.
على بعد ساعة من قلب سيوة، تقع أربعون غرفة متفرقة في الصحراء مصنوعة من أحجار الكرشيف المكونة من الطين والملح، في مواجهة بحيرة طبيعية متاخمة لهدوء الصحراء.
الطبيعة البدائية تغلب على هيئة المكان الذي بني منذ عشرون عامًا، لا إضاءة، لا هواتف محمولة ولا كهرباء، الجميع هناك يكتفي بما تمنحه الطبيعة.