استعصت ذكراهم على النسيان، لكن لم يجد أهل 13 من الأقباط الذين ذُبحوا في ليبيا على يد تنظيم "داعش" قبل عامين، مقابر يذهبون إليها ليزورونهم ويصلون لهم كعادة من يتذكروا محبيهم الذين رحلوا؛ فحتى هذه اللحظة لم تصل جثامينهم بعد، قرروا صُنع مقصد يلجأون إليه عند الاشتياق، فكان "المزار".
"المزار" هو عبارة عن "فاترينة خشبية" في بيت كل أسرة ضحية، مكتوب أعلاها اسم الشخص الراحل، وداخلها مقتنياته الموجودة في البيت والعائدة من ليبيا، يجاورها صور لقديسين في المسيحية وصلبان خشبية وشموع. خصص أغلبهم غرفة لهذا المزار، يجتمعون فيها للصلاة لحين عودة الجثث - التي عثرت عليها السلطات الليبية مؤخرًا - إلى الكنيسة الموجودة بمدخل قريتهم "العور" بمحافظة المنيا، والتي تستعد حاليًا لهذا الحدث.
شنودة شقيق مينا، يقول "إنهم أول بيت يفكر في عمل مزار عند نجار بسمالوط، وبعدها اقتبست باقي الأسر الفكرة"، ولم تكتف أسرة مينا بتخصيص غرفة كاملة للمزار، بل ركبت "سيراميك" جديدا وأعادت طلاء جدران البيت، ليكون شكله مناسبًا عند استقبال الزيارات.
والدته تيرزا عطية تصف المزار بأنه "الرائحة الباقية منه".
بعد ما انتهت زوجته، ملكة عياد، من صنع المزار عند أحد النجارين بالقرية، اكتشفت أنه لا يليق به، وقررت صنع مزار جديد، ووضع صورة كبيرة لزوجها في الوسط، لتشعر كما تقول إنه "معها وفي وسط بيته".
تعتبر والدته، ملكة يوسف،المزار هو "الونس" بالنسبة لها.
احتفلت أسرة ميلاد بذكرى ميلاده الشهر الماضي أمام المزار، وحضر كاهن الكنيسة القريبة للصلاة له.
وكانت زوجته، مريم شحاتة، أقامت المزار بعد الذكرى السنوية الأولى له، ولو أنها كانت تتمنى أن تقيمه بعد وفاته مباشرة، وصنعت حوله إضاءة مناسبة: "كل ما اشتاق له أدخل المزار، أقعد معه، وحتى من قبل ما يتعمل المزار هو مش سايبنا".
كان شعور والدته، عزيزة يونان، بالفخر هو سبب تفكيرها في إقامة مزار له، والذي يقول عنه والده، إبراهيم سينوت: "بالنسبة لنا تذكار كبير، يحفظ أشياءه من الضياع".
عندما تذهب زوجة صموئيل للمزار تشعر وكأنها تجلس معه، وهو أكثر ما يسعدها.
ينتظر والده، ميلاد سنيوت، وصول الجثامين لينقل كل هذه المقتنيات إلى مكانها الصحيح داخل الكنيسة بجوار جثمانه: "عايزين الشهداء كلهم جنب بعض بحاجتهم".
حين ترغب والدتهم، إيزيس غطاس، لمس مقتنياتهما، لا تجد أمامها سوى "التونيات" (زي شمامسة الكنيسة) الخاصة بهما. وهي ترى أن المزار يصون مقتنياتهما، مثلهما مثل القديسين في المسيحية الذين يُقام لهم مزارات شبيهة داخل الأديرة.
في أيام مختلفة تجتمع عائلة أبانوب داخل المزار، الذي كان غرفته في السابق، لتصلي وتقرأ الإنجيل معًا، وهو ما يمثل لهم وبالتحديد لشقيقته ماجدة عياد "فرحة كبيرة"، لذلك تقول إنها "تبتسم دائمًا وهى داخل المزار، ولا تفكر في البكاء ابدًا".
اختارت والدته، منى سليمان، شقته التي بناها قبل سفره إلى ليبيا لتكون مكان المزار:"سافر لكي يستكملها ويتزوج بها، لكنه لم يفعل وأصبح عريس في السماء".
كانت سعادة مريم، زوجة ماجد، ممتزجة بالبكاء عندما علمت بقرب عودة الجثث، والآن هي تنتظر وصول أي شيء من هناك حتى وإن كان التراب، لتضعه بجانب مقتنياته التي حفظتها في المزار طوال العامين الماضيين، وتنقلهم إلى الكنيسة.