بعد أن ينتصف الليل؛ يبدأ القصف الروسي. اعتادت كاتيا فولشكو، التي تقيم بمحطة مترو "فيستافكوفي تسينتر" بالعاصمة كييف أن تفزع من نومها في مثل هذا الوقت.
ترتجف "كاتيا" ثم تلتصق بزوجها لتطمئن. وتهمس: متى ينتهي كل هذا؟.
أصبح ذلك مشهدًا مألوفًا لها منذ تلك الليلة التي تركت فيها بيتها ولجأت إلى المترو لتجلس وسط هذا الكم من الغرباء، الذين يشاركونها الخوف نفسه.
هذا التوقيت يذكرها بيوم 24 فبراير، اللحظة التي قلبت حياتها وكل شيء حولها. عندما استيقظت على أصوات الانفجارات التي أعلنت بداية الغزو الروسي على أوكرانيا.
لم يطل استغرابها آنذاك؛ فتوقعت أن الحرب آتية. فقد تابعت التهديد الروسي وتعزيزه العسكري على حدود بلدها طوال الأسابيع التي سبقت الغزو.
وقتها؛ كان أمامها وزوجها 20 دقيقة فقط للوصول إلى هذه المحطة؛ بحسب التعليمات السابقة، التي حددت استخدام مترو الأنفاق كملاجئ عملاقة للحماية من القنابل والقصف الجوي.
ركضت "كاتيا" وزوجها نحو المحطة. أعداد كبيرة كانت تتجه معهما إلى الداخل: مسنون ورجال ونساء وأطفال يحملون حيواناتهم الأليفة. لم تصدق أن كل هذا حقيقي: "شعرت أنه جزء من فيلم مروع.. فكيف يمكن في القرن الـ21 أن يُجبر مدنيون مسالمون على ذلك؟!".
الآن تجلس "كاتيا" وسطهم وتدور في رأسها أسئلة بلا إجابة: هل ستعود إلى حياتها الطبيعية وعملها كمديرة شركة تعليمية دولية؟، هل سيأخذون زوجها إلى هذه الحرب؟، وهل ستجتمع بأهلها مجددًا؟.
في المترو شعرت بأمان قدر الإمكان لأنني أدركت أن شقتي الموجودة في الطابق التاسع عشر لم تكن خيارًا بالنسبة لي
في الخط الأول من مترو "كييف"؛ وجد ماركو مرقص أعدادًا أضخم بكثير بالمقارنة بمحطة "كاتيا" الموجودة بالخط الثاني. فهو يسكن وسط العاصمة؛ حيث يُشبه محطته Universytet”" بمحطة الشهداء في القاهرة، لكنها أعمق كثيرًا.
ينتفض "ماركو" بمجرد سماعه صوتًا قادمًا من ميكروفونات المحطة؛ فبالتأكيد سيأتي بأخبار سيئة. لكنه يهدأ مؤقتًا حينما يجدها تنبيهًا للأشخاص الجالسين على القضبان.
في تلك اللحظة؛ ربما كانت صدمة "ماركو" أكبر من "كاتيا"؛ فلم يتوقع أن تصدق تهديدات روسيا؛ لذا لم يستمع إلى النصيحة بالعودة إلى مصر، ولم يحضر ما أسمته "كاتيا" بـ"حقيبة إنذار". فبالكاد استطاع جلب حقيبة ظهره وبها موبايل، لاب توب، وأوراق الجامعة.
يزيد على خوفه شعور بالحسرة. فبضعة أشهر تفصله عن التخرج من كلية الهندسة بعد أن قطع مشوارًا طويلا وشاقًا من محافظة المنيا بصعيد مصر إلى كييف قبل خمس سنوات.
على بعد نحو 500 كم من "ماركو" و"كاتيا" ؛ كان أحمد عصام (٢١ سنة) والذي يدرس الطب بجامعة خاركيف الوطنية، يقيم مع أصدقائه بالمترو القريب من منطقة نكوفا.. والوضع خارجه يسوء كل يوم؛ فالقصف تركز على مدينته: "أصبحنا مُشردين في لحظة".
على ما يبدو أن الجميع لديهم قصة يروونها لبعضهم عن أنفسهم وخططهم التي أفسدها الحرب.
فيحكي "أحمد" لأحد الأشخاص الذي يجاوره بالمحطة أنه يدرس الطب هنا على نفقته الشخصية منذ أربع سنوات. فهذه أمنيته التي حال بينه وبينها في مصر مجموع الثانوية العامة. وكان ينوي بعد تخرجه أن يكمل الماجيستير في مصر أو يسافر على دولة أوروبية.
لكن الصواريخ التي شاهدها من نافذته بالطابق الـ13 قد دمرت أبنية المدينة ومعها حلمه.
حقيبة الإنذار التي جهزتها "كاتيا"؛ بها بطانية لها ولزوجها، ملابس ثقيلة، حصائر، و"ترمس" شاي. أعدت بذلك ركنًا لهما بالمحطة.. لا تفعل شيئًا ولا تفكر في شيء.. فقط تحاول استيعاب ما يحدث: "كل الناس مرهقة وغاضبة إلى أقصى درجة.. فهذا وضع مؤلم جدًا".
لكن أكثر ما كان يقلقها هو عائلتها التي تعيش على مقربة من الحدود مع روسيا. فتقول إن "القوات الروسية تقيم كمائن لهم وتتصرف بوحشية".
كل شيء مخيف للغاية، وأنا قلقة جدا على أقاربي ولا يمكنني فعل أي شيء ولا يمكنني الوصول إليهم بأي شكل من الأشكال. إنه كابوس لنا جميعًا.
وقد مَثل الشرق الأوكراني التي تسكنه عائلة كاتيا "حصان طروادة" للغزو الروسي، تحديدًا منطقتا دونيتسك ولوهانسك اللتان تخوضان حرباً ضد القوات الأوكرانية منذ 2014 للانفصال، واعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستقلالهما قبل أيام من الحرب. وذكر أن حربه تلك دفاعًا عنهما.