المعابدة: "العزوة رجال"
مع شروق شمس أحد أيام أكتوبر الماضي، انطلقت سيارتنا من مدينة أسيوط إلى مركز أبنوب، وبعد أن قطعنا الجزء الحضري من المركز، استلمنا طريقًا سريعًا ضيقًا لا يسع سوى سيارة في كل اتجاه، يحده من جهة أرض زراعية منخفضة، ومن الجهة الثانية شريان صغير من نهر النيل، وفي المنتصف تتعانق أوراق الأشجار وتخيم بظلال كثيفة على العابرين.
بني المحمديات ثم كوم منصورة ثم شقلقيل، هكذا أعلنت لافتات كبيرة عن القرى الموجودة على الطريق المستقيم. أسراب من الأطفال في أعمار مختلفة يرتدون ثيابا موحدة بالية، يوزعون الابتسامات، ويتبادلون المزاح بوجوه ناعسة ويقطعون الطريق في اتجاههم إلى مدارسهم. وأخيرا، عثرنا على لافتة سوداء صغيرة كتب عليها "مركز ومدينة أبنوب يرحب بكم في قرية المعابدة"، القرية التي تحتل المركز الثاني من حيث عدد المواليد في ريف مصر.
إعلان
إعلان
شارع صغير غير ممهد معبأ بالغبار المتطاير، يفصل شرق القرية عن غربها، كما يفصل بين منازل عائلتي "الطحاوية والخرابزة"، التي تركت الثقوب الغائرة في حوائطها، لتكون شاهدة على انطلاق رصاصات الثأر بينهما من الحين للآخر.
لم يتسنَ لنا طرق أبواب البيت الأول، لم يكن له بابًا من الأساس، افتُرشت في مدخله طاولة صغيرة اعتلتها بعض الحلوى والكشاكيل والأقلام، لجأ إليها "عم سعد" بعدما أنهكه السفر، كي يسد رمق زوجته وأبنائه السبعة.
لم يتذكر الرجل الصعيدي الأشيب كم عمره، بينما كان يعلم جيدًا عام ميلاده، 1953، رُزقت أسرته الميسورة بأحد أبنائها السبعة، بينما ابتلع نهر النيل في العام نفسه جميع أطيانها على جزيرة المعابدة.
نكبة حلت على العائلة، على مدار سنوات ما بعد ثورة يوليو، انتظرت الأسرة دورها في الفرج بأن يمنحهم الرئيس جمال عبد الناصر أرض بديلة كبقية فلاحي المعابدة، إلا أن الزعيم وافته المنية قبل أن يتم المراد.
بلغ الشاب الأُمي عامه الرابع والعشرين دون زواج، لم يرض والده عن ذلك، في ليلة وضحاها تمت خطبته لابنة عمه "ناصرة" فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، "لم يكن هناك حكاية"، تقولها سيدة الدار التي وجدت نفسها منذ عقود طفلة مخطوبة لمدة 4 سنوات، قبل أن تتابع بلكنة صعيدية: "مكنش حيلته حاجة.. واد عمي".
ارتحل سعد طيلة تلك السنوات كي يستطيع تجهيز عش الزوجية، غرفة في منزل الأهل المبني على تبة عالية من الطوب اللبن، تشهد صرخات ميلاد طفل جديد كل عامين "الواحدة مننا لما بتتجوز بتفضل تخلف لحد ما يريد لها ربنا"، تقولها ناصرة بتلقائية مبررة ذلك بعبارة "عوايد الفلاحين". صبي ثم فتاة، ثم صبي، ثم صبي توفى يوم سبوعه، ثم صبي وفتاتين، صمتت الأم لبرهة، وانكسر صوتها المتفاخر، وهي تقول "الكبيرة ماتت بمرض خبيث".
لم تعد الغرفة تسع العائلة الكبيرة، واصل الرجل ترحاله داخل مصر بين القاهرة وقنا والأقصر، وخارجها في الأردن الكويت، اشتغل في المعمار وحمل مواد البناء "على كتفه"، بينما ضيقت الأسرة على نفسها حتى أنها لم تتم تعليم الأبناء، في سبيل أن تشتري بيتا تسعهم جدرانه. ثلاث حجرات بدون أبواب، سرير واحد في غرفة، وحصيرة و"طبلية" في غرفة أخرى، جاموستان وثلاثة دجاجات في الباحة الخارجية. هذه هي كل مكونات منزل سعد.
"دول بتوع ولدي هيتجوز بيهم".. قالتها الأم وهي تشير إلى البهيمتين، وكأنها تخشى أن يصيب الحسد ابنها الأوسط الذي تخطى عمره الثلاثين دون زواج. استلم الشاب الترحال عن أبيه، وامتهن الحرفة نفسها بالقاهرة، يحوّل أمواله التي يجنيها لوالديه ليضعونها كثمن لهاتين الجاموستين حتى يستطيع أن يتم زيجته من ابنة عمته، التي خطبها قبل ثلاثة أعوام.
أما الدجاجات الثلاثة فهي طعام الأسرة لمدة شهر قادم، "لو ماتوا يبقى أجرنا على الله"، تقولها الأم بسخرية موجعة، قبل أن تستطرد في الشكوى من ضيق الحال.
نسألها عما إذا كانت ستنصح ابنها أن ينجب سبعة أبناء، تنفرج شفتاها بابتسامة واسعة وكأنها فهمت الغرض من السؤال "إللي يديه له ربنا كويس"، تفكر قليلا قبل أن تتابع باقتناع: "عندنا في الصعيد بنقول ربنا يجعل عزوتك رجال مش مال"، يلتقط منها زوجها طرف الحديث محاولا أن يفسر المثل الدارج بنبرة جادة "هنا في الصعيد، الناس عم تقتل بعضيها، البيت إللي فيه رجالة كتير محدش بيقدر يقربله، وإللي فيه نفرين ميعملولوش حساب.. عرفتي إحنا بنجيب عيال كتير ليه!".
أعادت عبارات سعد المرارة إلى حلق زوجته، ما جعلها تبوح بعبارات متلعثمة عن القلق الذي يساورها كل ليلة على ولدها الذي تنتظر زواجه بفارغ الصبر.
بينما يخيم الليل على المعابدة، تختفي كتائب الصغار من الشوارع، ويزفر الرجال أدخنة الأراجيل على المصاطب، تنتشر سرادق الأفراح والعزاء، ويتملك الرعب من قلب ناصرة خوفا من أن تطول ابنها نيران الثأر التي طالت أبناء عمومته في رمضان الماضي، فاستدعت الرد، وفي المقابل تنتظر العائلة الرد من الجانب الآخر، ولا أحد يعلم من هذه المرة سيكون القتيل.
إعلان
إعلان
صور وحكايات
"كريم" طفل لم يكمل عامه الثاني -بعد بحسب تأكيد والده-، يلتقط سيجارة منطفئة في فمه، يهلل الأطفال ويطلقون عبارات ساخرة، يخرج والد الطفل من المنزل، شاب صغير في مقتبل العشرينات، يترقب الجميع، ربما سيلقنه علقة ساخنة، لكن يشعل الأب لصغيره السيجارة، ويبدأ الأخير في زفر دخانها بمهارة أربعيني أنهكته الحياة.
تزوجت سميحة قبل أن تتم الـ16 عاما، وأنجبت 4 أطفال، بنات وصبيان، وهي في مقتبل العشرينيات. ورغم ضيق الحال، تنتظر عائلة الزوج المزيد من الأبناء، تنشب المشاجرات كلما أفصحت عن رغبتها في استخدام وسائل منع الحمل، أو حتى ترك مسافات زمنية معقولة بين الأبناء، وحينما سألناها عن المبرر، قالت بلهجة واثقة "هو عايز عيال وخلاص علشان هو كده".
إعلان
إعلان
4 بنات جئن واحدة تلو الأخرى، وعلى الرغم من أن والدهن، محمد علي - 41 عاما، يعرف جيدا أن الحياة لا تحتمل أكثر، أصر أن يستمر في الإنجاب حتى جاء الصبي، لم يُعلم بناته، بينما يطمح في تزويجهن، أما الصبي المنشود، فخرج هو أيضا من التعليم ليعين والده. "أخ يسند أخوه" هي أمنية الأب الوحيدة الآن رغم كل شيء.
لا تعلم سحر كم عمرها، ولا تعرف في أي سن تزوجت، ربما 14 أو 15 عاما، تزوجت عرفيا قبل 9 سنوات، كانت تظن أن هذا هو مخرجها الوحيد من الفقر، إلا أن الحقيقة لم تكن كذلك، أنجبت 5 أبناء حتى الآن لم تسجل أيا منهم، ترفض حتى محاولة استدعاء ذكريات مراسم زواجها، فتقول باندفاع "كانت سودة"، ثم تشير إلى بقايا الأواني الفارغة التي لا تمتلئ سوى بالجبن القريش وكسرات الخبز.
بدا المشهد دراماتيكيا، فوق سطوح المنزل جلس "علي" يغازل أفراخ الحمام، وهو يدندن بأغانٍ لا يحفظ كلماتها بصوته العذب، وفي الأسفل، بدت والدته "أم كلثوم" ستينية العمر على الرغم من أنها لم تتم عامها الـ47، أنجبت ولدان في البداية "ربنا ماسمحناش فيهم"، تقول السيدة، وبعدها أنجبت 7 أبناء وبنات، انتحر أحدهم في سن الرابعة عشرة، بعد أن تشاجر مع شقيقه الأكبر على ثمن الكتب، وعاد الشقيق الأكبر إلى أمه في صندوق خشبي بعد أن صعق بالكهرباء أثناء عمله في الفاعل بالقاهرة، تأبى دموعها أن تنهمر وهي تقول بثبات "عايزة أموت وأروح أنام جمبيهم"، ولا يمنعها عن الانتحار سوى وجود علي وباقي أشقائه.