جاءت لزهرة ابنتها الكبرى التي أكملت في 17 أكتوبر الماضي عشر سنوات، وسألتها عن حفلة عيد ميلادها، فأجابت الأم بما يُخيب آمال الطفلة: "ما في! نحن كل يوم عِندنا شهيد".
لكن مع إصرار ابنتها، اشترت زهرة "الكيك"، فسارعت الأخرى بالتقاط صورة لها ونشرتها على "واتس آب"، وعلقت: "عيد ميلادي في الحرب". وقتها رُدت الصدمة لأمها.
تعرف صاحبة الأربعين عامًا أن بناتها الثلاثة (5، 9، 10 سنوات) لم يفهمن الحرب الدائرة حولهن؛ حيث ولدت الكبرى قبل بدايتها بعامين، والوسطى بعام واحد، والصغرى خلالها: "مرات بنقعد وبيسألوني. عقلون صغير ما فيني اشرحلون. شو الأكراد وشو النظام وشو بدو أردوغان وشو جيش حر. بيقولوا ليش العالم تتقاتل. بس حتى أنا مو فهمانة شي لرد!".
تركت زهرة ابنتها تأكل الحلوى، وجلست تتابع نتاج لقاء مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي، مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، للاتفاق على وقف الهجوم الذي شنته تركيا على شمال سوريا: "أملنا بهالاجتماع. ولهلأ ما وصلوا لشي!".
أخفت زهرة وجهها ووجه ابنتيها خوفا من أن يعرفهن أحد هناك
إعلان
حتى مساء الثامن من أكتوبر الجاري، كانت حياة زهرة مع بناتها في بيتهن بمدينة رأس العين هادئة؛ عادت من عملها كممرضة بإحدى المستشفيات، وجلست ابنتاها الكبريان لمذاكرة دروسهما؛ حيث بدأت دراستهما قبل أسبوعين.
لكن في اليوم التالي، أفاقت زهرة وبناتها على أصوات قصف تحيط بها، وسرعان ما أصابت قذيفة بيتها. شدت بناتها وهن يبكين، ولم تستطع أن تحمل أي شىء معها، هبطت الدرج المدمر، أوقفت سيارة لا تعرف كيف وقفت لها، واتجهت نحو مدينة القامشلي، حيث بيت والدتها وأخيها.
"رأس العين خربت ماضل في شي". تقول زهرة عن آخر ما عايشته في المدينة قبل أن تخرج منها مع آلاف النازحين.
كل ذلك؛ فقط لأن زهرة سورية، كردية، تسكن مدينة يريدها الرئيس التركي ضمن ما يسميه "المنطقة الآمنة" على الحدود بين البلدين.
تقول الأمم المتحدة إن أكثر من
نزحوا من منطقة شمال شرق سوريا التي يقطنها حوالي 3 ملايين شخص واستقر كثير منهم عند أقاربهم
أو لدى مجتمعات محلية مضيفة، لكن أعداداً متزايدة وصلت إلى ملاجئ جماعية، بما فيها مدارس
اليوم الأول
إعلان
قبل 6 سنوات
لم يكن هذا هو النزوح الأول لزهرة، فرأس العين لم تكن مكانها إنما حي الغويران بمدينة الحسكة الذي تزوجت فيه وظلت به حتى حل عليهم تنظيم "داعش" غريبًا مخيفًا، فهربت من ذلك الحي إلى رأس العين قبل 6 سنوات.
فقدت زوجها في تلك الأيام بعدما تعرض إلى حادث سير، وباتت منذ ذلك الوقت تتحمل مسؤولية بناتها وحدها.
لم تواجه زهرة أيام أكثر قسوة من تلك الفترة، التي كانت تفصلها فيها عن مسلحي التنظيم أمتار معدودة.
لم تعرف زهرة لحظة أكثر سعادة في سنوات الحرب ببلدها من لحظة تحرير آخر نقطة للتنظيم وانتقال السيطرة في منطقتها وأغلب الشمال السوري إلى قوات سوريا الديموقراطية، التي يشكل قوامها عناصر كردية.
تدرك زهرة جيدًا أن هذا هو أفضل السيناريوهات لهم (كأكراد بالطبع)، فهم لا يريدون جيشًا حرًا أو جيشًا نظاميًا.
مناطق يسكنها الأكراد
زهرة هي واحدة من مجتمع يشكل ما بين 7 إلى 10 في المائة من سكان سوريا، يجمعهم العرق، والثقافة، واللغة، وفي الغالب يسكنون نفس المناطق. يعيشون واقعاً الكل فيه يعاني لأسبابه، لكن ثمة سبباً واحداً يشملهم جميعًا وهو أن الكثيرين – سلطة ومواطنين - لم يعتبروهم أو يعاملوهم على أنهم سوريون بالفعل!
فقبل 57 سنة جٌرد حوالي 300 ألف كردي من الجنسية السورية، وتم مصادرة أراضيهم لصالح العرب. لحسن الحظ لم يشمل التجريد أسرة زهرة، ولم يكن لديهم أراضِ ليأخذوها، لكن لم يبتعد الأمر عنها كثيرًا، فعانت أسرة عمتها من أن أبناءها الـ7 ولدوا بلا جنسية سورية، ومرت عقود حاولوا فيها لكن كانت النتيجة "لا شيء"؛ حتي حصلوا عليها قبل شهر واحد حسبما تقول زهرة إنه "بسبب تواصلهم مع وسطات في دمشق".
تحلم زهرة مثل أكراد آخرين أن يكون لهم دولتهم المستقلة "كردستان"، والتي حاولوا أن يؤسسوها في مطلع القرن العشرين، إلا أن معاهدة لوزان جاءت ووضعت حدود دولة تركيا، ولم تسمح لهم بوجود دولة كردية، وظلت فكرتهم تواجه المعارضة الشديدة من الدول التي يسكنونها، إلى أن انتهى بهم الحال كأقليات.
إعلان
توجه القصف إلى مدينة القامشلي القريبة من الحدود التركية، والتي هربت إليها زهرة، ليقطع احتفال ابنتها المتواضع بعيد ميلادها.
بعد وقت قليل، انتهي لقاء الرئيس التركي ونائب الرئيس الأمريكي. الذي كانت تتابعه زهرة باهتمام.
يبدو أن الأخبار إيجابية إلى حد ما. فأعلنت تركيا تعليق العمليات العسكرية "مؤقتًا" لمدة 120 ساعة، وتطالب القوات الكردية بالانسحاب من "المنطقة الآمنة" التي حددتها.
العداء بين السلطات التركية والأكراد الذي يصل حد الاشتباك المسلح ليس مفاجئا، فطوال عقود، ظل الصراع قائمًا بينهما، حيث تم إبعاد الجزء الذي يسكن تركيا إلى مناطق بعيدة عن مدنهم وقراهم، وتغيير أسمائها، وحظر استخدام اللغة الكردية. والآن تعتبر السلطات التركية أن وحدات حماية الشعب الكردي السورية "تنظيم إرهابي".
لكن لم تستطع زهرة "تعليق قلقها وخوفها مؤقتًا" مثل الهجوم.
عليها وأسرتها أن يدبروا أمور حياتهم. فاشتروا احتياجاتهم بكميات تكفيهم خلال هذه الأيام، التي يعرفون أن في مثلها تُغلق أغلب المحال، عدا "دكاكين" صغيرة. كما أن مدينتهم الآن صارت مقصدا لآلاف النازحين الذين يفترشون مدارسها.
ولأول مرة يخطر على بال زهر ة وأسرتها أن يتركوا سوريا تمامًا، ويرحلوا إلى "إقليم كردستان بالعراق" إذا لم تستقر الأوضاع وعاد الهجوم عليهم مرة أخرى. ووقتها ستخالف ما أوصى به أبوها والتزموا به طوال سنوات الحرب.
اليوم الثاني
تجلس هذه العائلة – كغيرها من العائلات السورية كردية كانت أم لا – تحسب ما بين خطر أقل وخطر أكبر: إن بقوا يخشون عودة الهجوم، وإن رحلوا فوقتها سيحتاجون إلى سماسرة ينقلون الفرد منهم مقابل 4000 دولار من القامشلي إلى مناطق الأكراد بالعراق عن طريق "غير شرعي". تعرف زهرة ممن سبقوهم أنه بإمكانهم هناك الحصول على بيت وربما على معونة أيضًا.
لكنه من المعبر "غير الآمن" وحتى مقصدهم، فسيحتاج الأمر منهم أن يسيروا على أقدامهم بضعة كيلو مترات.
اليوم الثالث
انقطع التواصل مع زهرة بعد ذلك دون أن تحدد وجهتها، ثم عادت مرة أخرى بعد تسع ساعات لتقول إنها في قرية سورية قريبة على الحدود مع العراق.
تعاود زهرة النزوح الذي جعلته الظروف مألوفًا لها، لكن والدتها التي نزحت لأول مرة في حياتها من بيتها بالقامشلي لم تكن تألفه مثلها.
غادرت زهرة ووالدتها وبناتها، وأخوها وزوجته وأبناؤه، بينما بقي والدها بمدينته متمسكا بالمبدأ ذاته.
قطعت سيارة أخيها التي يستقلونها طريقًا شبه صحراوي متعرجاً، صادفوا عليه نقاطاً أمنية لقوات سوريا الديموقراطية "قسد"، رحبت بهم فقط، حتى لمحت إحداها حقائبهم الكثيرة التي تشير إلى هروبهم.
كانت ساعة ونصف تقريبًا التي تفصل هذه القرية الحدودية عن القامشلي، لكنها بمثابة 90 دقيقة لا نهائية على زهرة، ظلت خلالها تتظاهر أمام بناتها بغير الحقيقة حتى لا يخفن، كانت الكبيرتان تظنان أنهما في رحلة حتى أنهما كانتا ستجلبان معهما كتبا وأدوات الرسم وأقلاماً، قبل أن تمنعهما أمهما.
وصلت زهرة وأسرتها إلى بيت صديق لهم بالقرية، كانت مرهقة ومشتتة، لكن برأسها خيارين لا ثالث لهما بعد انتهاء مهلة وقف القتال اليوم التالي: إذا عاد الهجوم ستتجه وأسرتها نحو العراق، تلتقي أحد السماسرة، الذي سيحصل منها على 300 دولار لكل منهم ليساعدهم في عبور ذلك المعبر "غير الشرعي" ويسلمهم إلى قوات البشمركة (المقاتلين الكرد) على الجانب الآخر، أما إذا نجح الاتفاق ووقف الهجوم، فستعود إلى بيتها.
هذه القرية الصغيرة - بحسب وصف زهرة لها - هي إحدى المناطق التابعة لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية، بها 20 بيتا تقريبًا، جميعهم من السوريين، وأغلبهم كبار بالعمر بعد أن سافر الشباب إلى أوروبا وكردستان هربًا. كما أن بها سيارات وبضعة أفران ودكاكين للخضرة تكفي ساكنيها.
قد حان وقت النوم في القرية عند الثانية عشرة صباحا لأنه موعد غلق مولد الكهرباء الذي يغطي بيوت القرية القليلة، فمنذ بدء الحرب ليس هناك تيار كهربائي.
الكل في البيت نائم عدا زهرة. جلست وحدها بالظلام وسط حقائبهم المتناثرة، تغالب قلقها لكنها لم تستطع.
اليوم الرابع
تقصد زهرة لقاء الرئيس التركي والرئيس الروسي، الذي عقد في روسيا لمناقشة العمل العسكري ضد الأكراد شمال شرق سوريا.
وبعد أكثر من ست ساعات، ظل الخوف يقبض على صدر ها في انتظار بضع كلمات ستحدد وجهتهم ومصيرهم؛ خرج الاتفاق الجديد ليعلن استمرار وقف القتال، ومنح المقاتلين الأكراد وقتًا إضافيًا لمغادرة المنطقة الحدودية، والانسحاب بعمق 30 كيلو متراً.
اطمأنت زهرة قليلا، دارت مناقشات متوجسة بينها وبين أهلها، حتى قرروا العودة منتصف الليل، ووصلوا إلى دارهم عند الثانية من صباح 23 أكتوبر.
اليوم الخامس
تشرق الشمس وتنشر أشعتها على الشمال السوري، فتكشف دمارا، بيوتا خالية من أصحابها، ووجوها حزينة على من راحوا مؤخرًا ولحقوا بغيرهم.
في الصباح الأول لهم بالبيت، كانت الأجواء خريفية والأمور هادئة نسبيًا، حاولت زهرة استدراج شعورها بالأمان لكنه كان لقاء ملتبسا بمدينتها، ظلت تفكر خلاله: متى سينتهي كل ذلك؟ متى سنفيق كل يوم مطمئنين، ولا يكسر هدوءنا ذلك الخبر الذي سمعناه للتو!
تستعد زهرة لحضور مراسم دفن أشخاص من ضحايا الهجوم التركي في مدينة رأس العين، لكن المراسم ستقام في اليوم التالي بالقامشلي بعد أن صارت رأس العين خالية من قوات سوريا الديموقراطية، وينتشر بها قوات تركية بموجب الاتفاق الأخير.
اليوم السادس
رغم أن الحياة أعطتها الكثير من التراجيديا وانتزعت منها أمانها إلا أن زهرة تنظر إلى رحلتها بفخر شديد تقول إنها استمدته من شعورها تجاه "شعبها الكردي" الذي ينتصر دومًا على معاناته. لكنها ستظل تتذكر كل يوم تلك اللحظات الهادئة والقاسية والفوضوية التي مرت بها، والتي حصرت أحلامها الآن في أن تكون فقط آمنة هي وبناتها.
اعتمدت القصة على محادثات مع زهرة عبر تطبيق "واتس آب"