لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"عملية سرية".. رحلة تصميم "فلوس مصر" من الأجانب إلى المصريين

02:39 م الخميس 14 يوليو 2022

- مارينا ميلاد:

- إنفوجرافيك:مايكل عادل

مصر الستينيات. فَاقت من عدوان ثلاثي، أمّمت مؤسساتها، بنت سدًا، وأُبليت بـ"نكسة". سنوات ضبابية وهامة وفاصلة. وفي خضم أحداثها؛ كان فريق مصريا يجتمع داخل مبنى حكومي حديثاً بجوار أهرامات الجيزة.. يحاولون فصل أنفسهم عن كل ما يدور خارجه؛ ليضعوا تصورًا عن الشكل الجديد للجنيه المصري.

هؤلاء الرجال هم أوائل المصريين الذين عملوا في مجال تصميم وطباعة العملات الورقية بصحبة فريق ألماني. وباتوا يعرفون أسرارًا سيطر عليها الأجانب لزمن طويل. وذلك المبنى هو أول دار لطباعة البنكنوت تابع للبنك المركزى، ومن أقدم دور طباعة النقد في الشرق الأوسط.

بعد نحو 55 عامًا؛ يخطو البنك المركزي المصري خطوة جديدة ويطرح أول ورقة نقدية بلاستيكية لفئة الـ10 جنيهات من خام "البوليمر"، لكنها طُبعت بدار طباعة حديثة بالعاصمة الإدارية وليس الدار القديمة، وصممتها شركة بريطانية وليست يد مصرية.

بين الزمنين، يتداول الناس العملات دون أن يدركوا غير قيمتها وماذا يمكن أن تشتري لهم؟.. لكن الورقة الواحدة المنكمشة بين أيديهم تحمل معها تفاصيلها ورحلة طويلة.

صورة 2

عندما كان يجلس ذلك الفريق ليكون تصوره عن "جنيه الستينيات" الصادر أواخر عام 1968، اختاروا جامع السلطان الأشرف قايتباي (1472م) بمنطقة صحراء المماليك المعروفة بـ"المقابر". فمجموعة السلطان قايتباي هي واحدة من "أروع المنشآت المعمارية الإسلامية التي تمثل عظمة الدولة المملوكية في مصر"- حسب وصف وزارة الآثار لها.

بحسب صابر عويضه، مدير إدارة الطباعة بدار طباعة أوراق النقد سابقًا؛ "كان مصمم يدعى عباس الشيخ من الجيل الأول الذي عمل في المجال.. وكانت مُهمته اختيار العناصر الخاصة بالتصميم، على أن يتم التصميم والمراحل التالية في الخارج"، مشيرًا إلى أنه جرى العُرف اختيار عنصر إسلامي على وجه وفرعوني على الوجه الأخر.

تَفنن "الشيخ" في اختيار الأماكن، لا بشهرتها إنما بأهميتها وطرازها المعماري - وفقا لعويضه. وربما كان هذا الفكر الذي درسه في مدرسة الفنون التطبيقية العليا، وانتقل به إلى مصلحة المساحة؛ حيث عمل مصممًا، ثم أطلق سراحه تمامًا بدار طباعة البنكنوت.

عباس الشيخ

قبل تلك الفترة بسنوات؛ كان قد اكتمل "تَمصير" الجنيه بعد إصدار قرار جمهوري عام 1960 بإنشاء البنك المركزي المصري ومنحه حق إصدار أوراق النقد بدلا من البنك الأهلي - بحسب موقع رئاسة الجمهورية؛ ليظهر أول إصداراته بعدها بعامين لجنيه بعلامة النسر المائية ومرسوم على وجهه صورة الملك توت عنخ آمون.

صورة 3

إلا أنه ورغم ذلك؛ ظل تصميم العملات واقعًا في يد أجانب موجودين في مصر؛ وفقًا لحوار نادر لعباس الشيخ مع صحيفة البيان الإماراتية عام 2000. يقول خلاله: "اكتشفنا أننا تحررنا من سيطرة المستعمر الإنجليزي، لكننا لم نتخلص من سيطرة إنجلترا على قطاع حيوي للغاية.. فهم لا يسمحون لأحد من المصريين بالاطلاع على عملهم أو التعرف على أسرار المهنة".

لذا قررت الحكومة المصرية تأسيس دار لطباعة نقودها عام 1967، ثم أسندت مهمة إدارتها لشركة ألمانية - وفقا لحوار "الشيخ" وحديث صابر عويضه.

بدأت رحلة "الشيخ" في هذا العالم بعد أن أنهى دراسته حول تصميم النقود بأحد معاهد مدينة ميونخ الألمانية ضمن بعثة.. فيحكي في حواره أن أول ورقة مالية نفذها كانت من فئة الخمسة وعشرين قرشًا، ثم الجنيه، ثم الخمسة، ثم العشرة، وأن الوجه الواحد لكل عملة يستغرق منه ثلاثة شهور كاملة. فكلما ارتفعت القيمة، زاد الوقت لتكون مؤمنة أكثر.

كما أن خليط الألوان المستخدم في تصميم كل عملة هو واحد من الأسرار لمنع التزوير.. فيشرح "الشيخ" أن اللون الأخضر على سبيل المثال؛ وهو اللون الذي يتكون من خلط اللونين الأصفر والأزرق بنسب معينة، يختلف من فئة الجنيه عنه في فئة الخمسة جنيهات، وهناك نسب خاصة من كل لون بموازين حساسة جدًا.

صورة 4

في تلك العملية الدقيقة؛ لا يطلع العمال على ما هو أكبر من دورهم؛ بينما كان "الشيخ" - حسب وصفه لنفسه بالحوار - "المايسترو الذي يعرف سر اللعبة كلها".

مرت سنوات "سعت فيها مصر لجعل صناعة عملتها محلية بالكامل" -حسب عويضه، الذي بدأ عمله بالدار في تلك المرحلة عام 1981.

فبعد أن كانت الدار تنتج القوالب المجمعة بالخارج وتستنسخ لوحات الطباعة منها، بدأت عام 1983 بإنتاج قالب الوحدة الواحدة من الخارج وتجميعه وإنتاج القالب المجمع واستنساخ اللوحات منهم والطباعة داخل الدار- وفقا لما يذكره موقع البنك المركزي.

جيل أخر جاء بعد "الشيخ". كان منه المصمم صابر سعيدة، الذي شارك في "التحول" الذي وقع عام 1993.. ففي ذلك العام؛ أنتجت الدار أول عملة مصرية من التصميم حتى الطباعة، وهى فئة الـ50 جنيها، التي يحمل وجهها مسجد أبو حريبة بحى الدرب الأحمر.

EGP_50_Pounds_Dec_2001_(Front)

بلغ "الشيخ" السن القانونية وتقاعد، ليتفرغ للرسم وعَمل التذكارات وتدريب جيل جديد من كلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان على هذه الحِرفة. كان بينهم جورج نوبار، الذي أصبح أستاذًا للمادة وعميدًا للكلية نفسها فيما بعد.

يرى "نوبار" كم أنه محظوظ لأنه عاصر"الشيخ" في سنواته الأخيرة.. يتذكر فيها أنه وفريقاً تولوا طباعة مشروع قام فيه أستاذه بتحويل آيات قرآنية لصور مُعبرة عنها وبداخلها الآية. ورغم مرور سنوات طويلة؛ لا يزال يتحدث بانبهار عن مشروع سبق زمنه كثيرًا.

كذلك فيما يخص تصميم العُملات؛ حيث عَلمه أستاذه أن الكمبيوتر الذي بدأ استخدامه آنذاك، وما ستذهب إليه التكنولوجيا لاحقاً لا يمكن أن يغني عن التدخل البشري ولمسة المصمم؛ فالأمر مثل الخطوط المكتوبة باليد والتي يَصعُب تزويرها.

يقول "نوبار": "كان عباس الشيخ أسطورة في ذلك.. وحتى الآن نحن نسير على فكرته".

أصبح "نوبار" عضوًا في إحدى لجان دار طباعة أوراق النقد، الذي عَمل فيها أستاذه في السابق. يتولى مسؤولية اختيار الخامات المستوردة والعلامات المائية المناسبة للعملات كالعشرة جنيهات الجديدة المُصنعة من رقائق معدنية (هولوجرام وكينجرام)، والتي تحتوي على أحدث تقنيات الصفات التأمينية.

ينظر "نوبار" إلى صناعة العملة باعتبارها "عملية سرية كبيرة" بها الكثير لا يمكن الإفصاح عنه، ويمكن تلخيصها في خمس مراحل: "تصميم، خامات وعلامة مائية، أحبار، طباعة، وتشطيب".. جميعها يَصحبها لفظ "مؤمَّن".

لجنة "نوبار" تختلف عن لجنة أخرى تختص بالتصميم واختيار العناصر المناسبة له، والتي استقرت في الإصدار الأخير للعشرة جنيهات على مسجد الفتاح العليم بالعاصمة الإدارية على وجه العملة، ومزج تمثال الملكة حتشبسوت والهرم الأكبر ومكتبة الإسكندرية على ظهرها.

يذكر البنك المركزي أن "هذه العناصر تم اختيارها بدقة لتعبر عن الإرادة المصرية في التحول إلى بناء عصر يمثل الجمهورية الجديدة مع الحفاظ على الحضارة الفرعونية والتراث الإسلامي".

يؤمن "نوبار" بأن أهم شئ في أي تصميم هو التعبير عن الهوية والروح. لذا لا مشكلة في الجمع بين أماكن حديثة وقديمة في رأيه.

مسألة الهوية هي نفسها التي جعلته لا يتفق مع الآراء المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، والتي تجمع على أن العشرة جنيهات تتشابه مع الجنيه الإسترليني. فبحسب "نوبار"؛ قد تتشابه في المقاس واللون لكن الهوية مختلفة تمامًا.

صورة 5

تصميم العشرة جنيهات الجديدة والجنية الإسترليني كلاهما يخصّ الشركة البريطانية (De La Rue)، التي تأسست منذ نحو 200 عام وتُعرف نفسها بأنها تدعم الحكومات والمنظمات عالميًا وتوفر الأوراق النقدية بخام البوليمر الآمن - حسب موقعها الرسمي.

لم يعتبر "نوبار" إسناد مهمة التصميم لشركة بريطانية "تقليلاً من المصممين المصريين". فيقول: "لدينا مصممون رائعون من كليات الفنون التطبيقية، صمموا العملات السابقة.. لكن هذه المرة لها خصوصيتها لأنها أول عملة بلاستيكية بخام البوليمر".

هكذا تنظر ميسون عبده، العميدة الحالية لكلية فنون تطبيقية (جامعة حلوان)، إلى الأمر، فتشير إلى أن "طريقة التنفيذ والإنتاج تتحكم في التصميم".

تواصلنا مع الشركة للحديث أكثر عن تصميمها، ولم تجب حتى اللحظة. لكن موقعها الرسمي نقل عن روث يولينغ، المديرة التنفيذية والعضو المنتدب، قولها "إنها لحظة فخر لشركتنا أن نكون قادرين على دعم البنك المركزي المصري بتسليم أول ورقة نقدية من البوليمر".

وتتميز تلك النقود البلاستيكية بالمرونة والقوة وعدم تأثرها بالمياه، لتكون بذلك أكثر تحملا وأطول عمرًا، كما يمكن إعادة تدويرها بنهاية صلاحيتها.

فئات جديدة من العملات في الطريق. يرى "نوبار"، الذي ينهي حاليًا كتابه عن الطباعة المؤمنة، أن إنتاج عملة واحدة يستحق أن يبذل لأجله كل الوقت والاهتمام؛ ويقول: "العملة أول شيء يقابله السائح حين يأتي؛ فهو وجهة لمصر".. القول نفسه؛ خَتم به أستاذه (عباس الشيخ) حواره وهو "أن عملة البلد هي واجهته أمام العالم".

اقرأ أيضًا:

"إحنا المرسومين على الجنيه".. مدينة الموتى تعود إلى الحياة (قصة مصورة)

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان