حُبًا في الصغار.. دادة "أم وفاء" رفيقة التلاميذ رغم الستين (صور)
كتابة وتصوير- شروق غنيم:
يحفظ الجميع وقع خطواتها، في السادسة ونصف صباحًا تصل سنية علي إلى أبواب المدرسة، يُحييها المدرسون بحماس، يستقبلها الأطفال في بهجة "دادة أم وفاء جت".اعتاد الصغار أن يبدأ يومهم من خلالها، تفتح غرفتها التي تعج بالحلوى وتوزعها عليهم، تتعامل برفق معهم، ترى في أعينهما أحفادها وصغيرتها الراحلة، فيبادلونها المعاملة كما أنها والدتهما التي تحضر معها اليوم الدراسي.
قبل عامين وصلت "أم وفاء" إلى المدرسة ولأول مرة تحمل بداخلها ثِقل، تتحضر لاتخاذ قرارًا هامًا. أتمت السيدة عامها الستين ووصلت إلى سن التقاعد، لكن قلبها لايزال ينبض بالحيوية طالما برفقة الصغار، أوجعتها فكرة الرحيل، تدبرت أمرها وأخذت قرار بعدم فراق المدرسة مادام الحياة تدب بداخل جسدها وإن كان واهنًا بحُكم السن وحادثة سير ترك أثرًا على ذراعها الأيمن للأبد.
دخلت السيدة الستينية إلى مكتب سمرة مديرة المدرسة، وجدت في انتظارها مفاجأة لم تكن على البال؛ طلاب ومعلمون مجتمعون، الكل يبتسم بحفاوة في حفل تكريم نظموه لـ"دادة أم وفاء". رقص قلب سنية من البهجة، شعرت بتقدير لا مثيل له، دفعها للتمسك بقرارها أكثر "عملوا لي حفلة متعملتليش في فرحي"، تضحك إذ تتذكر ذلك اليوم "كانوا جايبين لي هدايا وحاجات حلوة.. قولت لأستاذة سمرة أنا مش عايزة أمشي".
في تلك اللحظة، جرت أحداث حياة السيدة الستينية أمام عينيها، تتذكر حينما منحها القدر أجمل هدايا العُمر؛ ثلاثة بنات يهونن من أعباء الحياة، ابتسامتهن تمحي أي يوم صعب، قررت ألا تبخل بأي مجهود من أجل توفير حياة أفضل لهن "وأهم حاجة يتعلموا ويبقوا حاجة كبيرة".
لم تعرف سنية طريقًا للمدرسة في صغرها "للأسف متعلمتش أبدًا"، انفصل والداها وكل منهما ارتبط بأخر "كنت لوحدي وقررت اشتغل لحد ما أجهز نفسي عشان أتجوز ويبقى لي عيلة".
في منطقة الجُديدة بمحافظة الشرقية حيث تقطن أم وفاء، لم يكن مُعتادًا ذهاب الفتيات إلى المدارس قديمًا "بس أنا كان نفسي أتعلم"، لذا عقدت العزم بينها ونفسها بذل كل ما في وسعها من أجل فتياتها الثلاث في رحلة التعليم.
بفارغ الصبر كانت تنتظر سنية يوم دخول ابنتها الأكبر إلى المدرسة، وبينما اقترب ذلك اليوم، حصل ما لم يكن في الحُسبان. تسرد "دادة أم وفاء" الحدث بحُزن؛ في التاسع من شهر رمضان قبل نحو 35 عامًا، خرجت بينما تحمل على رأسها القمح للذهاب إلى أحد الأفران لطحنه "كنت بعدي الطريق وفجأة خبطتني تريلا كبيرة".
كان الحادث مدويًا في أرجاء الجُديدة، فُجعت أسرتها وجيرانها حينما علموا أنه تسبب في بتر ذراعها الأيمن "العيال كانوا لسة صغيرين وكنت خايفة ده يقصر عليهم بأي شكل".لكن مع الوقت زادها الأمر إصرارًا "لما كنت بقعد في البيت بضايق على حالي، فقررت أطلع اشتغل عشان أساعد عيالي وأخرج نفسي من الحالة دي".
انضمت سنية إلى طاقم عمل مدرسة الشهيد حمدي، إذ تبعد عنها قرابة نصف ساعة بالمواصلات "دخلت ضمن عمل الـ5% المُعاقين".سعادة بالغة حلّت على سنية، إذ حلمها القديم بدخول المدرسة قد تحقق حتى وإن كان بشكل مختلف.
في الثالثة صباحًا تستيقظ، تُعد أعمالها المنزلية ثم تنطلق في السادسة صباحًا إلى جنتها الجديدة "الطلبة اتعودوا ييجوا يلاقوني قدام منهم، والأستاذة لو مجيتش بيسألوا هي فين أم وفاء"، استردت سنية عافيتها وطاقتها، رُزقت بفتاة جديدة "نوال جت زي ما تكون هدية من ربنا، كنت فرحانة بيها قوي".
حينما صارت في السادسة من عُمرها ألحقتها بالمدرسة نفسها التي تعمل بها، صارت تحت أعينها طوال الوقت، يذهبان ويعودان للمنزل سويًا، لم يفترقا طوال تلك المُدة، تنظر لها وفاء بحنان وكأنما ترى نفسها تحقق أمنية الذهاب للمدرسة "كانت حتة من روحي".
لكن الهدية لم يكن مُقدرًا لها الاستمرار طويلًا، استأذنت سنية بعدم الحضور لليوم الدراسي المُقبل، قررت السفر إلى منيا القمح للحصول على قرض من البنك لبناء غرفتين جدد تسع البنات، وحين عادت سمعت عن الخبر "نوال هي وصاحبتها هناء وهما راجعين من المدرسة بيعدوا على سكة القطر، حصل حادثة والقطر خبطهم.. الاثنين كانوا صحاب وفي فصل واحد وماتوا سوا".
كان الحادث قاسيًا، انغمست سنية في حزنها، صار من الصعب العودة لطريق المدرسة من جديد دون أيدي نوال "بس افتكرت أد إيه كانت بتحب المدرسة، بعد أسبوع رجعت تاني للشغل". ضحكات الأطفال وحُبهم لدادة أم وفاء كان كافيًا ليسند حُزنها "كنت بشوف فيهم نوال بنتي".
بأيد واحدة تعمل الدادة أم وفاء، وبها استطاعت الوصول ببناتها الثلاثة إلى بر الأمان "هبة دخلت كلية تربية عام قسم فرنساوي، وبتشتغل مُدرسة، ووفاء مُدرِسة تعليم أساسي، وولاء دبلوم تجارة".تفتخر بما وصلت به "فضلت الأيام تخبط فيا ونخبط فيها، لحد ما كبروا واتعلموا وجوزتهم".
حين كان يمس التعب نفس سنية "كنت بفتكر أد إيه البنات شاطرة، فكنت بكافح عشانهم.. اشتغل أو أعمل المستحيل طالما يتعلموا أنا ببقى مبسوطة، نجاحهم هو مستقبلي كله"، ترى سنية الفخر أيضًا في أعين بناتها الثلاثة "هما مدرسات وبيتباهوا بيا وبالشغل بتاعي، شافوا أنا تعبت عشانهم أد إيه عشانهم".
أجيال مختلفة تعاقبت على المدرسة بينما "دادة أم وفاء" تستقبلهم بحب وتمنحهم كل ما في طاقتها "وليا 3 من أحفادي هنا في المدرسة، بقولهم متفكروش عشان ستكوا بتشتغل هنا تدلعوا، بحب لما العيل يعتمد على نفسه".
في كل صباح تتحمس "أم وفاء" للذهاب إلى المدرسة، برغم تجاوزها سن التقاعد إلا أن المكان صار جزءًا منها " ممكن بليل مبقاش عارفة أنام من التعب بس الصبح بحس كأن التعب طار من جسمي، عشان أجري على أكل عيشي وأبقى وسط العيال"، تستمد عافيتها من بهجة الأطفال حولها، حين تصل تترك على أبواب المدرسة أي تعب أو حزن، تندمج وسط الصغار، ترى فيهما نوال ابنتها "ببقى عايزاهم يتبسطوا ويحسوا يوم المدرسة جميل زي ما كنت أحبه يعدي على بنتي".
فيديو قد يعجبك: