منصورة عز الدين: الولادة أعادت تعريف الجسد والعالم بالنسبة لي والأمومة تُلهمني للكتابة (حوار)
حوار- هبة خميس:
منذ روايتها الأولى "متاهة مريم" الصادرة عام 2004 لفتت الأنظار تجاهها، لعملها الثاني "وراء الفردوس" التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2010 والتي تحكي عن رحلة بطلتها لاكتشاف ماضيها وعلاقتها بالريف الذي ولدت فيه. ومنذ بدايتها حتى الآن استطاعت منصورة عز الدين حجز مكانتها كواحدة من أهم الكاتبات العرب، حصدت الكثير من الجوائز الأدبية وترجمت معظم أعمالها للكثير من اللغات.
صدر لها العديد من الأعمال أشهرهم رواية "جبل الزمرد" 2014 ، "أخيلة الظل" 2017 وكتاب في أدب الرحلات بعنوان "خطوات في شنغهاي" حصد جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات، كما صدر لها عام 2020 رواية "بساتين البصرة" التي رشحت لجائزة البوكر العربية نفس العام، ومؤخراً صدر لها رواية "أطلس الخفاء".
حاور مصراوي الكاتبة "منصورة عز الدين حول ثنائية الكتابة والأمومة في حياتها، كما وقف معها على أبرز لمحات كتابتها وحبها لأدب الرحلات وروايتها "أطلس الخفاء" الصادرة حديثاً عن دار الشروق 2022.
الكتابة عملية شاقة وكذلك الأمومة.. كيف استطعتِ التوفيق بين الاثنين في ظل عملك أيضاً كصحفية بأخبار الأدب؟
الفكرة بالنسبة لي تكمن في ترتيب الأولويات والاستغناء عن كل ما يمكن الاستغناء عنه لتوفير الوقت لما هو أهم. اختبرت الأمومة بكل تفاصيلها بمفردي تمامًا، واعتدت أنا وزوجي تقسيم الأدوار والمهام بيننا، وسهّل من هذا أنه روائي وصحفي هو الآخر، وبالتالي يدرك طبيعة عملي واحتياجاته، لكن هناك فترة مدتها أربع سنوات قضيتها مع ابنتي الكبرى وحدنا بسبب إقامته خلالها خارج مصر. ولهذا كان عليّ إن أردت مواصلة الكتابة الإبداعية توفير الوقت لها بالتخلي عن حضور أي أنشطة أو فعاليات ثقافية إلّا في أضيق الحدود، وتقليص تعاملاتي الاجتماعية والتزاماتي العائلية الأوسع لأقل حد ممكن.
اعتذرت أيضًا عن إقامات أدبية وسفريات طويلة عديدة لأن ظروفي لم تكن تسمح بهذا، وحين كبرت ابنتي الأولى نسبيًا وأنجبت طفلي الثاني، امتنعت عن السفر لخمس سنوات تقريبًا. كل ما كان يشغلني هو الموازنة بين دوري كأم وبين رغبتي في مواصلة الكتابة، لأن هذين الأمرين على رأس أولوياتي، الصحافة بالنسبة لي عمل، وقد تركتها لثلاث سنوات، في الفترة من أغسطس 2011 حتى أغسطس 2014 بهدف التفرغ للكتابة ورعاية ابني وابنتي.
حين أستعيد سنواتي الأولى كأم، تبدو لي كما لو كانت مرهقة، لكنني لم أشعر بهذا وقتها، لم أنظر للأمر باعتباره تحديًا أو تضحية، كان طبيعيًا للغاية بالنسبة لي، بل كنت مستمتعة بفكرة أنني أفعل شيئًا أحبه وهو الكتابة، التي ما زلت أتعامل معها بروح الهواية، هذا بخلاف رغبتي في الاهتمام بطفلتي على أفضل نحو ممكن.
في رواية متاهة مريم هناك تماس مع فكرة الحمل والأمومة، كيف أثرت عليك تجربة الحمل والأمومة في عملية الكتابة نفسها؟
طوال حياتي كنت متفوقة في دراستي. لم يكن مطلوباً مني سوى المذاكرة والتفوق، لكنني حين صرت مسؤولة عن طفلة خرجت من منطقة الراحة الخاصة بي ومن ذاتيتي، تجربة الحمل على المستوى البيولوجي تُحدِث تغييرًا كبيرًا في النفس وتعيد تعريف العلاقة بالجسد وبالعالم، فالجسد الذي نعرفه يصبح مصدرًا للتهديد على نحو ما كما أنه يمعن في تحوله إلى جسد وظيفي متحول بتسارع قد نعجز عن التواؤم معه.
من الصعب المرور بتجربة مماثلة دون استلهامها إبداعيًا، وقد عبرت عنها في رواية "متاهة مريم" من خلال شخصية نرجس وعلاقتها المرتبكة بجسدها وبابنتها وبمفهوم الأمومة ككل. الطريف أنني أكملت كتابة "متاهة مريم" وأنا أحمل ابنتي على كتفي أو في الوقت المستقطع بين أوقات نومها ونوبات بكائها. في تلك الفترة لم أكن معتادة بعد على الكتابة بانتظام، وكنت أتوقف عن الرواية لفترات طويلة، ثم أعود إليها. "متاهة مريم" مثلًا استغرقت فيها قرابة الخمس سنوات وكذلك "وراء الفردوس" رغم أن وقت الكتابة الفعلي كان أقل من هذا بكثير.
في روايتك "أخيلة الظل" إهداء خاص لابنك كريم.. كيف ألهمك لكتابة تلك الجُملة له؟
أهديته تلك الرواية لأنه كان مصدر إلهام في رسم تفاصيل بعض شخصياتها كما يمكن تلمس هذا من فحوى الإهداء. خيال الأطفال خصب ومدهش، فكان يتفوه بجمل معينة تلهمني لرسم شخصية فنية ما أو لتطوير فكرة ما. حين نكبر قد نفقد قدرتنا على الدهشة، لكن الحياة بالقرب من طفل والانفتاح على طريقته الطازجة في رؤية العالم من حوله تعيدنا للدهشة ثانية، وهي من أهم متطلبات الإبداع.
هل محاولة المواءمة بين الأمومة والكتابة أمرا يحدث لكل السيدات اللاتي يكتبن.. أم هي خاصة بالمجتمع العربي حيث الأم تحمل معظم أعباء الأمومة؟
التجارب متشابهة جدًا، ولو سألتِ كاتبات أخريات عن تجاربهن في هذا الصدد، ستجدين الكثير من المشتركات، ويشمل هذا الكاتبات من ثقافات أخرى أيضًا. حكت الكاتبة "توني موريسون" مثلًا أنها كتبت روايتها الأولى على طاولة المطبخ قبل استيقاظ أطفالها من النوم.
التقيت بكاتبات من جنسيات مختلفة، وبالحديث معهن اكتشف وجود تشابهات كثيرة، سواء على مستوى الالتزامات والمسؤوليات أو مستوى ردود أفعال المحيطين بهن ونوعية الأسئلة التي تُوجه لهن ولا تُوجه للكتاب الرجال. صحيح أن هناك بعض الاختلافات، لكن المتشابهات أكثر.
منذ فترة قصيرة انتشر مقطعاً مصوراً لابنتك نادين ياسر ابنتك وهي تقرأ قصة من تأليفها أمام جمهور.. فهل تتبع نادين نفس مسار والدتها؟
لا أعرف إن كانت تنوي مواصلة الكتابة أم لا! هي مشغولة حاليًا بدراستها الجامعية، ما أعرفه أن نشأتها في بيت أدبي دفعتها للقراءة في سن مبكرة لأنها وجدتني أنا وأبيها نقرأ باستمرار ونكتب ونتناقش حول الأدب، فأصبح هذا جزءً من عالمها. أتذكر أنها كتبت وهي في الصف الرابع الابتدائي قصة تحاكي فيها "أليس في بلاد العجائب" باللغة العربية، ثم توقفت عن الكتابة وإن كانت قد استمرت في القراءة وتغيرت ذائقتها من مرحلة عمرية لأخرى، وكنت أوفر لها كتبًا متنوعة وأتناقش معها في قراءتها، وفي فترة ما بدأت أقرأ ما ينال إعجابها، في حال لم أكن قرأته من قبل، من باب الفضول وللتعرف على ذائقتها.
بعد سنوات تقدمت "نادين" في برنامج للكتابة تابع لجامعة "أيوا" للشباب، وخلال كتابتها للقصة التي ستتقدم بها، لاحظت أنها متوترة ومضغوطة، فأخبرتها أنها ليست مضطرة لضغط نفسها على هذا النحو، وليس عليها أن تكتب إن كانت تجد صعوبة في هذا، ويبدو أن كلماتي حفزتها للكتابة بدلًا من أن تصرفها عنها، وقد أخبرتني بعدها أن لديّ أغرب طريقة للتشجيع. وبالفعل نجحت في المسابقة وسافرت للمشاركة في برنامج الكتابة وهناك كتبت نصوصًا أخرى من بينها النص الذي أشرتِ إليه في سؤالك، والذي قرأته في ندوة عامة.
شاهدت فيديو القراءة على موقع البرنامج على الفيسبوك مثل الآخرين، وكانت لحظة مهمة بالنسبة لي، لأنني رأيتها بصورة مختلفة عن المعتاد.
هل اتجه "كريم" أيضاً للكتابة مثل "نادين"؟
كريم في التاسعة من عمره، ومن السابق لأوانه الحديث عن هذا بالنسبة له. في فترة ما، وتأثرًا بسلسلة قصص يحبها، جرب أن يكتب ما يشبهها، ثم توقف. وهو حريص الآن على التأكيد أن لا علاقة له بالكتابة، وأحيانًا يقترح عليّ مهنًا بديلة. أنا لا أحب أن أفرض عليهما شيئًا، حتى في ما يخص القراءة نفسها. نكتفي أنا وزوجي بتوفير كتب متنوعة لهما من سن مبكرة، وكريم مهتم بمجالات معينة مثل الفلك والديناصورات والتكنولوجيا.
ثمة رحلة دائما في رواياتك، بعضها ذاتي والآخر مكاني.. حدثينا عن ذلك خاصة وأنك فُزتِ بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات؟
هناك أشياء ننتبه إليها في الكتابة بعد وقت، وهذا ما حدث معي؛ كان الترحال موجود منذ البداية ففي "متاهة مريم" هناك انتقال من الريف للقاهرة حتى رحلة البحث عن أصولها، وفي "وراء الفردوس" سلمى رشيد قامت برحلة من القرية للمدينة وعودتها أيضاً.
بعد وقت بدأ الترحال يتخذ شكلًا قوياً في رواياتي بداية من مجموعة "نحو الجنون" وبعدها "جبل الزمرد"، وحينها تكوّن شيء واضح، لاحظت أن ثمة تماس مع "ألف ليلة وليلة" وهي مجموعة رحلات بها الكثير من الجغرافيا المتخيلة وانتقالات في مدن حقيقية مع جغرافيا الوهم والتخيل، فاشتبكت مع هذا النص بطريقتي الخاصة لتصبح الرحلة هي التيمة الأساسية للرواية وكل الشخصيات مرتحلة.
إذًا هل تجدين نفسك في السفر؟
سافرت كثيراً وبدأ ذلك بالصدفة فمعظم أعمالي تترجم إلى لغات أخرى ما يستلزم السفر.
انا أسافر ككاتبة أصور وأكتب الكثير من التفاصيل عن الأماكن بشكل تلقائي لأن الكتابة هي وسيلتي في التواصل، فاعتدت حمل قلم ومفكرة معي في أي مكان، وحينما أرى مكانًا جديدًا لا أدرك أنني سأكتب عنه في أي عمل أو خلال أي تجربة. أتخيل الكاتب مثل النحلة التي تمتص الرحيق، ففي حالة السفر نختزن تلك التفاصيل والمشاهدات لتخرج في الوقت المناسب تماماً. يجب على الكاتب أن يدرب نفسه على الرؤية ليزيل غشاوة الاعتياد.
القرية التي ولدت فيها كتبت عنها أكثر من مرة وفي كل مرة كنت أراها بشكل جديد، وفي إحدى المرات شاهدت مشهداً في النيل لـ"عوامات" فدوّنته من إعجابي بالمشهد، وحينما كنت اكتب رواية "أخيلة الظل" استعدته مع إحدى الشخصيات.
المكان في كتابتي مهم فأعتبره شخصية من الشخصيات ومؤثر بشكل قوي، أنا إنسانة حسية حينما أكتب عن مشهد أحب شم الروائح والألوان وأسمع الأصوات.
بصفتك محبة لأدب الرحلات ما أبرز العناوين التي تفضلينها من كتب أدب الرحلات؟
أحب كتاب مثل "سفر خانة" لناصر خسرو الذي قدم من بلده فارس للحج ليطوف في أماكن كثيرة جداً ويصف تلك الأماكن، أحب كتب الرحالة القديمة لأنها تمكنني من رؤية المكان في أزمان مختلفة ومكتوبة بشكل أدبي فتعبر عن الصورة الذهنية لعصرها.
أثناء كتابة "جبل الزمرد" قرأت في كتب الجغرافيا القديمة ودُهشت حينما وجدت التشابه بينها وبين ألف ليلة وليلة، لكن أكثر كاتب أفضل قراءة أعماله عن المكان هو الألماني "زيبالد" فهو مميز جداً في وصف الأماكن، إذ أشعر كأنه يحفر عميقاً في المكان حيث أرى المكان وشخصياته وتاريخه، أيضاً أحب الكاتب "صبري موسى" في روايته "فساد الأمكنة" حيث هناك طريقة في رسم المشاهد والعلاقات بين عناصر المكان مميزة.
في روايتك الجديدة "أطلس الخفاء" الصادرة حديثاً الشخصية الرئيسية ذكرت في الرواية السابقة "بساتين البصرة"، هل أنت بصدد كتابة ثلاثية روائية؟
بطل رواية "أطلس الخفاء" شخصية ذكرت بشكل عابر في "بساتين البصرة" فكنت أكتبهما بالتوازي، ولا أعلم إذا كانت ستكون ثلاثية أم لا. لكنني حرصت على أن تكون الرواية منفصلة تماماً عن "بساتين البصرة". وارد أن تكون هناك شخصية ثانية أحب العودة لها قريباً.
في روايتك "بساتين البصرة" والتي ترشحت لجائزة البوكر العربية هناك مدينة "البصرة" حاضرة بقوة، هل سافرتي إليها قبل كتابتك الرواية؟
كانت أمامي فرصة للسفر للبصرة لكن الظروف عطلت ذلك، فلم أسافر وكتبت عن البصرة القديمة التي لم تعد تشبه المدينة الآن، ومع الوقت شعرت أنني إذا كنت سافرت كنت سأتكاسل عن استكمال الرواية أو انشغل بالمدينة الحديثة، فكتبت الرواية أثناء إقامة أدبية في شنغهاي ومعي كتاب تفسير الأحلام الذي استلهمت منه فكرة الرواية.
ككاتبة وأم وصحفية صفِ لنا يومك حينما تكوني بصدد العمل على مشروع روائي؟
هناك نوعان من الروتين أولهما حينما أكون في إقامة أدبية مثل آخر إقامة في باريس، فأستيقظ مبكراً من نومي أكتب، ثم أدون مشاهدات اليوم وأحاول التجول في المكان والمشي لساعات، لأعود مساءً أراجع ما كتبته فتسير أيامي على تلك الوتيرة.
في الأيام العادية وبعيداً عن السفر نصحو مبكراً لأوصل "كريم" للمدرسة، ثم أبدأ عملي وأكتب أو أقرأ، وأعود ثانية لاصطحابه من المدرسة ونتناول الغذاء سوياً فزوجي "ياسر عبد الحافظ" حالياً في إقامة أدبية، فأقضي يومي مع ابني "كريم" أنا أكتب وهو بجواري يستذكر دروسه أو يقرأ شيئاً ما.
أحاول الكتابة بإيقاع ثابت لكن في عام 2020 اهتزت تلك الوتيرة لأنني كنت أشاهد العالم ينهار أمامي فلم أعرض نفسي للضغط في الكتابة فهي مازالت تعتبر هواية أمارسها وأستمتع بها، فالكتابة هي طريقتي لفهم العالم والشعور أن ذلك العالم الذي أكتبه هو الواقع بالنسبة لي فهي طريقة عيش وحياة.
فيديو قد يعجبك: